Alef Logo
كشاف الوراقين
              

"أخبار آخر الهجرات" - فصل من رواية لبرهان الخطيب

خاص ألف

2012-10-08

ظلت مجموعتهم تنتظر توقف مرور الشهب والنيازك وهمود الرعود فوق رؤوسهم فترة طويلة منسفة للصبر بينما هم مسمرون إلى الأرض بضرورة، بلا جدوى النهوض في خلاء لم يعد خلاء.. خلاء ليله أبيض ونهاره أسود.. سطوع فسطوع.. فانتظار ممل آخر كالذي يعانون منه مذ دفعهم الهواء الحديدي المكهرب إلى الأرض فتمددهم تحت خيمة السماء النيلية التي لم تشرق فيها شمس أبدا طيلة تلك الفترة حتى أنهم ظنوا أن الكون بات خلوا من النور أو أنه وصل غايته ومنتهاه فعل هذا الليل الأبدي الأزرق الكامد كوجوههم أبان شبابها الغض أيام القتل الأولى، أما وقد تصرم دهرهم الدهري هذا رتيبا لا يسمعون فيه سوى ضراط الرعود والوعود والمدافع فقد شاخت وجوههم كما قدروا لها ولم يكن في ذلك غرابة فقد انتحلوا هذا التحول إذا ماتوا حقا من رصيدهم في بنك الأحياء، إلاّ أن المسألة بالنسبة لفاضل الفاضل أهون هنا بكثير مما هناك في مدينته فقد تخلص مثلا من عبء المراجعات في دوائر الدولة سعيا وراء تصديق خارطة البناء وطلب إجازة استيراد تيوبات الألوان وإكمال معاملة التقاعد المنشودة، كما وفر لنفسه أيضا عناء الذهاب إلى عيادات أطباء الأسنان.. فهو في رقدته المريحة جدا هنا في العراء صحبة الآخرين لا يحتاج لأي شيء سوى أن تحمل الريح شيئا من نتاناتهم إلى البساتين القريبة، لحظات وتهرع جحافل ذئاب اليهم فلا تململ على كراسي الطبيب ولا دوخة آلات حفر الأسنان ولا آلام القلع بالطبع: آه يا للقسوة حين يتكلم بني آدم عن نفسه وعن أصحابه بهذه الطريقة السوقية، لكن ماذا تبقى بعد ليخجل أحد من أحد؟!..
دع عنك أن فاضل الفاضل تخلص بهذه الطريقة من أضراسه المتسوسة وغيره من قواطعه الأمامية، بيد أن المؤسف أن هؤلاء الاختصاصين ذوي الآذان الطويلة لا يجيدون وضع أسنان بديلة وما يعوض ذلك الفقدان ، وليس في هذا الفقدان أيما خسارة لأنهم شبعوا في الفترة الأخيرة من منظر اللحوم ورائحة الشواء حد التخمة بينما أقرفهم أن يكونوا نباتيين كالدواب فصاروا هوائيين، أي أنهم لا يعتاشون الآونة سوى على الهواء الطلق المملح بطعم الجيف، فأي أسنان بعد ذلك يحتاجون!..
ابتساماتهم الأبدية بوجه السماء أكثر جمالا الآن، ذلك أنها لم تعد تشبه ابتسامات بعض الأحياء الملفقة، أقرب لابتسامات المصابين بالجذام فاقدي الشفاه.. ذكرَ ذلك الممرض متهيبا حين مر بينهم مرة أولى هي الأخيرة إذ أضاف: لكن أنام بين أولئك ولا أكون من هؤلاء. كما أن الذئاب لم تستوف أجورا عالية على أتعابها هنا من فاضل الفاضل وأصحابه، كما أن.. كما أن.. أوه، عالمهم مليء بالامتيازات باختصار، وفاضل الفاضل ينشد صحبة نايه في رقدته صامتا بالطبع: الأجدى الصمت والكتمان.. وإلاّ صار هذا العالم خان جغان.. يدخله المطران والبطران.. ترللم.. ترللم.. ترللم..
بيد أن هذا الضجر من عدم توقف مرور الشهب والنيازك فوق رؤوسهم لم يثقل سوى على فاضل الفاضل وقلائل بدا لمن رآهم هناك وكما تصور هو نفسه قبل أن يكف عن أن يكون نفسه أي قبل أن يكف عن الشعور تماما في لحظات قوله: آه أين أنت يا زينباتي.. فمنطرحو الفصيل الثالث مثلا على ذلك التل القريب إلى حافة المحرقة لم يعودوا يهتمون أبدا بما يدور حولهم، اهتبلوا الفرصة منذ البداية واستغرقوا في نومة طويلة لم ينعموا بها أبدا طيلة سنوات وجود الرب الأرضي في سماء ذاكرتهم، بعضهم يعمل في فريق لدفن الموتى الأصدقاء، ولما حل الصيف وأسبغوا على أولئك وهؤلاء نعمة التمدد في العراء دون غطاء من تراب دفعا للحر والكر والفر قررت نجوم السماء بعد جور نجوم الأرض والأكتاف على القريب والبعيد أن تكافئ هذا الفريق الشاطر بتخصيص مقصورة "لوكس" لهم كما لبعض الفرقاء وفيها للواحد منهم حق اختيار التمدد أيان وأنى طلب ففعل هؤلاء ذلك في الحال خشية المزاحمة بعد حين. ثم أنهم راحوا بعد ذلك يشرفون من مرتفعهم على الميدان ويتطلعون على ما يجرى، ولم تمر سوى لحظات حتى باتوا غير مهتمين بشيء مفضلين تسمير نظراتهم في العلاء أسوة بغيرهم من الراقدين المؤمنين أخيرا بالمساواة إلاّ بسعة الابتسامة وهم في هذا كرماء سمحاء. أما منطرحو فصيل آخر لم يكن فاضل الفاضل ولا غيره قد أفلح في معرفة رقمه بعد فقد تبدوا عن قدر أكبر من الذكاء إذ تحوطوا لما قد ينتابهم من ضجر في الميدان بأن جلبوا معهم مكتبة كاملة معدة خصيصا لهم ولكل المنطرحين أرضا.. "ذكريات من بيت الموتى".. "موتى بلا ذكريات" "موتى بلا قبور".. "قبور بلا موتى".. "الموتى يعودون هذا الأسبوع" "هذا الأسبوع لا يعود الموتى ولا الأحياء".. وغير هذه العناوين هنالك الكثير منها..
محبو المطالعة هؤلاء تلاميذ مدرسة، جاءوا إلى هنا يعدون العدة لامتحان في درس جديد تماما عليهم في هذه القاقة الكبيرة عديمة الجدران والسقف كمعلمهم عديم التعليم والأدب، كلمة "القاقة" اشتقوها بالمناسبة بأنفسهم من الوسط الجديد حولهم تعويضا عن كلمة "قاعة" التي ما عادوا يستعملونها مذ جاءوا إلى هنا، وقد ابتكروا الكلمة الجديدة بعد تمددهم في هذا العراء وسماعهم لأغنية يومية أنشدتها غربان فوق رؤوسهم ومطلعها: قاق.. قيق.. طاق.. طيق..
صدرت الرواية عن دار نوافذ بالقاهرة في خريف 2012

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow