أسفار
خاص ألف
2012-10-02
-1-
"ليس غريباً أن تكون كل هذه العيون الجاحظة محشوة بالبؤس"
السلاسل المعدنية تلتف بالعمود الأفقي، أمام المعلف، وتُثبتها بإحكام أقفال مشبكية، ومن الطرف الآخر تنتهي بأطواق تَعصُر رقاب هذه الكائنات التعيسة، الموزعة على طول صفين طويلين في هنغار مستطيل.
رغبت ناديا بالرحيل، وحاولت جرّ قدميها الُمخشوَشبتان خلف البوابة للهرب، لكن المشهد كان يبتلعها مثل دوامات البحر إلى الأعماق، يَشدها من أطرافها، ويجتذبها كالثقب الأسود نحو الداخل، في الداخل تكمن معظم الأسرار.
حملّقتْ الكائنات المهجنة بالزائرة الُمتطفلة ببلاهة، فيما كانت تطحن بأضراسها العشبَ بلا توقف، وتُصدرُ همهمةً تعبر عن عدم الارتياح والتوجس. لم تستطع الاقتراب قُدماً، فالمكان شبه معتم ومخيف، الرطوبة خانقة، وروائح كريهة مصدرها القاذورات الملتصقة بمؤخراتهم من جهة، ومن الخندق الخلفي الممتلىء بها من جهة أخرى. ورغم الكوات الصغيرة المفتوحة قليلاً للهواء والضوء الخفيف، لا يلبث كلاهما أن يفسدا عند الالتقاء بعتباتها.
صدى قرقعة الجزمات القادمة أجفلت موجودات المكان، وقبعت الكائنات على قوائمها الأربعة تصطك خوفاً، صاح أحدهم بصوت غاضب: الرقم 67 . اتجه حارسان نحو مربطٍ بِعَينه، فكوا الطوق المعدني، وجروا كائناً هزيلاً مضرباً عن طعام الحشائش، واقتادوه إلى المسلخ.
تبعتهم ناديا بحذر شديد ، ومن خلف الألواح الزجاجية تلصصت.
تقدم أحد الحراس لتقييد يدي المحكوم، فعانده الأخير، ولَكَمَ من بدا مسؤولاً بكل قوته وحقده الدفين على صدر السجين، أنَّ متألماً ونظر مباشرة في عيني جلاده وصرخ: "منذ البدء كان علينا أن نبتر يد السجّان".
قُطع رأسه وتدحرج إلى خارج العتبة والباب، خارج الحظيرة، وراء البوابة والأسوار، ركضت ناديا خلف الرأس المجزوز باكية. حملتها سيقانها إلى أراض جديدة واسعة، ظلت تركض حتى تاه الزمان والمكان، وسافرت الروح من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل، حيث لجسد ناديا أن ينتفض ويرتعش، أن ينكمش ويتمدد، أن يهتز ويرتج ويغلي ويتجمد، أن يَسبُت ويستيقظ ليبدأ الإرتحال في بحور ومحيطات، والتوقف للتأمل عند الموانىء.
-2-
فتحت نوافذَ عينيها للضوء، وارتشفت ما يُسكرُ شفتين جائعتين، الاستلقاء والتمدد فوق مرج الأرض أثار في حواسها خدرة لذيذة، أغمضت عينيها هُنيّة، وشعرت لامتداد السماء والأرض من فوق جسدها وتحته، غيابُ نجم ملتحف لجُة الكون.
طَرقٌ مفاجىء أرغمها على فتح عينيها مجدداً على اتساعهما، وأَرجَحها على حوافِ الحلمِ واليقظة، اشتدّ الطَرق وأصبح أكثر الحاحاً، نهضت وجالت ببصرها المكان، ما من بابٍ أو نافذةٍ " أيُّ عبثٍ هذا الطرقُ في فلاة"، السهول أمامها تتماوج في تضاريسها إلى أن تمتزجَ بخط الأفق، مِن خلفها بدا الولوج في غابات كثيفة ضربٌ من الانتحار. الطرق يصمُ الآذان، وشهوة الرسالة المنتظرة تقبع كأفعى ملتفة حول عنقها.
للجسد أن يتعرى، للجبين أن تلوحه الشمس، وللقدمين أن يبتلا بندى العشب.
للروح أن تتعرى، وتنمو شجيرة لِسَقيا الضوء، وهسهسات الريح.
للإنسان العاري، بعد تكشُفِه لذاته، أن ينطلق.
ما بدا عقيم المنال، تهرّش وانقشع، إذ لاح جسرٌ خشبي معلق يفضي إلى ضفةٍ أخرى، ارتقته، فتوقف الطُرق اللعين فجأة. أفزعها النهر الوردي الجاري، أدارت عينيها، لتخطف بصرها خنفسةً ذهبية دلقتْ في حدقتيها كُراتٍ مضيئة، لحقت بها إلى نهايةِ حافةِ سور الجسر، وقرأت ما كان نقشاً محفوراً:
" من جسرٍ عتيق اُنثريه، واسكبي عطرك على وجه النهر، علِّي في تجوالي الطويل أَغتسلُ به".
-3-
على أنقاضِ النقيض، تُنجَز بإتقانٍ شديد أقذرُ المشاهد وأكثرها خسةً ولُؤماً، تَفضحُ في إِتيانها نقائض الباطن، وازدواجيته المفرطة في التعقيد.
الشفتان تقبلان وتبصقان
اليدان تضمان وتذبحان
الجسد يمارس الحب والعهر
والفكرُ بدايةً رَسَمَ كل تلك المشاهد لتُنفذ.
هجست نادية.
الرؤوس المجزوزة تتطاير فوق بعضها البعض كأقواس، وغمائم البارود والصواريخ المتفجرة تجثم ثقلاً فاق الاحتمال فوق صدر المدينة، الناس في الشوارع مغمسون بالدماء والأشلاء، غارقون بصخب الضجيج وهرجه.
بدا للناظر القريب الدوران في متاهات العبث والجنون.
من فوق الأطلال، اتضح لنادية كيف تتحرك الجموع في تشكيلٍ حلزوني، يستحيل معه الرجوع أو العودة إلى نقطة البداية.
08-أيار-2021
08-أيار-2021 | |
16-كانون الثاني-2021 | |
22-آب-2020 | |
14-آذار-2020 | |
16-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |