أنا رجلٌ حر / ج1 - باولو كويلو
خاص ألف
2012-12-25
تدعى إستير؛ هي مراسلة حرب عادت لتوها من العراق بسبب الاجتياح الوشيك لتلك البلد؛ هي في الثلاثين من العمر، متزوجة، لا أولاد لها . هورجل مجهول الهوية، ما بين الثالثة والعشرين والخامسة والعشرين من العمر، ذو بشرة داكنة، وملمح كملمح أهل منغوليا. شوهد الاثنان معاًلآخر مرة في مقهى في شارع " فوبور سان أونوريه " .
أخبرت الشرطة أنهما التقيا من قبل، لكن لا يعرف أحد كم من المرات: لطالما قالت إستير إن الرجل، الذي ستر هويته الحقيقية خلف اسم ميخائيل،كان شديد الأهمية، غير أنها لم تشرح قط لو كان مهما لمهنتها كصحافية، أم لشخصها كامرأة .
بدأت الشرطة تحقيقاً رسمياً. طرحت نظريات مختلفة - خطف، ابتزاز، خطف أفضى إلى جريمة قتل - لم تجاوز أي منها حدود الاحتمال؛ لأن إستير، بعملها في البحث عن المعلومات، كانت عرضة للاتصال المتكرر مع أشخاص يرتبطون بوحدات إرهابية . اكتشفت الشرطة أن الأسابيع السابقة لاختفائها، شهدت سحباً منتظم لمبالغ مالية من حسابهاالمصرفي :
شعر المسؤولون عن التحقيق أن هذا المال ربما كان عبارة عن دفعات مسددة لقاء المعلومات . لم تأخذ معها بدلات ملابسها ، لكن من الغرابة بمكان أنه لم يعثر على جواز سفرها .
هو شاب غريب، في مقتبل العمر، لا سجل عدلياً له، لادلالة على هويته .
وهي إستير، في الثلاثين من العمر، حائزة على جائزتين عالميتين في الصحافة، هي متزوجة. إنها زوجتي.
أمسي على الفور مشتبها بأمره. يتم توقيفي لأني أرفض القول أين كنت يوم اختفائها. مع ذلك، يفتح مأمور السجن باب زنزانتي،قائلاً إني رجل حر .
ولم أكن رجل حراً ؟ لأنه في يومنا، الجميع يعلم كل شيء عن الجميع؛ ما عليك إلا السؤال، فتصلك المعلومات لحظتها : أين استخدمت بطاقة الاعتماد، أين تقضي وقتك، من عاشرت. في حالتي، كان الأمر أسهل بكثير: تقدمت امرأة، صحافية أخرى، صديقة زوجتي، ومطلقة ـ وهو السبب الذي لم يمنعها من الإفصاح عن معاشرتي لها ـ كشاهدة لصالحي عندما سمعت أنني موقوف. قدمت دليلاً حسيّاً على وجودي معها ذلك اليوم وفي ليلة اختفاء إستير .
أتكلم إلى رئيس المفتشين الذي يعيد إلي متلكاتي . يقدم لي اعتذاره مضيفاً أن توقيفي بهذه الطريقة السريعة أمر كلي القانونية، ولا أساس لي أرتكز عليه لاتهام الحكومة أو لمقاضاتها. أقول له إنني لا أملك أدنى نية للقيام بأي من الأمرين وإنني مدرك تمام الإدراك أننا جميعا في عداد المشبوهين باستمرار،وأننا تحت المراقبة على مدار الساعة، حتى ولو لم نرتكب أي جرم .
يقول: « أنت حر طليق » ؛ مردداً كلماته على مسمع مأمور السجن .
أسأله : أو ليس من المحتمل أن مكروها أصاب زوجتي؟ فذات مرة، وبالنظر إلى الشبكة صلاتها الواسعة في وسط عالم الإرهاب المتسم بالإجرام، قالت لي إنها تشعر أحيانا بأنها ملاحقة .
يبدل المفتش الموضوع . أصر ، لكنه لا يقول شيئاً .
أسأله هل بإمكانها السفر بجواز سفرها؛ فيقول، بالطبع، مادامت لم ترتكب جرماً. ما الذي يحول دون دخولها البلد ومغادرتها بحرية؟
. » إذا أيحتمل أنها ليست في فرنسا؟ «
هل تعتقد أنها هجرتك بسبب تلك المرأة التي تعاشرها؟
أجيبه: هذا ليس من شأنك. يتوقف المفتش عن الكلام قليلاً ويتقنّع وجهه بالجدية؛ يقول إني أوقفت بداعي الإجراءات الروتينية، غير أنه شديد الاستياءلاختفاء زوجتي . هو متزوج، ومع أن كتبي لا تروق له ( إذا، هو ليس بقدر الجهل المتبدي عليه ! وهو يعرف من أكون ! )، يمكنه أن يضع نفسه مكاني ويتصور ما أمر به .
أسأله ما علي فعله بعد ذاك. يعطيني بطاقته ويطلب إلي الاتصال به إذا ما علمت بأي أمر . سبق أن مررت بهذا المشهد في عدد من الأفلام، ولم أقتنع؛ إن المفتشين على الدوام يعرفون أكثر مما يقرون بأنهم يعرفون .
يسألني إذا قابلت يوما الشخص الذي كانت إستير معه، آخر مرة شوهدت فيها على قيد الحياة . أقول إني أعرف اسمه الأول. لكني لا أعرفه شخصياً .
يسألني هل كنا نواجه أي مشكلات زوجية. أقول إننا متزوجان منذ عشرة أعوام ونواجه المشكلات التي يواجهها معظم المتزوجين،لا أكثر .
يسألني بلطف هل كنا قد تناقشنا في موضوع الطلاق مؤخراً ؟ أم هل كانت زوجتي تفكر في هجري. أخبره أننا لم نفكر يوماً في احتمال ذلك حتى، وأكرر إننا " كسائر المتزوجين " ، نختلف في الرأي أحياناً .
بشكل متكرر أم أحياناً فقط؟
أقول، أحياناً .
يسألني وبلطف أيضاً هل اشتبهت بأنني على علاقة بصديقتها.أقول له إنها كانت المرة الأولى - والأخيرة - التي ضاجعت فيها صديقتها . لم تكن علاقة غرامية؛ حصلت بكل بساطة لغياب أي أمر آخر نفعله. كان يوماً مملاً نوعاً ما، لم يكن لدى أي منا ارتباط ملح بعد الغداء، ولعبة الإغراءات تضيف دوماً بعض الزخم إلى الحياة، وهذا ما أفضى بنا إلى السرير معاً .
" يفضي بك الأمر إلى السرير مع إحداهن لمجرد أن اليوم ممل نوعا ما؟ "
فكرت أن أقول له إن مثل هذه الأمورلا تكاد تشكل جزءًا من تحقيقاته . لكني في حاجة إلى مساعدته، أو قد أحتاج إليها لاحقاً. هناك، في النهاية، تلك المؤسسة الوهمية التي تدعى " مصرف الخدمة " ، والتي طالما وجدتها شديدة النفع .
" أحياناً، نعم. ما من أمر مشوق آخر نقوم به، كانت المرأة تبحث عن الإثارة، وأنا أبحث عن المغامرة، وهكذا، في اليوم التالي، ادعى كل منا أن شيئاً لم يحدث، والحياة تستمر " .
يشكرني، يمد يده ويقول إن في عالمه لا تجري الأمور تماماً على هذا النحو . بحكم الطبيعة، يتولد الملل والضجر، تماماً كتولد الرغبة في المضاجعة، لكن من الممكن التحكم في كل أمر، ولا أحد يتصرف على هوى أفكاره أو رغباته .
جاء رده بشكل ملاحظ : " ربما تمتع الفنانون بحرية أكبر " .
أقولإنني آلف عالمه لكنني لا أرغب في المقارنة بين آرائنا المختلفة حول المجتمع والناس . أسكت بانتظار خطوته التالية .
ثم يقول وقد خاب ظنه قليلاً برفض هذا الكاتب مناقشة مأمور الشرطة، " بما أننا نتحدث عن الحرية، فأنت حر طليق . وبما أنني قابلتك، سوف أقرأ كتبك . ومع إني قلت إنها لا تروق لي، فأنا في الواقع، لم يسبق أن قرأت أحدها " . هذه ليست المرة الأولى أو الأخيرة التي سأسمع فيها هذه الكلمات.على الأقل، أكسبتني هذه اللحظة قارئاً إضافياً . أحييه وأرحل .
أنا حر . خارج من السجن، وزوجتي اختفت في ظروف غامضة، لا أتبع أي جدول زمني ثابت للعمل، لامشكلة لدي في التقاء أناس جدد، أنا ثري، مشهور، وإذا كانت إستير قد هجرتني حقاً،فسرعان ما سأجد بديلة عنها. أنا حر، أنا مستقل .
لكن، ما الحرية؟
لقد قضيت جزءاً وافراً من حياتي عبداً لشيء أو لآخر، فلابد أنني أعرف معنى تلك الكلمة . منذ صغري، كافحت لجعل الحرية، أثمن مقتنياتي. خضت صراعاً مع والديّ، اللذين أرادا أن أكون مهندساً، وليس كاتباً. صارعت بقية الصبية في المدرسة، الذين اتخذوني أضحوكة لنكاتهم المبتذلة؛ وكان لي، فقط بعد أن نزف دم غزير من أنفي ومن أنوفهم، فقط بعد أمسيات عديدة اضطررت فيها إلى إخفاء الندوب عن أمي - لأنه كان وقفاً علي أنا، وليس عليها، أن أحل مشاكلي - كان لي أن أظهر للجميع أني قادر على تحمل الهزيمة من دون أن أنفجر باكياً. صارعت للحصول على وظيفة أدعم نفسي بها، وعملت في خدمة التوصيل إلى المنازل لدى أحد المتاجر الخردة، لكي أكون حراً من تلك الخصلة الراسخة من الابتزاز العائلي : " سوف نعطيك المال شرط أن تقوم بهذا وذاك " .
كافحت - إنمابفشل - من أجل الفتاة التي أحببت عندما كنت مراهقاً، والتي أحبتني في المقابل . هجرتني في نهاية المطاف بعد أن أقنعها والداها بأنني بلا مستقبل .
خضت صراعاً مع عالم الصحافة العدائي - وظيفتي الثانية - حينما أبقاني مديري في انتظاره لساعات ثلاث؛ وتفضل بملاحظة وجودي عندما شرعت أمزق الكتاب الذي كان يقرأه : نظر إلي بدهشة، ورأى أن أمامه شخصاً يقدر على الصمود أمام العدو ومواجهته، وهي صفات أساسية تخول المرء أن يكون مراسلاً جيداً.
كافحت من أجل الفكر الاشتراكي، دخلت السجن، خرجت منه وواصلت كفاحي، وأنا أشعر وكأنني بطل من أبطال الطبقة الكادحة، إلى أن أصغيت إلى موسيقى فرقة البيتلز وقررت أن موسيقى الروك هي أمتع بكثير من ماركس . صارعت للتحلي بالشجاعة لكي أهجر زوجتي الأولى والثانية فالثالثة، لأن ما شعرت به من حب تجاههن لم يدم، واحتجت إلى المضي قدماً حتى عثرت على من و جدت في العالم لكي تجدني؛ وهي لم تكن أياً من الثلاث . صارعت للتحلي بالشجاعة لترك عملي في الصحيفة وأخوض مغامرة وضع كتاب، وأنا على تمام المعرفة بأن لا أحد في بلدي يمكنه كسب عيشه ككاتب . استسلمت بعد سنة، بعد أن وضعت صفحات تجاوز الألف، صفحات تفيض عبقرية،إلى درجة أنني شخصياً عجزت عن فهمها .
وفي غمرة كفاحي، سمعت أشخاصاً آخرين يتحدثون عن الحرية . وكلما دافعوا عن هذا الحق الفريد، استعبدتهم رغبات أهاليهم . استعبدهم زواج قطعوا خلاله وعد البقاء مع القرين « مدى العمر» استعبدهم ميزان الوزن، والحمية الغذائية ومشروعات نصف ها غير منجز . استعبدهم عشاق عجزوا عن مصارحتهم بقول « لا » أو « انتهت العلاقة . » استعبدتهم عطل نهاية الأسبوع حينما اضطروا إلى تناول الغداء مع أشخاص لا يروقون لهم حتى . باتوا عبدةً للثراء، لمظاهر الثراء، لمظهر من مظاهر الثراء. عبدةً لحياة لم يختاروها، بل قرروا أن يعيشوها لأن أحدهم تمكن من إقناعهم بأنها لصالحهم .
وهكذا توالت نهاراتهم ولياليهم المتشابهة، نهارات وليال كانت المغامرة فيها مجرد كلمة في كتاب أو صورةعلى الشاشة الصغيرة المضاءة دوماً؛ ومتى انفتح أمامهم الباب، يأتي الرد : " لست مهتماً. لست في المزاج لذلك " .
كيف لهم أن يعرفوا إن كانوا في المزاج للقيام بذلك أم لا، ماداموا لم يجربوه؟ لكن، لا جدوى من السؤال؛ الحقيقة أنهم كانوا يخشون القيام بأي تغيير قد يخل بالعالم الذي درجوا عليه وهم يكبرون .
قال المفتش إنني حر . أنا الآن حر ، وفي السجن كنت حرًا أيضا ، لأن الحرية هي كنزي الأثمن في العالم .
وبالطبع، أودى بي ذلك إلى معاقرة أنواع خمرة لم ترق لي، إلى القيام بأشياء لم يجدر بي فعلها ولن أكررها أبداً .
ترك ذلك ندوباً على جسدي، وفي روحي؛ عنى ذلك أن أؤذي بعض الناس، مع أنني التمست صفحهم مذاك، حينما أدركت أنني عاجز عن فعل أي أمرعلى الإطلاق باستثناء إرغام شخص آخر أن يكون تابعاً لي،في جنوني، في اشتهائي التواق للحياة . وما أنا بآسف على الأوقات الأليمة؛ أحمل ندوبي وكأني بها ميداليات. أعرف أن ثمن الحرية باهظ، أسوة بثمن العبودية؛ الفرق الوحيد بينهما أنك في الحالة الأولى تسدد الثمن بلذة، بابتسامة، حتى عندما توشحها الدموع .
وإذا بي أترك مركز الشرطة، إنه يوم جميل في الخارج، يوم أحد مشمس لا يعكس حالتي الذهنية علىالإطلاق. محامي بانتظاري لمواساتي ببضع كلمات وباقة من الأزهار. يقول إنه هاتف كل المستشفيات وأمكنة حفظ الجثث ) وهو أمر يقدم المرء عليه عندما يخفق أحدهم في العودةإلى المنزل ( ،لكنه لم يعثر على إستير . يقول إنه استطاع أن يمنع الصحافيين من معرفة مكان توقيفي. يقول إنه في حاجة إلى محادثتي لكي نرسم استراتيجية قانونية تساعدني على الدفاع عن نفسي ضد أي اتهام مستقبلي. أشكره على ما تكبده؛ أعلم أنه ليس مهتماً جدياً برسم استراتيجية قانونية، هو لا يريد أن يتركني وحيداً، لأنه لا يثق بردة فعلي ( هل أثمل ويتم توقيفي ثانية؟ هل أثير فضيحة؟ هل أحاول الانتحار؟).أخبره أن علي إنجاز عمل مهم وأن كل منا يعرف حق المعرفة أن لا مشكلة لدي مع القانون . أصر، لكنني لا أترك له خياراً . ففي النهاية، أنا رجل حر .
الحرية. حرية أن يكون المرء وحيدا ًبائساً .
تقلني سيارة أجرة نحو وسط مدينة باريس،أطلب إلى السائق التوقف بي قرب قوس
النصر. انطلق من الشانزيليزيه باتجاه فندق البريستول، حيث كنا أنا وإستير نلتقي دوماً لاحتساء شراب الشوكولاتة الساخن متى رجع أحدنا من رحلة إلى الخارج. كان هذا طقس عودتنا إلى الديار، انغماساً متجدداً في الحب الذي جمعنا، مع أن الحياة ظلت تضعنا على دروب متعاكسة .
ولم أزل أمشي، الناس في ابتسامة، والولد في سرور لما أعطوا من ساعات ربيعية معدودات في عز الشتاء، سيل الازدحام حر كل شيء يبدو منتظماً ، ما عدا أنهم جميعا يجهلون أنني فقدت زوجتي لتوي. هم لا يدعون الجهل، هم لا يبالون حتى .!!
ألا يدركون مدى الألم الذي أشعر به؟ عليهم جميعاً أن يشعروا بالحزن والتعاطف ودعم رجل تنزف روحه الحب كما لو أنها تنزف دماً . لكنهم يتابعون الضحك، تستغرقهم حياتهم البائسة الصغيرة التيلا تكون، إلا في عطلة نهاية السبوع .
يا لها من فكرة سخيفة ! لا بد أن معظم الناس الذين أمر بهم في حالة مزرية، وأنا لا أملك أدنى فكرة كيف يعانون الأمرين ولماذا؟
أدخل حانة؛ أبتاع سجائر؛ يجيبني الشخص هناك باللغة الإنجليزية. أدخل إلى الصيدلية لشراء سكاكر بروح النعناع أحبها جداً، وتتحدث المساعدة إلي باللغةالإنجليزية ( وفي المرتين، طلبت السلع باللغة الفرنسية) . وقبل بلوغي الفندق،يستوقفني صبيان وصلا من فورهما من مدينة تولوز وهما يبحثان عن متجر محدد؛ سبق أن سألا عدداً من الأشخاص، لكن لا أحد يفهم ما يقولان . ما الذي يجري؟ هل تم تغيير اللغات في الأطلس منذ اعتقالي في الساعات الأربع والعشرين الماضية؟
يمكن للسياحة والمال صنع المعجزات، لكن كيف حدث أنني لم ألحظ ذلك من قبل؟ من الواضح أنه مر وقت طويل على لقائي إستير هنا لتناول شراب الشوكولاتة الساخن، مع أن كل منا قد سافر وعاد مرات عدة خلال تلك الفترة . هناك دوما شيء أكثر أهمية . هناك دوماً موعد يستحيل تأجيله. أجل يا حبي، سوف نتناول شراب الشوكولاتة الساخن في المرة المقبلة، سنرجع إلى هنا قريباً ؛ لدي مقابلة شديدة الأهمية اليوم ولا يمكنني اصطحابك من المطار، ولتقلك سيارة أجرة، هاتفي النقال يعمل، اتصلي بي إذا طرأ طارئ . عدا ذلك،أراك الليلة .
هاتفي النقال ! انتشلته من جيبي وأدرته فوراً؛ رنّ مرات عدة، وفي كل مرة كان قلبي يثب بين أضلعي، كنت أرى أسماء الشخاص الذين حاولوا الاتصال بي، على الشاشة الصغيرة، لكني لم أجب أياً منهم . رجوت أن يظهر أحد "مجهول الهوية"،لأنه سيكون هي، ذلك أن حوالي عشرين شخصاً فقط يعرفون رقمي وأقسموا على عدم إعطائه لأحد . لابد أنهم كانوا على أحر من الجمر لمعرفة ما حدث، هم يبغون مساعدتي ) لكن كيف؟ )، وسؤالي إن كنت في حاجة إلى أي شيء .
ظل الهاتف يرنّ ، أأجيب؟ أو ألتقي هؤلاء الأشخاص؟
أقرر أن أبقى لوحدي إلى أن أتمكن من تصور مجريات الحال .
أبلغ فندق البريستول، الذي طالما وصفته إستير بأنه أحد الفنادق القليلة في باريس حيث يعامل الزبائن بصفة ضيوف وليس كمشردين سعياً إلى ملجأ . تلقى علي التحية كما لو كنت صديقا ً للعائلة؛ أختار طاولة محاذية لساعة فاخرة؛ أستمع إلى الموسيقى وأنظر إلى الحديقة .
علي أن أكون عملياً ، أن أدرس الخيارات؛ ففي النهاية، الحياة تستمر . لست أول رجل، ولن أكون الأخير الذي تهجره زوجته، لكن هل كان ضرورياً أن يحدث ذلك في يوم مشمس، حيث الجميع، في الشارع، يبتسمون والأولاد يغنون، حيث أولى بوادر الربيع بدأت تظهر، الشمس تسطع و السائقون يتوقفون عند تقاطع الطرقات ليعبر المارة؟
أتناول منديلاً ورقياً. سوف أعمل على نزع هذه الأفكار من رأسي وأخطها على الورق . فلندع الشعورجانباً، ولنرَ ما علي فعله :
أ/ التوقف عند احتمال أنها قد خطفت فعلاً ، أن حياتها في خطر في هذه اللحظة بالذات، وأنني أنا، بصفتي زوجها ورفيقها الثابت،علي بالتالي أن أجول الدنيا بسمائها وأرضها بحثاً عنها .
الرد على هذا الاحتمال : لقد اصطحبتْ جواز سفرها. تجهل الشرطة ذلك، لكنها اصطحبت حاجات شخصية عديدة أيضاً، إحداها محفظة تحوي أيقونات لقديسين شفيعين درجت على اصطحابها في سفرها .كما أنها سحبت المال من حسابها المصرفي.
الاستنتاج: من البديهي أنها كانت تتهيأ للرحيل .
ب / التوقف عند احتمال أنها صدقت وعداً قطعه عليه أحدهم وتبين أنه فخ .
الرد : غالباً ما ألقت نفسها في أوضاع خطيرة مسبقاً. هذا جزء من عملها، لكنهاكانت تنذرني دوماً متى فعلت ذلك، لأنني كنت الشخص الوحيد الذي تثق به ثقة عمياء.تعودت أن تقول لي أين ستكون، من ستقابل ) غير أنها، كانت تستخدم اسم الشخص
الحركي في العادة - لئلا تعرضني للخطر )، وما علي فعله إذا لم ترجع في وقت معين .
الاستنتاج: لم تكن تخطط للقاء أحد مخبريها .
ج / التوقف عند احتمال أنها التقت رجلاً آخر .
الرد: لا رد . من بين جميع الفرضيات، هذه الفرضيةالوحيدة المنطقية، مع ذلك، فإنني لا أقبلها. لا أقبل أن تكون قد رحلت هكذا، من دون سبب. فكلنا، أنا وإستير، اعتددنا بأنفسنا على الدوام في مواجهة مصاعب الحياة سويا . تعذبنا، لكن لم يكذب أحدنا على الآخر يوماً. غير أن كتمان علاقاتنا الغرامية خارج إطار الزوجية كان جزءاً من قواعداللعبة . كنت مدركاً أنها تغيرت كثيراً مذ التقت ذلك الشاب ميخائيل. لكن هل يبرر ذلك نهاية زواج دام عقداً؟
حتى وإن كانت قد ضاجعته وأغرمت به، أو لن تقيس في كفتي ميزان كل الوقت الذي قضيناه معاً وكلما حصلنا عليه قبل أن تنطلق لخوض مغامرة لا رجوع عنها؟ كانت حرة أن تسافر متى أرادت،عاشت محاطة بالرجال، بالجيوش الذين طال بهم الزمن مذ رأوا أنثى، لكنني لم أطرح عليها يوماً أي أسئلة، وهي لم تخبرني يوماً بأي شيء . كان كل منا حر، وكنا نفخر بذلك. لكن إستير اختفت وتركت دلائل مرئية لي وحدي، كما لو أنها بمثابة رسالة سرية : أنا راحلة . لماذا؟ أو هذا سؤال جدير بالإجابة؟
لا. لأن ما يتخفّى في الجواب هو عجزي عن إبقاء المرأة التي أحب إلى جانبي. أم أن الجدير إيجادها وإقناعهابالعودة؟ التوسل إليها، التضرع إليها أن تمنح زواجنا فرصة ثانية؟
يبدو هذا سخيفا: لمن الفضل أن أتعذب كما تعذبت ماضياً، عندما هجرني أناس آخرون أحببتهم. لمن الفضل أن ألعق جروحي ببساطة، كما لعقتها ماضياً. لبعض الوقت، ستكون هاجسي، سأذوق المر، سيملّ مني أصدقائي لأن كل ما سأتحدث عنه هو هجر زوجتي لي . سأحاول تبرير ماحصل، أقضي أياماً وليالي أسترجع كل لحظة بقربها، سأستنتج أنها كانت صعبة للغاية، مع أنني حاولت مراراً .
نهاية الجزء الأول
إعداد: ألف
يتبع...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |