صور من بطولة: عيون حمص / أمل هنانو
2012-12-14
أبو محمد رجل عنيد. هو يعلم جيداً أن كل بث مباشر يعرضه الى كشف مكانه من قبل قوى النظام، ومع ذلك هو يبدأ يومه من الفجر، يحضر أدواته ليبث أفلاماً مطولة عن الحياة في حمص حيث تقطع أصوات قذائف الموت لحظات السكينة والهدوء.
تمر بضع ساعات وترتفع الشمس رويداً في كبد السماء فتخف حدة القصف، يحمل ابو محمد متاعه الثمين ويتجه إلى مقر آمن هو بيته إلى حين. لقد أديت مهمتي: غردت رابط Bambuser للبث المباشر على التويتر، تحدثنا بلغة 'مكسرة' تراوح ما بين yamli وgoogle translate، علقت على بثه المباشر من homslive، وأشعر ببعض الإطمئنان أن بقية عمله لهذا اليوم سيتم في مكتبه لرفع الفيديو على اليوتوب والتحدث الى الإعلام. يوم آخر لحمص في قلب الحدث.. يوم آخر هو مازال حياً.
لقد وضع نظام الأسد قيوداً صارمة على الصحفيين الأجانب في محاولة بائسة لطمس جرائمه عن العالم، وأطلق أبواق إعلامه الكاذب الذي يدعي خرافة العصابات المسلحة تخرّب القرى والمدن التي تحتمي بها وتلحق بها الدمار. لكنها بطولة هواة الإعلام من أمثال أبو محمد الذين تصدّوا لهذه الأكذوبة وألقوا الضوء على الحقائق صورة بعد صورة وفيديو يتلوه فيديو. حين تهاوت أحياء حمص إلى أطلال وكوم إسمنت دارت كاميرات حمص تسجل دمار سورية على أيدي كتائب الأسد.
عام مضى وأبو محمد يتنقل فيه من بابا عمرو الى الخالدية إلى جورة الشياح فالحميدية وحمص القديمة، وكنت أتعرّف من خلال عدسته على أحياء حمص ومعالمها، عرفت حاراتها وبلكوناتها.. سمعت زقزقة عصافيرها وصياح الديكة في فجرها.. وألفت اللكنة الحمصية الطريفة في لهجة أهلها. عام مضى تكلمت فيه مع عدد من النشطاء والمقاتلين، لا أعلم يقيناً ربما هي المحادثة الأخيرة؟ أهي من مصدر موثوق؟ أو هل هي من إنسان سيصبح أخاً عزيزاً؟.
في بداية شباط/فبراير 2012 كنت أسجل مقابلة مع إعلامي الثورة رامي السيد المعروف بإسم 'Syrian Pioneer'. كان في بابا عمرو يتحدث من مكان يضج بأصوات مبهمة. كانت بابا عمرو محاصرة من قبل قوات الأسد تحاول أن تجتث المقاومة المسلحة وتدكها بالمدفعية الثقيلة. حصار دام شهراً خلّف وراءه دمار الحي الشعبي على رؤوس ساكنيه. أصابني جزع وأنا أسمع هدير القصف حياً يهز أطراف المكان، بينما رامي يشرح بإسهاب عن عملية نزوح السكان من حي الإنشاءات. لم أعتد بعد على صوت القذائف الذي سيصبح معزوفة أبدية لحمص الندية. كان رامي يهدئ روعي ويقول بثقة أن كل شيء على مايرام. لم نكن نعلم ما يخبئه القدر بعد عشرة أيام، رامي سيصبح شهيداً.
بعد أيام تلقيت رسالة نصية على السكايب من أبو محمد. كان حاضراً في المكان يسمع حديث رامي. قال أنه كان مصاباً في القصف على الخالدية، وأنه انتقل إلى بابا عمرو للعمل مع رامي في المركز الإعلامي، وهو قد قرأ احدى مقالاتي عن حمص ولديه قصة لأرويها. سألته عن تفاصيلها فكتب:
'والدي عمره 52 عاماً، كان يعمل في شركة للبناء في حمص. بعد الثورة اضطّر للعمل كسائق ميكروباص لإعالة أسرتنا الكبيرة التي تضم 13 فرداً. أوقفه جند النظام عند أحد الحواجز وطلبوا منه أن ينقل بعض الشبيحة من الزهراء إلى فيروزة، أطاعهم خوفاً وتحسباً للأمر، طلبوا منه مرة أخرى فانصاع لأمرهم مكرهاً، وفي المرة الثالثة رفض الأمر واعتذر بأنه سيطرد من عمله إذا غيّر مسار باصه. حدث ذلك في يوم خميس من رمضان، تلاه يوم جمعة التظاهر، في يوم السبت أوقفوه عند الحاجز وأنزلوا كل الركاب. كانت الساعة 4:30 مساء وهو صائم، اقتادوه إلى مدرسة قريبة يستخدمونها كقاعدة. تعرّض هناك للضرب والتعذيب والتنكيل بالبنادق حتى لفظ أنفاسه الأخيرة خلال ساعة. نقلت جثته إلى المستشفى العسكري ثم إلى المستشفى الوطني، وتلقينا مكالمة في الساعة 7:15 مساء ونحن على مائدة الإفطار لإستلام الجثة. كان ذلك في 27 من رمضان. جثمانه قد تلّون بالكدمات ولم يبق جزء من جسده لم يتعرّض للضرب، حتى حنكه قد كسر، ويبدو أنه في لحظاته الأخيرة كان يحاول أن يرفع سبابته بالشهادة فأحرقت هذه الإصبع بحديد محمّى'.
انتهت رسالته، ولم أعلّق شيئاً.
كتب بعد دقائق:عندك أي أسئلة؟
أجبت: عم ببكي.
ردّ: وأنا كمان. هل ستكتبين قصة والدي؟
أجبت: نعم.
وكانت نهاية حديثه: أنا عبود ابن حمص.
أيام عصيبة وأنا مشدودة إلى الشاشة مثل بقية السوريين أشاهد الدمار والموت يخيم على حي بابا عمرو بقصف مدفعية الأسد ودباباته. عرفت خلالها الكثير عن عبود. قبل 15 آذار/مارس 2011 كان شاباً يافعاً يحاول أن يبدأ عملاً ما بعد أن أتمّ خدمة العلم الإجبارية. شارك في مظاهرات الثورة ثم بدأ بتصوير التظاهر بهاتفه الخلوي. في صيف 2011 تعرّض للاعتقال في البياضة، كان الجنود يداهمون البيوت بحثاً عن أي متظاهر ضد الأسد، أحيط به في منزله مع كل الأدلة التي تجرّمه من هاتف نقال وكومبيوتر يحمل مواداً مصورة. فقامت عمته بإخفاء أجهزته في ثنايا معطفها واجتازت حاجز التفتيش بنجاح، بينما خضع عبود لتفتيش دقيق خرج منه سالماً.
في حمص التقى بصديقه عدنان عبد الدايم (27 سنة) هو من رواد إعلاميي الثورة الذين استبدلوا الهاتف النقال بالكاميرا، وهو أيضاً من الرواد الذين قُتلوا بسبب الكاميرا، فقد أصيب برصاصة قناص غادر في رأسه من الخلف وهو خارج من الجامع في أول شهر رمضان. خسر عبود أعز صديق كما خسر أباه قبل نهاية الشهر الكريم.
في 21 شباط/فبراير 2012 تلقيت رسالة نصية من عبود: رامي قد أصيب. كنت عند طبيب الأسنان جالسة وفمي مفتوح وعيناي مسمرتان على شاشة هاتفي، أصلّي أن تكون الرسالة خاطئة، ولكن تلتها رسالة أقسى: نزف رامي حتى الموت. كانت هذه أشد جلسات الأسنان ألما ً في حياتي.
سيطر الحزن على عبود، كان وحيداً في مركز الإعلام وقد بدا من خلفه علم الثورة الكبير على الحائط الذي عرف فيما بعد بعلم باباعمرو. أرسل لي فيديو عن رامي لتنزيله على اليوتوب، وكانت هذه أول مشاركة لي في فيديو الثورة. كان رامي يعدّ الأيام التي يقضيها بعيداً عن طفلته الصغيرة مريم، ومع أنه لمّح في رسالته قبل ساعات على السكايب أنها قد تكون الأخيرة، إلا أنني على يقين أنه يريد الحياة.
في أواخر شباط/فبراير الماضي، أخبرني عبود أن المقاتلين يضعون خطة للانسحاب من بابا عمرو وحماية بقية المدنيين المحاصرين قبل أن تداهمهم كتائب الأسد. وانقطعت أخباره لأيام، شعرت بالقلق وسألت عنه النشطاء فلم يعلم أحد مصيره. أخيراً جاءتني رسالة من عبود تحمل صوراً له وهو مكسوٍ بغطاء من الثلج. كبطاقة بريدية كان مبتسماً ويبدو أصغر سناً مما توقعت، في أوائل العشرين أو ربما أصغر. أخبرني أنهم انسحبوا من بابا عمرو تحت القصف وسلكوا طرقاً ملتوية خارج المدينة يغطيهم الثلج ويخفيهم عن أعين الشبيحة. كان قد أخفى معه شيئاً من المركز الإعلامي المهجور.. علم بابا عمرو.
منذ ذلك الوقت تتالت الرسائل والسكايب من عبود، أسمع فيها آذان الفجر من جامع خالد بن الوليد أو أشاهد القمر مكتملاً يسطع في سماء حمص، أو أتفحص فجوة قصف حديثة في مبانٍ حية. كنا نتحدث عن بعدنا عن أسرتنا، عن آمالنا في مستقبل سورية، عن أخطار الطائفية وعن كرة القدم عندما كان يتابع مباريات كأس أوربا، عن وجبات الطعام العائلي التي يفتقدها، وكنا دائماً نتحدث عن الموت.
كان يبدو محبطاً من تقاعس العرب والمجتمع الدولي عن وقف العنف المخزي على الشعب السوري الذي يصوره كل يوم، ما يدعوه الى ترك عمله الإعلامي والإنضمام إلى الجيش الحر للدفاع عن حمص. وكنت أذكّره دائماً بدور الإعلام، بأهمية صوته وبثه المباشر، يوثق الحدث وينقله الى ملايين الناس. كنت أشعر بالنفاق وأنا أكتب له: لا تقاتل .. لا تحمل السلاح، وأخفي ما أودّ كتابته لكنه يغضبه: عليك أن تبقى حياً.
في أحد صباحات تموز كان يتمركز في البرج، هو يحب هذا الموقع لأنه يتيح له 360 درجة رؤية لتصوير القصف من كل الجهات. ولكن يمكن كشف موقع البث عبر الأقمار الصناعية واستهدافه بالقصف. أصابت قذيفة الجدار خلفه وهو يصور، وشاهدت الفيديو لعبود ورفيقه معفرّين بالتراب، يبحثان عن بقية الأجهزة والكاميرات بين الحطام ثم انطلقا عائدين والناس تحييهما. في المساء اشتدت الآلام فيهما ولم يكن هناك أي مركز للعلاج، نقل رفيقه إلى تركيا لإصابته البالغة، وبقي عبود طريح الفراش لعدة أيام. كنت أراقب ماجرى محنقة، كيف يذهب إلى البرج وهو يعلم أنه مكشوف من قبل النظام؟ لماذا الإصرار على توثيق أفلام لعالم لا يهمه الأمر؟ كم إنسان يجب أن يقتل لمجرد حمل الكاميرا؟ ألم نشاهد ما يكفي؟.
في صباح آخر جاءت رسالة جزعة من عبود: 'فقدت الغوالي.. خسرت أعز أصدقائي'. في 27 أيار بعد مجزرة الحولة فقدت شبكة الشام الإخبارية (SNN) لنشطاء الثورة ثلاثة من مراسليها في حمص: أبو ياسر، أبو عمر والسباعي في كمين نصب لهم أثناء تغطيتهم لعملية للجيش الحر في دمشق. بعد المأساة المحزنة كتب محبطاً 'أشعر أنني سأموت'. صعقت وفكرت يجب أن يترك حمص فوراً، كتبت: كفى أليس كافياً ما فعلت؟ كان عنيداً ومدافعاً كعادته: لن أتوقف، لابد أن أكمل ماعزمنا عليه، لن أخون أصدقائي وإخواني ومعلمي، سألحق بهم تاركاً هذا العالم القذر، هذه الحياة ليست لي، هي للجيل القادم ليحيا ويقوم على أجسادنا من أجل تحرير سورية.
أصبح عبود رئيس مركز شبكة الشام الإعلامية في حمص. طلب من الشركة حسابdropboxخاص لتحميل صوره لأمه وعائلته، ووضع اسمي على الملف. سأله النشطاء بدهشة: هل تريد حقاً أن تضم أمل؟ أنت لا تعرف من هي؟ أجاب : إنها من عائلتي.
طلب مني أن أكتب قصة والده وقد وعدتّه بها. ولكني عرفت أن قصة الوالد لم تكن لتُحكى بدون قصة الابن، وهو يصرّ على عدم ذكر قصته. كان يسألني أحياناً عن قصة والده فأجيب محرجة أنني أشرع في كتابتها، فيمزح قائلاً: هل تنتظرين حتى أموت فيكون لك قصة شهيدين بواحدة؟
في أحد أيام الربيع الماضي، أخبرني عبود أن صحافياً يريد أن ينشر قصته، شعرت بالضيق. من هو هذا الصحفي الذي أقنع عبود أن يخبر قصته؟ هذه القصة لي. قال ملطفاً: إنها قصتك. كل منكما سيسردها بإسلوبه الخاص. هو يريد أن يصنع فيلماً عن نشاطي في الثورة والأفلام التي صورتها. وافقت مكرهة .ثم علمت أن صانع الفيلم هو الناشط الإعلامي المحبب باسل شحادة الذي ترك منحة دراسية أكاديمية في أميركا وانضم إلى النشطاء في حمص ليوثق الأحداث فيها. اجتمع باسل بعبود في مجلس العزاء بعد مقتل زملائه، أمسك بيده وقال: لابد أن نعمل شيئاً يخلّد ذكراهم، سأراك غداً لوضع خطة ذلك. قتل باسل برصاص قناص في طريقه إلى منزله.
في 17 آب/اغسطس الماضي خسرت شبكة الشام SNN أحد محرريها، الشاب أبو العز الذي خلف خاله أبو عمر الشهيد. كان النشطاء في SNN يحثّونه أن يترك الإعلام ويغادر حمص حيث يستطيع دعم الثورة من خارج سورية. ولكنه رفض وأصّر أن يمضي قدماً في تركة خاله. كان يريد الموت في حمص. في هذا اليوم اخترق صاروخ جسد أبو العز وقطّعه أشلاء كما قتل معه ثمانية شهداء، تناثرت أجسادهم على الطريق فقام عبود ورفاقه بجمعها في أكياس ودفنها في مقبرة جماعية. يقول: وجدنا يده فيما بعد، فعدنا ودفنّاها مع بقية الأجزاء. كنت أتساءل في قلبي ما الذي أصابنا حتى يكون حديثنا اليومي عن الموت ودفن أشلاء الأجساد؟ اضطلعت على صور كان أبو العز قد التقطها، عن أماكن الدمار التي خلفتها قذائف رجّت لها حمص. وصلتنا صورة لأبو العز. كان يرتدي قميصاً أحمر، شعره أسود مجعد، ووجهه بوضعية جانبية تبرز أنفه المستقيم الجميل، ملامحه الدقيقة تشابه خاله. كان اسمه فياض الصباغ ولكنه كبر على اسم آخر.. أبو العز رجل البأس والإرادة.
مضت شهور منذ قصة عبود الموعودة. أصابني التشاؤم والحذر منها بعد تساقط الشهداء من حوله. أصبح لديّ قناعة أنه مادامت القصة تقبع ناقصة بين أوراقي، سيبقى عبود حيّاً. حين قصف البرج تساءلت ماذا لو قتل في هذا اليوم؟ هل يمكن لضميري أن يهدأ لوعد غير موفًًى لإنسان ميّت؟ قصتي غير المنشورة لن تقيه من قصص يصورها كل يوم. هي قصصه التي سيكون لها دور في مقتله.
كانت حمص لديّ مجرد محطة استراحة في الطريق ما بين حلب ودمشق، هي منبع للفكاهة الطريفة، ومصدر للباذنجان الحمصي المميّز بلونه الأرجواني وطعمه اللذيذ. ولكنها أضحت شيئاً آخر من خلال عدسة الثورة. أصبحت رمز المقاومة والصمود. أصبحت رمز الوحدة والوفاء. وأصبحت أيقونة وسط الدمار والموت. أصبحت هي عبود. عنما أشاهد مقاطع بثه المباشر، أجتاز بعقلي مشاهد العنف وأصوات الذعر إلى خلف الكاميرا.. إلى رجل شاب يقف ببطولة أمام قصف دبابة يتحداها بكاميرته الصامدة.
ملف عبود على DROPBOX يشعرني بأنني أتفحص بطاقة بريد من عالم آخر. يلتقط صوراً له مع رفاقه من حمص وسط الدمار والأطلال، وتبدو على وجوههم السعادة والعزة. لا مكان للمذلة بعد الآن. إنهم أحياء هزموا الموت إلى حين.
مثل إعصار كاسر دهمتنا الثورة على حين غرة، ولم نكن على أهبة الاستعداد لها. لم أختبر من قبل لحظات الترقب الطاحنة مابين 'رامي قد أصيب' و'رامي أصبح شهيداً'. لم أكن جاهزة لتصوّر وجه أبو العز المتجمد بصرخة ألم مع رأسه المشظّى، لأعيده في ذاكرتي وجهاً وسيماً في صورته بعد مقتله. ولم أكن مستعدّة لشعور أسف جارح من غيرتي من باسل شحادة على قصة كان يمكن أن يحكيها بإسلوب أفضل مني، لو كان حياً.
عبود أيضاً لم يكن مستعداً لأعباء الثورة. لم يكن متمرساً عندما صوّر جثمان أبيه الملطخ بالكدمات، أو أن يلمّ أشلاء أبو العز من الطريق. لم يعلم أن عليه حماية أطفال ببندقيته وهم يلعبون كرة القدم، وهو كان قبل شهور يشاركهم في اللعب. لم يكن يدر أنه سيبقى وحيداً في حمص يحمل الكاميرا ويسجل الحقيقة الدامية. ولا خطر على باله أن يسأل امرأة من طرف الأرض، لم يرها قط: مارأيك، هل الاستشهاد أفضل، أم الزواج بفتاة من حمص؟ فأجيب دائماً ببساطة مؤلمة: الأفضل أن تبقى حياً.
هذا الشاب اليافع ذو الصوت الخافت الذي كان جريحاً ينصت إلى حديثي مع رامي، في غرفة تعج برجال أكبر وأمتن منه، تحول إلى أحد شهود حمص الأحياء. رفض اللجوء إلى لبنان وعاهد أن لا يترك حمص أبداً. لا يعلم إذا غادرها من سيكمل المسيرة بعده؟ يكرر دائماً قسمه المعهود: لن أترك إلا بالنصر او الشهادة.
كان من المفترض أن تكون هذه قصة أبو عبود فقط. أصرّ أن لا يُدرج في قصة الأبطال والشهداء، تساءل بألم لماذا يُصاب بالجروح ولا يستشهد، إذا كان فعلاً يستحق الشهادة؟ ولكن القصة أصبحت أكبر من مقتل أب وبطولة ابن. هي قصة عيون على حمص خلف العدسات. هي قصة لم يسمح القدر لباسل أن يحكيها. قصة أبو العز وخاله أبو عمر، و رامي السيد وابن عمه باسل السيد، وعدنان عبد الدايم وأبو سليمان، وأحمد حمّادة الذي بثّ حدث مقتله بكاميرته المضطربة. هي قصة ثلّة مجهولة من هواة الإعلام من بينهم 22 شهيداً من شبكة الشام قضوا في سورية من أجل توثيق أحداث الثورة. أصبحت حياتنا معلّقة على عدساتهم.
لم أعد أطلب من عبود أن يترك حمص، أعرف جيداً أنه لن يغادرها مطلقاً. أرقب معه قنابل الغدر تدّك حمص. ونتكلم عن أشياء أخرى.. عن حياتنا، عن أسرتينا وغالباً عن الموت. أشاهد دخان الدمار يلفّ أحياء المدينة وأسمع دوي القذائف قريبة بعيدة، ولاأفصح عما يتردد في نفسي: ألا يكفي ذلك؟ الم تكتف بما قدمت؟ ألم تصور ما فيه الكفاية؟.
يتردد ذلك في رأسي بتواتر يختلط بهدير القصف يدكّ حمص حتى لا أدرك من هو المعنيّ بهذه الكلمات. هل هي لمن هم خلف العدسات؟ أم لمن يقومون بالقصف أمام العدسات؟ أم لمن يشاهدون أمام الشاشات؟
ألم تشاهدوا ما يكفي ؟ ألم ترقبوا ما يكفي؟ الا يكفيكم كل ذلك؟
كفى...
عن الإنكليزية، ترجمة صفية هنانو
' كاتبة سورية تقيم في أمريكا
عن جريدة القدس العربي.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |