الأمّة الافتراضية
2006-11-14
ما إن يغضب الله عليك، وتستمع لمسؤول سياسي مدجن، أو تقع بين فكي فقيه مسمّن، أومعمم ديني مسعدن، يهرف بأي موضوع، ويتحدث عن أية قضية، ومهما كان هذا الموضوع تافهاً، والقضية متواضعة، والمسألة بسيطة، حتى تراه يتحدث باسم "الأمة" كلها، ونيابة عنها، ويستنهضها ، ويدعوها للإدلاء بدلوها به، ويطلب منها أن تشارك في هذه المعركة المصيرية الحاسمة. وأن هذه المعركة هي لـ"الأمة" كلها، ومن نتاج عبقريتها، وخلاصة لتضافر جهودها. وما إن يبدأ هذا المسؤول، أو ذاك المعمم بالكلام، حتى يفور، ويرغي، ويزبد، نيابة عن "الأمة" كلها مبشراً بالخير لـ"أمته" كلها من وراء مشروعه الصغير. هذه "الأمة" في حقيقة الأمر مغلوب على أمرها، والتي نكبت به، وبأمثاله، من المتفوهين الذين لا هم، ولا شغل لهم على الإطلاق سوى الصراخ، والزعيق، وشق الأثواب، وبيع الوعود والأوهام.
ومن يسمعهم، يتكلمون باسم "الأمة"، يعتقد أن هذه الأمة قد فرغت للتو من كل مشاريعها الحضارية، وانتهت من كل معاركها على صُعد محاربة الفقر، والمرض، والبطالة، والتخلف، والأمية، والفساد، وحرية المرأة، والصراع الطبقي، وهي واقفة على أهبة الاستعداد، لتسجيل مزيد من الانتصارات والانجازات الحضارية الكبرى. ولا عمل لها في هذه الأثناء سوى الاستعداد لتلقي المزيد من صيحات التكبير والتهليل، التي يطلقها، هو وسواه. ومن يصغي لهم يعتقد أن هذه "الأمة" التي يتحدثون عنها، هي كائن موجود بشحمه، ولحمه، متأهب للقيام بما توكل إليه من معارك مصيرية، ومهام طارئة جديدة، وأنها كل متجانس، وواحد متوافق فكرياً، وعقائدياً، وبنيوياً، ولا يوجد بينها أية خلافات، أو مشاكل، و صراعات، واقتتال على الحدود وقطع للعلاقات، وطرد للسفراء، وتبادل للشتائم والاتهامات، وأن حدودهم مفتوحة، وصدورهم مشروحة، والتجارة البينية سانحة، والضرائب ممنوعة، والكلفة مرفوعة، وأنها تعيش مع شعوبها، والأصح تابعيها، وسباياها، ورعاياها، حالة من الغزل البريء، وشهر العسل المستمر، منذ انقراض، وانتهاء دولة الخلافة البائدة المنقرضة.
هذه الدولة، دولة الخلافة البائدة، التي يتغنون بها، ويحاولون إعادة إنتاجها، هي في الحقيقة تمثل حالة "الأمة" خير تمثيل. فساد، وتخلف، وفقر، وجهل، وجيوش انكشارية ضعيفة، وأمصار متباعدة، ودولة مريضة مقطعة الأوصال تنهش جسدها الصراعات، ويفتك بها الاحتراب. احتراب بين القبائل والقبائل، والعشائر والعشائر، والملل والملل، والنحلل والنحل، والطوائف والطوائف، والبطون، والأفخاذ، والأرجل، والسيقان. لدرجة أن شعوباً بأكملها، تاهت، وضاعت بين الأرجل، وراحت دهساً تحت السيقان. ويتأتي هذا الخطاب الشمولي التوتاليتاري من روح القطيع، و"الجماعة" التي سادت على مر قرون في هذه الأصقاع حيث أن الفرد ملغى، ولا كرامة، ولا اعتبار له على الإطلاق. وكم تمنيت في سري، وفي علني، وفي حلمي، وفي يقظتي، أن أسمع مسؤولاً، أو فقيهاً، أو داعية يخاطب الفرد، ويتمنى، أو يحاول أن يرفع من مستوى معيشته، ومن شأنه، أو أن يضع خطة خمسية للأفراد، والأشخاص، وليس للقطعان، والجماعات، والأفراد. وهذا الانتقاص، والتقليل من أهمية الفرد، ومن عدم تقدير مواهبه الالشخصية، وتقديس المبادرات الذاتية، هو وراء ما تعيشه "الأمة" من كوارث، ونكبات.
وقبل أن يدعو هذا الفقيه، أو المسؤول، أو الداعية بمشاريع أكبر من قدرته، ويتصدى لمهام أكبر من إمكاناته، وطاقاته، عليه أولاً، ومن باب وعي الواقع والإحاطة العلمية بالقوة الذاتية والقدرات الكامنة، أن يحل مشاكله القطرية الصغيرة، لا بل حتى تلك التي توجد في قريته، ومجتمعه، وأسرته الصغيرة، والتي تبدو وكأنها مشاكل مزمنة، ولن تستطيع قوة في الأرض أن تحلها، أو أن تلحلحها قيد أنملة، قبل أن "يهز" بدنه، ويتنطح شوقاً، وعربدة لحل مشاكل "الأمة" كلها بلا استثناء. وعليه أن يوحد أسرته، ومجتمعه، وقبيلته على أبسط قضية، قبل يتفضل، مشكوراً، باجتياز الحدود وحل مشاكل الآخرين. أنها أمة افتراضية لا وجود لها سوى في خيالات، وأذهان هؤلاء، وإن أكثر ما ينطبق على هؤلاء هو المثل الشعبي القائل:" من كبّر الحجر ما ضرب".
وفي الختام، ألا يحق لنا أن نتساءل أين هي هذه الأمة؟ وكيف هو شكلها؟ ولم لا "تنتخي"، وتدب في أوصالها الحياة، وتنهض، وتعبر عن ذاتها، ووجودها، ولو مرة واحدة، وتستجيب لزعيق، وصراخ، ودعوات المسؤولين، والفقهاء؟
08-أيار-2021
24-أيلول-2007 | |
04-أيلول-2007 | |
17-آب-2007 | |
25-تموز-2007 | |
21-تموز-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |