"مذكرات مَن نجا" لدوريس ليسينغ... صراع البقاء هيثم حسين*
2012-11-06
الروائية البريطانية دوريس ليسينغ الفائزة بجائزة نوبل للآداب عام 2007، والمولودة في كرمنشاه في إيران (1919) لوالدين بريطانيين، تقدم في روايتها «مذكرات مَن نجَا» (ترجمة محمد درويش، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت) صوراً من الدمار الذي تخلفه الصراعات المُفجعة في مناطق النزاع والتوتر والحرب.
تحرص ليسينغ على المواءمة بين العالمين الداخلي والخارجي لشخصياتها، يكون كل عالم صدى للآخر وانعكاساً له، يتكامل العالمان في ما بينهما للإبقاء على الأمل والتفاؤل في حياة الشخصيات، وذلك بالتزامن مع تقديم القبائح التي تتخلل العالمين، والتي تقع الشخصيات فريستها، باعتبارها تضطر للاستمرار في مدينة تطوقها الحروب، وتتفشى فيها العصابات التي تروع الناس.
تدور أحداث الرواية في مدينةٍ ما غير محددة، حيث في ظل تقويض أركان السلطة الحاكمة فيها، واستشراء العنف والفقر والجوع، يُؤتَى لامرأة في منتصف العمر بطفلة؛ إيميلي، في الثانية عشرة من عمرها، توكَل إليها مسؤولية تربية الطفلة والعناية بها، لا تتمتع المرأة بترف الاختيار بين القبول والرفض، إذ تبقى الفتاة في بيتها، علاوة على أنها تصطحب كلبها معها، لتجد المرأة نفسها مسؤولة عن الاعتناء بها وبكلبها، وتأمين الطعام لهما، في الوقت الذي يحار الناس في تأمين لقمة تقيهم وأولادهم الجوع الكافر.
تتخطى المرأة عتبة الحيرة، تدخل في التحدي الذي تقبل به، تجاهد لإنقاذ إيميلي من حالتها، تتعاطف معها، تكلمها، تتقرب إليها، لكن الطفلة تبقى على مسافة منها، تتوجس منها تارة وتنسجم معها تارة أخرى. تجد المرأة نفسها في شِراك المسؤولية عن كائنين، تبدأ بالبحث عن سبل لتأمين الطعام لهما، تخوض حرباً حقيقية بأسلحة خاصة داخلية، تتغلب على الظروف القاهرة بإرادتها ورغبتها القوية في الاستمرار والبقاء والمحافظة على المسؤولية، تخرج في بعض الأوقات التي يصعب الخروج فيها بحكم الفوضى العارمة، واتساع رقعة العنف والدمار، واقتناص العصابات لأي شيء أو أي عابر، وتوزع العصابات في مختلف المناطق، بحيث تشكل لنفسها سلطة محلية، ولو كان على شارع، أو حي.
تقع المرأة فريسة عالمين متناقضين، بينما هي تقبع في منزلها، تشاهد البؤس الذي يغرق المدينة، والخراب الذي يجتاحها، تتمعن في التصرفات والممارسات الشائنة، فتنسل بطريقة لا شعورية إلى عالم آخر، تدخل عالم اللاوعي، تغوص في عتمته للتمتع ببعض النور المحلوم به، ويكون الجدار الفاصل بين العالمين معبراً تسلكه للتنقل بين دفتي وعيها ولا وعيها. تكتشف في ذاك العالم خلاصاً آنياً لها، تستقي منه الدروس التي تساعدها على استكشاف الواقع بشكل أكثر دقة، وبالتالي التنبؤ بما يمكن أن تؤول إليه الأحوال.
عالم الواقع يتصف بالسوداوية والأسى والإجرام، يكون صورة الإنسان المتوحش المتكالب على إيذاء نفسه وبني جنسه، ولعب دور سلبي في انتهاك حرمة الطبيعة، وتدمير مقدرات الشعوب، في حين أن عالم اللاوعي، يكون مبعث الأمل والعبَر، تلوذ به المرأة لتكتب وصايا الراحلين والمعاصرين الذين يحتجبون عن الظهور، تسبر عوالمهم، وهي في ذلك تسبر عالمها الداخلي، تناجيهم وتعايشهم، وهناك تتعرف إلى كل ما تجهله أو يُخفَى عنها في الواقع.
الطفلة التي تكون ضحية صراعاتها الداخلية في فترة المراهقة، تكشف عن هوس متناقض بالحياة، تقع في براثن يأس قاتل، تهمل نفسها بشكل مدمر، تختار الانزواء وترتضي العزلة والوحدة، وبعد فترة من الخمول والتجاهل، تعاود الولوج في بحر الحياة، تنضم إلى بعض المجموعات التي تشكل بدورها نواة لعصابات أكبر، تصاحب جيرالد، وهو شاب أكبر منها، يتزعم مجموعة من الشبان، لتشعر بنفسها مؤثرة في سياق ما، تتغير هيئتها، وسلوكياتها، وهي في حالاتها المتغيرة وأطوارها المتبدلة تكون تحت مراقبة صامتة من المرأة التي ترعاها، تلك المراقبة بدورها ترتحل بالمرأة بين عالميها، تعود إلى عالمها الداخلي لتقف على التبدلات التي تجتاح الطفلة، تتعرف إليها في طفولتها، وكيف كانت تُعامَل من قبل ذويها، منقبة عن دوافع الحالات الغريبة التي تتملكها وتقودها. تستقصي في بناء الذاكرة والخيال عن أسرار وخبايا المجتمع، وتكشف كماً كبيراً من الجماليات المغضوض عنها الطرف، والموضوعة قيد التعتيم، بغية إدامة الفوضى والإجرام.
تتوحد المرأة مع الطفلة في كثير من المواقف، كأنها وهي تعكف على كتابة مذكراتها ويومياتها مع الطفلة في المدينة غير المسماة، تمتح من بئر الذاكرة، متخففة من الكوابيس الجاثمة على الصدور، وملقية بذلك نظرة على مستقبل أكثر ترويعاً من حاضرٍ قاهر وماضٍ شهيد. وتلك المذكرات التي تدونها، لا تحصرها في ذاتها فقط، بل تحرص على تصوير المشاهد التي تراها أو تسمع عنها، وذلك بالموازاة مع تصوير الحياة الداخلية للشخصيات التي تكتب عنها. وتبحث عن القوة الكامنة في داخل المرء، لجعلها قوة دافعة بناءة لتخطي الحواجز التي تمنعه من التكيف مع محيطه، أو تخلق لديه العدوانية إزاء الآخرين، مشيرة إلى أن الجهل بالآخر ربما يكون من أسباب معاداته. تُبقي المذكرات مرايا الواقع، تحتفظ بأشد الصور ترويعاً للتذكير الدائم بالمآسي المخلفة. كما تصور نكبة الحب الرومانسي في عالم البشاعة، وكيف أن المجتمع يفرض الكثير من القيود على البراءة، ويبقي المرأة مكبلة في الكثير من الظروف والمراحل.
برغم تصوير ليسينغ لمشاهد الإحباط والتفتت في مذكرات شخصياتها، إلا أنها تُبقي باب الأمل مشرعاً، وتفسح المجال للتفاؤل بالدخول إلى عالمها، بحيث يتداعى الجدار تحت ضغط الأمل، وربما تود من مسعاها تعميم نوع من البشارة بأن الغدَ سيكون أجمل، لكن دون أن تتناسى صعوبة الوصول إلى تلك الجماليات المأمولة. والنجاة التي تتحدث عنها تكون خلاصاً من نيْر الجنون المستفحل، كما تكون فرصة لمراجعة الذات بعد اختبار عسير تتعرض له إثر الأحداث العاصفة التي شوهت الكائنات، وأغرقت المدن في تشوهاتها.
يوحي الجدار العازل الغامض بين العالمين بأن هناك الكثير من العوائق التي يضعها المرء بينه وبين نفسه، وبينه وبين المحيطين به، تحول دون تعرفه إلى ذاته، وإليهم، في الوقت الذي يكون فيه بأمس الحاجة إلى التعاون لتخطي عتبات الفوضى والدمار، والتخطيط للدخول في رحاب الحياة الهادئة المسالمة، وبانهيار ذاك الجدار، وتوحيد العالمين، ترمز ليسينغ إلى وجوب نسف الجدران التي تعزل المرء عن واقعه ومحيطه، والتحلي بالجرأة والمسؤولية لرعاية الآخرين، ومشاركتهم أساهم، وعدم التهرب من الاستحقاقات والمسؤوليات الواجبة. وتشير إلى أن حيوية الحياة العادية ستهزم الفوضى والاضطراب والحرب في النهاية.
عن جريدة الحياة .
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |