عبد الرحمن الكواكبي مرة أخرى: المفكر وصاحب مشروع مقاومة الاستبداد / عمر كوش*
2012-11-16
تكتسي الكتابة عن عبد الرحمن الكواكبي، في أيامنا هذه، معنى جديداً، لأنها تتزامن مع أحداث الثورة الشعبية السورية، التي عقدت العزم على الخلاص والقطع مع عهود الاستبداد، وابتكرت طريقها الخاص للخلاص من استبداد النظام السوري، الجاثم على صدور السوريين منذ أكثر من أربعة عقود.ولا شك في أن مقاومة الاستبداد ومظاهره ورموزه، تجسد جوهر مشروع الكواكبي الفكري، في عصر كانت فيه السلطة الحاكمة، مثلما هي حال سوريا في ظل الحكم الأسدي، تريد إخضاع الجميع لسطوتها، وتحويل الناس إلى مجرد أرقام في قطيع، لا يعرف سوى إطاعة السلطان، والخضوع لسلطته، والانصياع لأوامره.
ووفق ما نطمح إليه، فإن تناولنا لأفكار عبد الرحمن الكواكبي، هو وليد قراءة منجزه الفكري والثقافي، قراءة نقدية، همّها إيجاد ممكنات التجربة التي عاشها وشروط إمكانها وبنائها، من منطلق النظر إليه بوصفه شرطاً لممارسة الفكر أو شخصية مفهومية، متعددة المركبات، منها المثقف، والمفكر، والمناضل للخلاص من الاستبداد، ومن التأخر، ومؤسس ممارسة نقدية جريئة ضد الاستبداد. وتقتضي عملية البناء والتشييد معرفة المعطيات التاريخية التي جعلت عبد الرحمن الكواكبي يقف، على سؤال الزمن العربي الموجع، سؤال الاستبداد والتأخر والفوات، وهو سؤال دائري، لا يكف المفكرون العرب عن طرحه، كلما لاحت في الأفق إمكانية بناء جديد. واتخذ هذا السؤال صيغاً وصوراً عديدة، ما يزال صداها يتردد حتى أيامنا هذه.
لقد وقف الكواكبي داخل الزمن العربي الإسلامي وخارجه في آن، وتزاحمت أمام عيني الرجل مشاكل كثيرة، وهو ينظر في مجتمع مهزوم، فقد قوته، وأصابه الوهن حتى أهلكه، فأخذ يبحث في جواب عن تأخر العرب والمسلمين، لكنه اصطدم بثقل السؤال، ولا غرابة في أن يُصاب المفكر بالعجز أحياناً في عزلته الخانقة، بوصفه مشغولاً بأسئلة المجتمع وآفاق المستقبل، ويفترق عن مختلف الكتبة من أزلام السلطان والسلطات، الذين اختاروا الانحياز إلى الصمت والاستكانة لما هو واقع، فيما سعى هو إلى نقده، وإن استطاع رفضه وبحث عن البديل الممكن.
زمرة الكتبةإذاً، افترق عبد الرحمن الكواكبي عن زمرة الكتبة / أزلام السلطان، منحازاً إلى مجتمع لا جدة فيه، حيث ما تزال القضايا والإشكاليات العويصة تنتظر المعالجة، والأسئلة لا تكف عن التحليق في سماء واقع انفلت من عقاله، فلم يجد بداً من التفكر فيها، والبحث عن سبيل للخلاص. وظلّ محاصراً بجملة من الشروط والأسئلة، ولم ينقصه الإحباط، إذ الحيرة واللا يقين يمسان كل شيء، فعمل على التمسك بالأسئلة الجوهرية التي لم تظفر بإجاباتها المطابقة، مع أنها أسئلة عويصة، لا تنقطع بجواب.وقد أشار الكواكبي، بوضوح لا لبس فيه، إلى أن أصل الداء عنده هو الاستبداد، بوصفه نقيضاً للسياسة، من جهة أنه إذا كانت السياسة هي "إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة"، فإن الاستبداد هو "التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى"، والأخطر هو أن الاستبداد يتجسد في "تصرّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة بلا خوف تبعة"، باعتباره صفة السلطة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، التي تتصرّف في شؤون الرّعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَين. ومرد ذلك هو كون الحكومة إمّا هي غير مُكلّفة تطبيق تصرُّفها على شّريعة، أو على أمثلة تقليدية، أو على إرادة الأمّة، وهذه حالة الحكومات المُطلقة. أو هي مقيّدة بنوع من ذلك، ولكنّها تملك بنفوذها إبطال قوّة القيد بما تهوى، وهذه حالة أكثر الحكومات التي تُسمّي نفسها بالمقيّدة أو بالجمهورية. وعليه، ركز الكواكبي على الاستبداد من جهة كونه تفرد بالسلطة والقرار وبالأمر والنهي، وبما يرجع الاستبداد إلى مشكلة السيطرة المطلقة.
الاستبداد فساد
ودرس الكواكبي في "طبائع الاستبداد" علاقة الاستبداد بالدين وبالعلم وبالمجد والمال، وكذلك علاقته بالإنسان وبالأخلاق وبالتربية، مؤكداً على الجانب العلمي للوظيفة المعرفية، وعلى أن الاستبداد أصل كل فساد، كونه يمنع التربية الصحية والمعرفة الصحيحة، ويفسد العقل والعلم والدين، لذلك يتوجب على المتعلم والمثقف أن ينخرط في هموم وقضايا أمته ومجتمعه، بغية العمل على إزالة الجهل والاستبداد، الأمر الذي يلقي الضوء على علاقة المعرفة بالسلطة، من جهة ارتباط النهضة بمعرفة مستنيرة، وارتباط الانحطاط بسلطة مستبدة، والأولوية لدى الكواكبي تتمحور حول تحرير العقل وإشادة مجتمع الحرية والعدالة والشورى. لذلك، اعتبر الكواكبي أن: "كل ما يذهب مذهبا في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء. وحيث أنى قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي ودواءه دفعه بالشورى الدستورية. وقد استقر فكري على ذلك - كما أن لكل نبأ مستقر - بعد بحث ثلاثين عاما... بحثاً أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم الباحث عند النظرة الأولى أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء. أو أن ذلك فرع الأصل، أو هو نتيجة لا وسيلة. فالقائل مثلا: إن أصل الداء التهاون في الدين، لا يلبث أن يقف حائرا عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس في الدين؟ والقائل: إن الداء اختلاف الآراء، يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف فان قال سببه الجهل، يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أشد وأقوى".
طبائع الاستبداد
غير أن الحيرة استبدت بالكواكبي، فوقف عند فكرة طبائع الاستبداد، ولم يتخط حدودها، نظراً لتأرجح أفكاره وأطروحاته ما بين الظروف العوامل الوضعية المسببة والقدر الإلهي المحتوم، أو الإرادة الإلهية التي لا ترد، فراح يصف الاستبداد في إحدى صفحات كتابه على أنه "نار غضب الله في الدنيا"، بل واعتبره "يد الله القوية الخفيّة يصفع بها رقاب الآبقين من جنة عبوديته إلى جهنم عبودية المستبدين الذين يشاركون الله في عظمته ويعاندونه جهاراً"، وفي اعتباره "أعظم بلاء، يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين، ولا يرفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأنفة". وذلك على الرغم من أن الكواكبي يقرّ بأن "الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، إذ هما أخوان؛ أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان، بينهما رابطة الحاجة إلى التعاون لتذليل الإنسان"، إلا أنه ما استطاع فك الارتباط في أن تحالف الاستبدادين، إنما يعود إلى غلبة السياسي نفسه على هيمنة كل حقول الحياة، بما فيها الديني نفسه، على اعتبار أنه الأفعل والأكثر تأثيراً في المجتمعات العربية والمسلمة.
الحريةوكانت الحرية الهاجس الأساسي في كلّ كتابات الكواكبي، بوصفها تشكل الأصل الذي يستند إليه مبدأ الحق الطبيعي. فهي الطبيعة، والبداهة الإنسانية، والفطرة الفائقة. ومن يقف في وجه الحرية، أو يعيقها، فإنه يعادي الطبيعة، ويعادي الحق. فالإنسان لا يولد حراً وحسب، بل هو أيضاً مفطور على محبة الذود عن الحرية. لذلك طالما بقي بالإنسان أثر من الإنسان فهو يقيناً لا ينساق إلى الاستعباد والعبودية إلا مكروهاً أو مخدوعاً.
وقد اجترح الكواكبي مفهوم "أسير الاستبداد" ليصف الإنسان الملتصق بغرائزه العمياء، التي تستعبده بدورها، وتعمي بصره وبصيرته، فلا يعثر على الحرية الطبيعية الثاوية في داخله، التي تشكل جوهر إنسانيته، ومعنى وجوده، فأسير الاستبداد لا يملك نفسه، لأنه تربى بوصفه رقماً في قطيع، ليس له وظيفة سوى الطاعة العمياء، بعد أن قلب المستبد الأمور بجعله الرعية خادمة له، بصفته راعياً، بدلاً من تكون السلطة والحكومة خادمة للشعب، المكون من مواطنين أحرار.
أسير الاستبداد
ولا يتحرك أسير الاستبداد بإرادته، بل بإرادة غيره، لأنه فاقد الإرادة، وفاقد لجميع أنواع المجد والعلم والعطاء والإيثار والبذل، ولا يعرف لذة أو طعم إحراز مقام في قلوب الآخرين، ولا متعة كبر النفس، لأنها من ملذات الحرية الطبيعية التي تشكل أصل الكائن البشري. بالمقابل، تقتصر ملذات أسير الاستبداد، التعيس، على المتسفّل منها، مثل لذة الأكل، التي تجعل البطون مقابر للحيوانات ومزابل للنباتات، وتجعل جسم أسير الاستبداد، غنياً كان أم فقيراً، كأنبوب يمتد من المطبخ إلى المرحاض. وإلى جانب لذة الأكل هناك اللذة المتولدة عن رعشة الشهوة، وبالتالي تتحول أجساد أسرى الاستبداد إلى ما يشبه دمامل جرب على أديم الأرض، تستريح بالحك، وتنحصر وظيفتها في توليد الصديد ودفعه، الأمر الذي يعمي أسرى الاستبداد ويصيبهم بسباق التوالد والتزاوج.ويمكن ملاحظة أن بدائل الاستبداد، تتجسد في فكر الكواكبي بالمساواة والعدالة والحرية والشورى الدستورية، مع التشديد على الجانب السياسي في التحليل، واحتلال الحرية مكانة كبيرة في مباحثه، بما فيها حرية الاعتقاد، وحرية التفكير والمشاركة السياسية، التي لا تخرج عن إطار تحقيق الشورى الدستورية، بوصفها الضامن لمشاركة أبناء الأمة، أو المواطنون، الحكومة في صنع مصائرهم، بواسطة أهل الحل والعقد فيها، وبما يضمن رفع الاستبداد، كمهمة ملقاة عاتق أصحاب العقول الواعية في الأمة وتكاتفهم.
ويمكن القول إن أهمية الكواكبي، لا تعود فقط إلى تعرية ومهاجمة الاستبداد، بل إلى تحليله الاستبداد، سياسياً ودينياً، وتبيان دوافعه وأسبابه إلخ، الأمر الذي دشن بواسطته جملة من الكتابات والأفكار، التي أتت من بعده، وركزت الاهتمام على الاستبداد والمستبدين. لكن الكواكبي أخذ جانب التحليل، النظري والبحثي، ولم يذكر أمثلة على الاستبداد والأنظمة المستبدة في عصره أو عبر التاريخ العربي الإسلامي. ومع ذلك يكفي الكواكبي ما قدمه بكل جرأة ووضوح، والباب مازال مفتوحاً أمام الباحثين والمفكرين كي يغنوا ما بدأه، ويكشفوا صور الاستبداد وجرائمه في حق الشعوب، وخاصة في الحالة السورية، بالاستناد إلى الأفكار التي تنير طريق الخلاص والحرية لسوريا القادمة ولباقي بلداننا العربية
عن جريدة المستقبل.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |