عبد الرحمن الكواكبي وتشريح آليات الاستبداد / شمس الدين الكيلاني
2012-12-09
انتسب الكواكبي (1854/1902) إلى تيار الإصلاحية الإسلامية تلك.أكد، أكثر من أي مفكر فيها، على أن الاستبداد هو رافعة التأخر العربي - الإسلامي. وأن علاج هذا الأمر وما يستتبعه، هو مفتاح لتقدم العرب والمسلمين. أتى كتابه (طباع الاستبداد )كصرخة مدوية في فضاء الاستبداد المديد الذي رقد طويلاً في دنيا العرب .لذا لم يحتمل معانيه وقوة حجته المستبدون، فدفع الكواكبي حياته في ظل السلطان عبدالحميد مسموماً جزاء في زمن عبد الحميد،كما فوجئ الأديب زكريا تامر بالعزل فوراً من رئاسة تحرير مجلة المعرفة السورية، ومن بعدها صار مهاجراً، لأنه تجرأ على وضع مقطعٍ من كتاب طبائع الاستبداد في مقدمة المجلة في عام 1980.
وإذا كان كتابه "طبائع الاستبداد" قد تمركز على نقد استبداد الحكومات الإسلامية بدلالة مشهد السلطة العثمانية المتعثرة، فإن كتابه (أم القرى) صب نقده على العلاقات القائمة بين الأمم الإسلامية، لحساب تصور آخر، مقابل، يقوم على استرجاع دور العرب الريادي في ترتيب البيت الإسلامي، وفي تقدمه، إلا أن كلا من الكتابين يكمل الآخر ويتشابك معه.
فيحيلنا منطق "طبائع الاستبداد" إلى الدعوة للرجوع إلى الإسلام في نقاوته الأولى، الإسلام القائم على الحكمة والعزم، والمحكم لقواعد الحرية السياسية، التي تتوسط الديمقراطية والارستقراطية،كما ظهر في حكومة الخلفاء الراشدين ، ثم ما لبث هذا الطراز النبوي أن أخذ بالتناقص" وصارت الأمة تبكيه، وسيدوم بكاؤها إذا لم تنته إلى تعويضه بطراز شوري وهو ما اهتدى إليه الغرب".
هكذا، يحيلنا الكواكبي إلى وعي ضرورة إحياء الاجتماع الإسلامي على نحو جديد، يعتمد على قيادة العرب له، وهو موضوع (أم القرى) الذي لم يخف فيه اعتقاده بأن من واجب العرب أن يقوموا بالدور الرئيسي للنهضة .ويجمع المؤتمرون على إعادة مركز الثقل إلى العرب، وذلك بتنصيب خليفة عربي من نسب قرشي، يختاره ممثلون عن الأمة، وتكون له سلطة دينية على المسلمين،بجانب السلطات المدنية للدول القائمة ،ففصل بذلك بين السلطتين الدينية والزمنية.
وجمع الكواكبي في خطابه بين إعلاء الدور الريادي للعرب ، وبين إعلاء القيم الدستورية والشورى. فتفرد بين مفكري النهضة والإصلاح الديني بتشديده على مخاطر الاستبداد وعلى ضرورة الحياة الدستورية الشورية لخروج العرب من دائرة الانحطاط. لذا. خصّص كتابه "طبائع الاستبداد" على موضوع واحد وحسب، هو الاستبداد، معترفاً بأن فكره قد استقر "بعد بحث ثلاثين عاماً على أن أصل الانحطاط هو الاستبداد السياسي، ودواؤه هو الشورية الدستورية".
وعرَّف علم السياسة بأنه "إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة" يقابله تعريفه للاستبداد، بأنه "التصرف بالشؤون المشتركة بمقتضى الهدى"، ودرس (الاستبداد) للتعرف على سبيله وأغراضه، وسيره وعلائمه، ودواؤه. وشرح بأن تعريف الاستبداد في اللغة: (غرور المرء برأيه). أما في الإصلاح السياسي، فهو "تصريف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة ". وتوصف الحكومة بالاستبداد "عندما تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب" .أما مصدر الاستبداد، من الناحية التاريخية ،فهو "غفلة الأمة وتقاعسها عن محاسبة الحاكم " .
ويتجلى الاستبداد في جملة الظواهر لا تقتصر على الناحية السياسية، وأول ضحايا الاستبداد بعد أن ضرب في الفرد صدقه مع نفسه، هو الدين، وذلك لإفساده لأهم متمميه: الأخلاق، تاركاً قسمها الثاني: العبادات لأنها تلائمه في الأكثر. فيحول الأديان إلى مجرد عبادات لا تفيد في تطهير النفوس. فالانحراف السياسي يقود إلى الانحراف الديني، وهو ما يظهر في انتشار البدع، التي شوهت الإيمان والأديان. علماً، أن الإسلام مثل كافة الأديان، يقوم على كلمة "لا إله إلا الله". معنى ذلك أن الإنسان لا يعبد سوى الصانع الأعظم. وينزع القداسة عن كل سلطة أخرى: دينية أو حاكمة. وبحدوث التشاكل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، يتبادل المستبد والمنافقون من رجال الدين أوصاف التقديس والتجميل على حساب الناس. فيتساءل الكواكبي مستنكراً: من يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام وتنزيلهم من المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، والصبر عليهم إذا ظلموا؟
ثم يضرب الاستبداد السلوك الأخلاقي فيضعفه ويفسده، فبعد أن أفقد في الفرد ثقته بذاته وقاده إلى الإحساس بالصغار ،سهّل على المستبد أن يدفع الفرد أيضاً ليتبنى أحكامه عنه: تصغيره لقدراته، واعتناق قيم الرضوخ للاستبداد. فيسهل عليه الانقياد الأعمى مثل الهوام تترامى على النار، حيث يتحول الناس إلى أنانيين فاقدي العزم خالين من الشرف والناموس.
ولا يتوقف خطر الاستبداد، عند الكواكبي، على حاضر الأمة فحسب، بل يتعداه لينال مستقبلها، عندما يُميت فيها إرادة الرقي والتقدم التي من مظاهرها الترقي في الجسم: صحة وتلذذاً. والترقي بالعلم والمال، وفي النفس بالخصال والمفاخر. و بالعائلة استئناساً وتعاوناً، وبالعشيرة عند الطوارئ ، والترقي بالإنسانية، وهذا منتهى الرقي. إذ إن الاستبداد "يقلب السير من الترقي إلى الانحطاط، ومن التقدم إلى التأخر، ومن النماء إلى الفناء حتى يبلغ بالأمة حطة العجماوات، فلا يهمها غير حفظ حياتها الحيوانية فقط".
هكذا يقدم لنا الكواكبي لوحة قائمة على الاجتماع السياسي العربي الذي يحكم الاستبداد، ويرهن رقيه وتقدمه باستلهام الحرية والشورى، ولقد أطلق صرخته المدوية في وجه قومه، منذ قرن قائلاً: يا قوم هداكم الله، إلى من هذا الشقاء المديد، والناس في نعيم مقيم، وعز كريم، أفلا تنظرون؟ ما هذا التأخر، وقد سبقتكم الأقوام ألوف المراحل، حتى صار ما بعد ورائكم أماماً،أفلا تتبعون؟".
عن جريدة المستقبل.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |