Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

" فرناندو بيسوا " ( اللاطمأنينة ) ج أخير/ ترجمة : المهدي أخريف

ألف

خاص ألف

2012-12-09

وسواس *
فلأمنح كل عاطفة شخصية خاصة بها، كل وضع من أوضاع الروح روحاً مستقلة.
ما يرى من الداخل*
لأنني لا أملك ما أفعل حتى التفكير فيما علي أن أفعل، سأضع على هذا الورق خطاطة وصف لحاشية نموذجية أريد حساسية مالارميه داخل أسلوب فييرا، الحلم على طريقة فرلين بجسد هوراس، أن أكون هوميروس على ضوء القمر.
أريد أن أحس كل شيء بكل الأشكال الممكنة وغير الممكنة، أن أعرف كيف أفكر بالأحاسيس وأحس بواسطة الأفكار، ألا يكون لي طموح إلا بواسطة الخيال، أن أتألم بدلال، أن أروي ما أراه بوضوح كيما أكتب بطريقة صحيحة، أن تكون معرفتي ممنهجة ومداجية.
كل هذه الرغبات المثالية الممكنة أو المستحيلة تتبخر الآن، ثمة الواقع أمامي: ليس البائع ما أرى، إنها يده (البائع لا أراه)، وهي ملمس لا معقول لروح ذات عائلة وحظ، يصنع تعرجات لعنكبوت لا نسيج له عبر تمدد استعادة الهناء الذي قبالتي.
عبارة*
"الاحساس تحمّص". عبارة عرضية وردت في محادثة عرضية مع مجهول شاركني الأكل، ظلت متوهجة على الدوام في أرضية ذاكرتي، الصيغة العامية ذاتها العبارة هي التي منحتها الملح والبهار.
يبقى الحلم*
لماذا أتصرف بطريقة متناقضة تأبى على الحلم وعلى الترويض في الأحلام ؟ لماذا اعتدت غالباً، أن أحس بالزائف احساس بالحقيقي بالمحلوم واضحاً تماماً كالمرئي لقد فقدت حاسة التمييز الإنساني الزائفة في اعتقادي بين الحقيقة والكذب.
حسبي أن أرى الأشياء بوضوح بالعينين أو الأذنين، أو بأي حاسة أخرى، كيما أحس بواقعيتها بإمكاني الاحساس بشيئين غير قابلين للتعريف في نفس الآن لا يهم.
ثمة مخلوقات قادرة على أن تتألم ساعات طويلة لانتقاء امكانية أن تكون وجهاً في إطار أو ورقة من أوراق اللعب. هناك أرواح معاصرة تقاسي، كما لو أن لعنة حلت بها، من استحالة أن تنوجد اليوم ككائنات بشرية من العصر الوسيط، هذا النوع من الأحاسيس كان يعتريني في أزمنة سابقة. اليوم لا لقد تنقية باتجاه ما هو أبعد. لكن، يؤلمني مثلاً، ألا أستطيع الحلم بأن أكون ملكين على مملكتين مختلفتين منتميتين، على سبيل المثال، إلى كونين يحويان أنواعاً من الفضاءات والأزمنة. عدم قدرتي على تحقيق هذا الحلم يغمرني بالفعل، ويمضني جوعاً.
الأهم هو الوصول إلى القدرة على الحلم بسهولة باللامتلائم، كواحد من الانجازات الكبرى التي لم أتمكن أنا نفسي على عظمتي، من الظفر بها إلا في حالات نادرة، أجل، أريد الحلم بأنني مثلاً، وعلى نحو متزامن , منفصل وواضح، بأنني النزهة التي يقوم بها رجل وامرأة على ضفة نهر. أريد أن أرى نفسي في آن واحد، بنفس الوضوح، نفس الصورة وبغير اختلاط الشيئين ذاتيهما بنفس التكامل بينهما مركباً في تمام وعيه يمخر بحراً من بحار الجنوب وصفحة مطبوعة من كتاب قديم. لكم يبدو هذا لا معقولاً ! لكن لا معقول هو كل شيء ويبقى الحلم، مع ذلك أقل الأشياء لا معقولية.
الصدى والهاوية*
بالتفكير خلقت صدى وهاوية، بتعمقي ذاتي تكاثرت. الحادث العرضي، الصغير جداً، ما ينبثق عن الضوء من تغير، السقوط الملفوف لورقة جافة، البتلة المنتزعة مصفرة، صوت الجانب الآخر من الجدار أو خطوات المتلفظ بالصوت جنب خطوات من ينبغي أن يسمعه، البوابة المواربة للضيعة القديمة، الساحة المتفتحة على قوس البيوت المتجمعة تحت ضوء القمر، كل هذه الأشياء، التي لا تنتمي إلى، تثبت في التأمل الحساس بأوامر من رنين وحنين. في كل إحساس من تلك الأحاسيس أشعر أنني آخر، متألماً أتجدد في احساس لا محدد.
من أحاسيس لا تنتمي إلي أحياناً، غير عابئ بالتنازلات، آخر أغدو في الشكل مثلما أنا بالفعل.
أنا المسرح الحي*
خلقت في شخصيات متعددة، باستمرار أخلق شخصيات بداخلي، كل حلم من أحلامي يتجسد لحظة ظهوره كحلم، في شخص آخر يصبح هو حالم الحلم وأبقى أنا خال الوفاض.
لكي أبني. كان علي أن أتهدم كثيراً ما كنت برانياً داخل ذاتي. لأنني لا أوجد داخل ذاتي إلا خارجياً. أنا المسرح الحي الذي تتعاقب عليه أدوار سكين متنوعين يشخصون أعمالاً دراسية شاسعة التنوع.
بين الرؤية والحلم*
قال إمييل إن المشهد الطبيعي هو وضع من أوضاع الروح. إنها عبارة تنم عن سعادة خاملة لحالم ضعيف، المشهد ما إن يكون طبيعياً حتى يكف عن أن يكون وضعاً روحياً. أن نرضع (18) هو أن نبدع، وما من أحد يزعم أن قصيدة مكملة الانجاز هي وضع من أوضاع التفكير في، صنع قصيدة أحياناً تكون الرؤية بمثابة حلم، لكننا إذ نسميها رؤية بدلاً من حلم فلأننا نميز بين الحلم والرؤية.
بالنسبة إلى ما تبقى، ما فائدة هذه التأملات ذات النمط السيكولوجي الحرفي ؟ باستقلال تام عني ينمو العشبويهطل المطر على العشب النامي، والشمس تذهب تمدد العشب الذي نما أو سوف ينمو؟ تنتصب الجبالشامخة منذ القدم، والريح تمر مثلما مرّ هوميروس الذي سمع صوت الريح، وإن لم يكن موجوداً.
سيكون أقرب إلى الصوابإذا قلنا أن وضعاًما من أوضاع الروح هو بمثابة مشهد طبيعي، سيكون للعبارة امتياز خلوها من الكذب المتضمن في نظرية إمييل واشتمالها فقط على صدق استعارة ما.
هذه العبارة العرضية أملاها علي اتساع المدينة الهائل، مرئية على ضوء الشمس الكوني، من أعالي سان بيدرواي ألكانطرا (19). كلما تأملت امتداداً واسعاً كهذا الامتداد من خلال قامتي ذات المتر وسبعين سنتميتراً وكيلواتي الستين، ظفرت بابتسامة ميتافيزيقية هي امتياز من يعرفون قيمة الأحلام. وأعشق حقيقة الأشياء الخارجية بشكل مطلق مع الفضيلة النبيلة للفهم.
نهر التاج (20) في العمق بحيرة زرقاء، أما جبال الشريط الآخر فهي تنتمي إلى طبيعة سويسرية مسطحة. مركب صغير يمضي.- بخار شحن مسوّد- من جهة بئر الأسقف باتجاه مدخل المرفأ الذي لا أراه. فلتحفظني الآلهة أجمعين حتى يكف هذا المشهد عن الظهور، المفهوم الواضح والشمسي للواقع الخارجي، بإحساسي بلا أهميتي، عزائي في أن أكون قادراً على ضآلتي على التفكير في أن أصير سعيداً.

الخريف الذي ضيعت*
منذ أن تخلت آخر ألوان الصيف عن صرامتها تجاه الشمس المكدرة، كان الخريف قد بدأ قبل الأوان، عبر كآبة خفيفة غامضة بدت كما لو أنها رغبة من السماء في عدم الابتسام، كانت ذات زرقة أشد صفاء تارة وأشد اخضراراً تارة أخرى، هي زرقة انتفاء جوهر اللون الطور ذاته، كانت شكلاً من أشكال النسيان في الغيوم الأرجوانية واللامبالية.. كانت لا خدراً أو سباتاً، بل ضجراً عم العزلة الهامدة كلها حيث ممر الغيوم.

أخيراً جاء الخريف الحقيقي،الهواء أصبح بارداً بفعل الريح، حفيف الأوراق اكتسى نبرة يبوسة وإن لم تكن الأوراق قد يبست بعد، الأرض بكاملها اكتسبت اللون والشكل اللامحسوسين لمستنقع بين. بين كل ما كان عبارة عن ابتسامة أخيرة ذاب في تعب الجفون، في لا اكتراثية الاشارات، وهكذا كل ما يحس أو ما نفترض أن به إحساساً، كان يشد إلى الصدر بألفة، وداعه الخاص. صوت دوامة في إحدى الردهات من خلال وعينا بتقلب أدق الأشياء حقاً لقد راقني أن أتنقه، كيما أحس بالحياة.
غير أن أمطار الشتاء الأخيرة التي حلت أيضاً في الخريف الذي غدا الأن قاسياً، قد غسلت هذه الحبريات. كما لو بدون أدنى مراعاة رياح عالية تصدر صريرها من داخل الأشياء الحبيسة، مخلة بترتيب أشياء. ساحبة أشياء متحركة. رافعة وسط الصخب غير المنتظم للأمطار، كلمات غائبة لاحتجاجات مجهولة أصوات حزينة وحانقة ليأس عديم الروح.
وأخيراً تناقص الخريف بارداً ورمادياً. كان خريفاًشتائياًذاك الذي جاء دوره الأن. كان غباراً من وحل كله. لكن في الوقت نفسه ثمة شيء طيب حملقه برودة الشتاء: انتهاء صيف قاس، ربيع على الأبواب، خريف يقاوم في قلب الشتاء أخيراً. وفي الهواء العلوي حيث الطبقات المغشاة بالبخار المجرد من ذكرى اللون أو الكآبة الكي بدا ميالاً الى اللبل وإلى التأملات اللامحدودة.
هكذا كان كل شيء بالنسبة لي قبل أن أفكر فيه. واذا كنت أكتبه اليوم، فلأنني أتذكره ما ضيعته هو الخريف الذي أملك.


هز الكتفين ( 21)*
عموماً اعتدنا أن نضفي على تصوراتنا حول ما نجهله لون مفاهيمنا المتعلقة بما نعلم: إذا أطلقنا على الموت تسمية الحلم. فلأنه يبدو بالفعل لما من الخارج، إذا كنا نسمي الموت حياة جديدة، فلأن يبدو شيئاً محلقاً عن الحياة. بأشكال صغيرة من سوء التفاهم مع الواقع نبني المعتقدات والآمال ونعيش من قشور نسميها خبزاً مثل الأطفال الفقراء الذين يجعلون من اللعب سعادتهم المطلقة.
لكن هكذا هي الحياة كلها هكذا، بالأقل , ذلك النظام الحياتي الخاص المدعو حضارة، الحضارة إنما تقوم على منح الشيء اسماً لا يطابقه، ثم الحلمفيما بعد بالنتيجة، والواقع أن الاسم الزائف والحلم الحقيقي هما اللذان يخلقان واقعاً جديداً. يتحول الموضوع فعلياً إلى (موضوع) (22) آخر. نحن نخلق أمثولات. المادة الأولى تطل هي نفسها، لكن الشكل الذي يخلعه الفن عليها، يجعلها غير ما هي بالفعل، طاولة من صنوبر هي الصنوبر لكنها أيضاً طاولة. نحن نجلس إلى طاولة وليس إلى صنوبر. الحب عبارة عن غريزة جنسية، غير أننا لا نحب بالغريزة الجنسية، بل بدافع عاطفي من طينة أخرى، وذلك الدافع إحساس آخر مختلف بالفعل.
لا أدري من أي مؤثر ضوئي مرهف، ولا من أي ضوضاء غامضة ولا من أي ذاكرة عطرية أو موسيقية جاءتني.وأنا في الشارع، هذا الهذيانات التي أدونها على غير عجلة أثناء جلوسي شاردَ الفكر في المقهى لست أدري إلى أين سأتجه بأفكاري ولا إلى أين سأفضل الاتجاه بها. النهار مصطبغ بضباب خفيف رطب ودافئ حزين بلا وعيد أو. وعود. رتيب من غير داع. ثمة إحساس مؤلم أجهل كنهه ينتابني تنقصني أداة (أو وسيلة) (23) أجهل بماذا تتعلق ؟ لدي خمود في الأعصاب، حزين، حزناًممتداً تحت مستوى الوعي، وأكتب هذه الأسطر المدونة بشكل سيئ في الحقيقة، إلا لكي أقول هذا الذي أقوله ولا لأقول لا شيء، ولكن من أجل أن أشعل الهوى.أمضي مالئاً ببطء بجرات واهنة لقلم رصاص – لا عاطفية لدي لأتمكن من بريه جيداً. الورق الأبيض الخاص بتلفيف السندويتشات التي أعطونيها في المقهى. لأنني لم أكن بحاجة إلى ورق أفضل ولأن أي نوع منه صالة للكتابة مادام ورقاً أبيضَ وأمنح الإنطباع بأنني في حالة ارتياح، أنحني بعض الانحناء والمساء يحن. رتيباً بلا مطر ببارقة ضوء من مؤنسة مشكوك فيها... وأكف عن الكتابة لأنني أكف عن الكتابة.

أغنية بلد بعيد*
كان يغني بصوت شديد النعومة. أغنية بلد بعيد. وكانت الموسيقى تجعل الكلمات المجهولة أليفة حميمة، يبدو أنها كانت أغنية،روحية من أغاني الفادو، لكن بغير أي شبه بالفادو.
كانت الأغنية تعبر، بالكلمات الكتيمة والنغم الإنساني، عن أشياء كائنة في أرواح الجميع وما من أحد يعرفها. وكان هو يؤديها بنوع من التوهيم، متجاهلاً المستمعين بنظره، بانتشاءة متسكع شوارع.
الناس المتجمعون كانوا ينصتون إليه بلا خجل مرئي كانت الأغنية أغنية العالم كله. والكلمات تتحدث إلينا عن السر الشرقي لجنس مفقود.
ضوضاء المدينة ما كانت لتنفذ إلى مسمعي، والسيارات كانت تمرق عن قرب إلى حد أن أحداها لامست ذيل بذلتي. لكنني كنت أحسها بدون أن أسمعها. كان هناك في أغنية المجهول. امتصاص مريح لذلك المحلوم المتعذر فينا. الحادث كان حادث متسكع عابر، وكلنا ركزنا نظرنا على الشرطي الذي دار حول زاوية الشارع على مهل، ثم دنا متوقفاً للحظة خلف حامل المظلات، كمن يتفرج على مشهد، في. تلك اللحظة. كفّ المغني عن الغناء، لم ينبس أحد بشيء، وحينئذ تدخل الشرطي.
سأموت مثلما عشت*
لقد حاولت مراراً، في الأحلام، تقمص نموذج الشخص الفرداني والمهيب الذي تخيله الرومانطيقيون في ذواتهم. وفي كل محاولة وجدت نفسي أقهقه قهقهاتٍ عاليةً من فكرتي عن تقمص ذلك النموذج. إن الإنسان القدري، (المشؤوم) في النهاية، موجود في الأحلام الخاصة لجحيم الناس العاديين، والرومانطيقية ليست سوى وضع الهيمنة اليومية لذواتنا نحن في وضع معكوس، كل الرجال تقريباً يحلمون، داخل الحدائق السرية لكينونتهم، بإمبريالية خاصة بهم، بإخضاع الناس أجمعين، باستسلام كافة النساء، باستعباد جميع الشعوب، وجميع الحقب لأتى من هم أكثر نبالة.. قلة قليلة فقط ممن اعتادوا، مثلي على الحلم، يمتلكون، لذلك ما يكفي من الوعي للضحك من الامكانية المبدئية (24) للحلم على هذا النحو.
التهمة الكبرى التي يمكن أن توجه ضد الرومانطيقية لم تصغ بعد: وهي تلك التي تقدمها الحقيقة الجوانية للطبيعة الإنسانية. إن مبالغتها، سخافتها قدراتها المتعددة على استثارة المشاعر وعلى تكمن في كونها تمثل التصوير الخارجي لما يوجد في أعمق مناطق الروح،للحالات الأكثر واقعية والأكثر عيانية , حدّ الاستحالة إن كان الوجود الممكن متوقفاً على شيء آخر غير القدرية.
كثيرة هي المرات التي وجدتني فيها، ضاحكاً من إغواءات تسلوية (5 2) مشابهة، أفترض أنه سيكون من المفرح أن أصبح مداجياً، أو صاحب انتصارات كبرى، غير أنني لا أتمكن عيانيا، في أوراق القمة هذا سوق من اطلاق قهقهة آتية من الشخص الآخر المقيم دوما بجانبي كما لو كان شارعاً من شوارع الـ) Baja 26) هل اعتبر نفسي مشهوراً؟ أجل. لكن كرجل حسابات. هل أشعر بأنني مرفوع فوق عروش الكينونة الذائعة الصمت ؟ لكن ما يحدث إنما يحدث في مكتب من شارع LosDoradores . والصبية هنا هم أحد الحواجز. أو أسمع تصفيقات حشود الجماهير لي ؟ التصفيق يصل إلى الطابق الرابع حيث أعيش ويتعثر بالأثاث الخشن لغرفتي الرخيصة، وبما يحيط بي، ويمعن في تحقيري في غرفة المطبخ (...) إلى الحلم. لم أمتلك ولا مجرد قصور حقيرة في إسبانيا، مثل الإسبانيين الكبار من كافة الأوهام. أوهامي (أحلامي بالأحرى) كانت ورق اللعب. ورق لعب، متسخ، قديم لم يعد صالحاً للعب، كان علي أن، أحطم (الأوهام) بإشارة من اليد، بإلحاح متعجل من الخادمة العجوز التي كانت تريد تغطية المائدة بكاملها بالمنديل الموضوع على الجهة الأخرى، لأن ساعة الشاي قد دقّت مثل لعنة من القدر. لكن حتى هذا نفسه ينطوي على رؤية غير ذات جدوى. إذ أنني لا أملك منزلاً ريفياً، مع العمات العجائز اللائي أتناول على مائدتهن، بعد سهرة عائلية شاياً مريحاً. لقد مني حلمي بالفشل الذريع حتى في الاستعارات والصور والأشكال. إمبراطوريتي لم تصل حتى إلى أوراق اللعب العتيقة. وظفري باء بالخسران بدرن أن يظفر بحلمه رضاعة أو بقط من عهد بائد. سأموت عظيماً عشت داخل دكان خردوات من دكاكين الضواحي. بالسعر المقنن. (27). للأشياء المحظورة والمفقودة.
أشياء تمر بدون أن تحدث*
الحالمون بالممكن، والمنطقي والقريب يثيرون شفقتي أكثر من الحالمين بالبعيد والقريب. الحالمون بالكبير، هم إما مجانين يؤمنون بما يحلمون محققين بذلك سعادتهم الخاصة، وإما هذيانيون بسطاء ممن يمثل الهذيان بالنسبة إليهم موسيقى روحية تهدهدهم بدون أن تقول لهم شيئاً، لكن من يحلم بالممكن لديه دوماً الإمكانية الواقعية لخيبة الامل الحقيقية. لا يمكن أن يؤثر في كثيراً لو تخليت عن أن أكون إمبراطوراً رومانياً، لكن يمكن أن يؤلمني عدم قدرتي على محادثة الخياطة التي تجتاز حوالي الساعة التاسعة صباحاً، الزاوية اليمنى من الشارع. الحلم الذي يعدنا بالمستحيل يحرمنا منه بمجرد الاستسلام للحلم. لكن الحلم الذي يعدنا بالممكن يندر. في الحياة الفعلية ويفوض لها إمكانية تحققه. الأول يحيا منفصلاً ومستقلاً والثاني خاضعاً لاحتمالات الحدث.
لذلك أحب المشاهد الطبيعية المستحيلة والفيافي الشاسعة التي لن أكلأها أبداً. إن للحقب التاريخية الماضية روعة خالصة، لذلك لا يمكنني بالطبع التفكير في إمكانية العيش فيها. لا أنام إلا عندما أحلم بما لا وجود له، وأستيقظ فقط عندما أحلم بما يمكن أن يوجد.
أطلّ، من إحدى نوافذ الكتب الخال في منتصف النهار، على الشارع الذي يحس شرودي بحركات الناس في العيون، بدون أن يردهم، من خلال المسافة الفاصلة لتأملاتي. أنام على المرفقين، حيث يؤلمني الدرابزين.. تفاصيل الشارع الخامل حيث يسير الكثيرون، تفصلني بعيداً، ذهنياً: الصناديق المكدسة في العربة، الأكياس الموضوعة عند باب المخزن، وفي الواجهة الزجاجية البعيدة للمتجر الكبائن في الزاوية، بمعروضات ما وراء البحار. ألمح قنينات خمر أوبرطو التي أتخيل أن لا أحد يستطيع شراءها. ينفصل عني جوهر النصف الآخر من المادة. أتفحص وأنقب بالتخيل وحده. الناس الذين يمرون عبر الشارع هم دائماً نفس الناس الذين مرّوا منذ قليل، إنه المظهر المتقلب لأحد ما، بقع بلا حركة، أصوات مرتابة، أشياء تمر بدون أن تكون قد حدثت بالفعل.
التفسير بواسطة الوعي الحواسي، قبل الحواس ذاتها... إمكانية أشياء أخرى.. وبغتة يرن من ورائي، في المكتب، نداء الصبي المستخدم كما لو من هاوية ميتافيزيقية أشعر بأنني قادر على قتله لأنه قطع علي حبل ما لم أكن أفكر فيه. أنظر إليه، بصمت مفعم بالكراهية، أنصتُ مسبقاً، بنية قتل دفينة إلى الصوت الذي سيهم بأن يقول لي شيئاً. يبتسم من داخل البيت ويقدم لي تحية المساء بصوت عال.. أكرهه مثلما أكره الكون. عيناي مثقلتان بالنعاس.
حنان بارد*
إنني أمتلك على الأقل، ما دمت مفتقراً إلى أي مزية أخرى، الجدة الدائمة للإحساس الحر.
أثناء انحداري اليوم من شارع ألمادا(28)، وجدتني أحدق فجأة في فشهر الرجل الذي كان ينزل قدامي، كان ظهراً غوغائياً لرجل نكرة، بسترة بدلة بسيطة على كاهل عابر سبيل عرضي. كان يحصل حافظة عتيقة تحت ذراعه اليسرى، ويطأ الأرض، بإيقاع السائر مشياً، مستعملاً مطرية مقفلة بواسطة قبضة يده اليمنى.
أحسستُ فجأة بما يشبه الحنو تجاه ذلك الرجل. أحسست نحوه بالحنو الذي يستشعر نحو عموم العوام، نحو الدور اليومي المبتذل لعائل أسرة في طريقه إلى عمله، والحنو تجاه مسكنه المتضع والسعيد، تجده المتع المفرحة والمحزنة التي تتشكل منها حتمياً حياته. تجاه سذاجة العيش بدون تأمل ولا تحليل للمعيش، تجاه الطبيعة الحيوانية لذلك الظهر الكاسي.
حولت عيني صوب ظهر الرجل، النافذة التي من خلالها تراءت لي هذه التداعيات الذهنية.
كان الانطباع مطابقاً تماماً لذلك الذي يهجم علينا عندما نكون إزاء شخص نائم، كلما ينام يغدو طفلاً من جديد. ففي الحلم تنتفي، ربما القدرة على اقتراف الشر. وينتفي الإحساس بالحياة اليومية، فالمجرم الأكبر، والأناني الأكثر دماء ودناءة، يغدو مقدساً بفعل سحر طبيعي، أثناء استغراقه في النوم. كله هو هذا الذي يمشي أمامي بخطوات مماثلة لخطواتي، ينام، لا واعياً يمضي لا واعياً يعيش ينام، لأننا جميعاً ننام. الحياة كلها عبارة عن منام. لا أحد يعرف ما يفعل، لا أحد يعرف ما يريد، لا أحد يعرف ما يعرف، نحن ننام الحياة نحن أطفال القدر الخالدون، لذلك أحس، إذ أفكر من خلال هذا الاحساس، بحنو هائل وهلامي نحو الإنسانية الطفلية. نحو كل حياة مجتمعية في حالة نوم، نحو الجميع، نحو الكل.
إنها إنسانونية(29) مباشرة، هذه التي تهجم على إحساسي اليوم، لا نتائج وليس لها غايات إنني أعاني من حنان عارم. أرى الجميع من خلال شفقة واع متوحد.أرى شياطين الإنسان المساكين، شيطان الإنسانية المسكين، ما الذي يفعله هنا هذا كله ؟
إنني أعتبر كل حركة الحياة ومقاصدها من الحياة البسيطة للرئتين إلى تشييد المدن ورسم حدود الإمبراطوريات، عبارة عن اغفاءة أشياء كالمنامات أو الاستراحات، تحدث بلا قصدية ما بين واقع وآخر. بين يوم وآخر من أيام المطلق. ومثل من ابتلي بأمومة مجردة.أنحني في الليل على الأطفال الشريرين كما على الأطفال الطيبين، يجمعهم النوم الذي هم فيه أطفالي، وأتسل بطول شيء لا نهاية له.
أحول نظري عن ظهر الرجل الذي يتقدمني، ويتجاوزني لكل من يسير عبر هذا الشارع. أحيط الجميع بنفس الحنو اللامعقول والبارد الذي وصلني من كتفي الرجل الفاقد الحس الذي أتبعه. كل هذا الذي أراه يشبه تمام الشبه، جميع هؤلاء الفتيات المتبادلات الحديث في طريقهن إلى المعمل. هؤلاء المستخدمون الشبان المتضاحكون في الطريق إلى المكتب، هؤلاء الخادمات الناهدات العائدات بالمشتريات الثقيلة، فتيان حافلات النقل الأولى هؤلاء: جميعاً هم من نفس اللاشعور المنوّع من خلال الوجوه التي تتمايز دمى محركة بالحبال التي ستوضع بين نفس أصابع الشخص اللامرئي، إنهم يمرون بجميع الأوضاع التي يتعين بها الوعي، ولا يملكون الوعي بأي شيء. لافتقارهم إلى الوعي بضرورة امتلاك الوعي. بعضهم أذكياء، بعض آخرين أغبياء وهم جميعاً أغبياء بدرجة متساوية. بعض شيوخ، بعض شباب وهم من سن واحدة بعض رجال. آخرون نساء وينتمون إلى نفس الجنس الذي ليس له وجود.


الجزء الأخير من ــ اللاطمأنينة ــ
ــ إعداد : ألف *

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow