كيف مرّت الثورة في عيني؟ بابا عمرو برواية محايدة / فارس سعد
2013-01-04
الأيام الأولى للثورة خارج دمشق ودرعا، كانت في حمص، تلك المدينة التي تتوسّط سورية وتشكّل بالنسبة لها مركزاً العصب للطرقات عبر البلاد، ومدخلاً واسعاً عبر ريفها إلى شمال لبنان وشرقه. يبلغ تعداد سكان حمص مليون ومئتي ألف نسمة، يشكّل أهالي حيّ بابا عمرو ما نسبته عشرة بالمئة منهم، وهم كما أغلبيّة سكان المدينة من الطبقة المتوسطة الدنيا، حيث يعمل أغلبهم في أعمال حرّ مهنيّة متواضعة، لاسيما مهن البناء والدهان، وفي حين يستدين 60 بالمئة منهم ابتداءً من اليوم العاشر من كلّ شهر لتأمين معيشته. قلّة منهم وضعه الماديّ جيد، لكن الفقراء قلّة أيضاً، إذ أنّ نسبة جيّدة من أبناء بابا عمرو هم طلاب وخريجو جامعات، أمّا السلفيون فهم نادرون [1] ولا يتجاوز حجمهم ثلاثة بالمئة بحسب محمد الذي قدّم هذه الشهادة...
بابا عمرو أضحى حيّاً شهيراً من حمص، فقد وصف بستالينغراد سورية، حيث جرت فيه معركة مشهودة بعد حصارٍ دام أكثر من شهر أدّى إلى دخول قوات النظام السوري إليه وتهجير سكّانه بالكامل تقريباً. معركة كان لها وقع كبير على أركان السلطة القائمة، حتّى أنّ رئيسها قام بزياره خاطفة له صوّرتها وسائل إعلامه على أنّها انتصارٌ هامّ للجيش على "العصابات المسلحة" وفشل "للمؤامرة" على سورية [2].
في القاهرة التقيته، شابٌّ نحيل في الخامسة والعشرين. بدا متواضعاً إلى درجة من الاعتزاز والثقة، لم تكونا الصفتان الوحيدتان فيه، إنّما رافقتهما صفة أخرى نادرة كثيراً ربما لم أجدها عند أحد ممن التقيتهم من شباب الثورة السورية في القاهرة أو بيروت: إذ كان رجلاً محايداً بقوة، لدرجة جعلت الثوار يعتقدون أنّه "موالي" (للنظام) فقط لأنّه ينتقد بعض تصرّفات عناصر الجيش الحر، مثلما يصفه المتعصّبون السنّة أنّه " علوي" ؟!! لمجرّد أن له أصدقاء من الطائفة العلوية يدافع عنهم بقوّة.
محمد هو الاسم الذي يفضّل أن أسمّيه به. وهو كاتب سياسيّ مبتدئ، لم يدرس الصحافة وحاول أن ينشر دون جدوى. اقترح أن تبدأ روايته عن بابا عمرو بمعلومات ضروريّة كما يقول، لمعرفة الظروف التي أدّت إلى تظاهرات بابا عمرو الأولى. هكذا يقول محمّد أن عدد سكان بابا عمرو 80 إلى 100 ألفاً، أغلبيتهم من الطبقة المتوسطة. "أصدقائي من كلّ مكان في سورية. كان أصدقائي يحذّروني من استمرار العلاقة مع صديقٍ علويّ تعرفت عليه في الجيش". ويعتقد محمد ان النظام السوري هو "نظام الرئيس"، وروسيا لها مصالح في سورية :"لا تدعم روسيا النظام لولا أنّها تعرف أنّ هذا النظام يؤمّن مصالحها، وهي تعلم أنّه سيسقط، لكنّها تدعمه ليس محبّة به، لكن لأنّه يضمن مصالحها!".
لا أحد كان يتوقّع حدوث ثورة في سوريا
أسأله هل كنت تتوقّع ثورة في سورية؟ قال: "يوم سقط حسني مبارك كنت أجلس وابن عمّي، سألني هل تتوقّع حدوث ثورة في سورية؟ كنت مؤيّداً لبشار فاستغربت سؤاله، فسألته "ثورة شو؟ إذا بيطلع عشرة بتحمِد ربّك ومستحيل يطلعوا""... ويقصد خروج عشرة أشخاص في تظاهرة.
إلاّ أنّ أول تظاهرة في حمص خرجت من جامع سيدي خالد (بن الوليد)، بعد درعا بنصف شهر: "خرجنا في يومي جمعة متتاليين، تظاهرنا... وكان هناك أمن وقوّات حفظ نظام. ثمّ خرجت "مسيرة" [3] ضد المظاهرة، فأمر قائد الشرطة عناصره بتفريق المتظاهرين عن المؤيّدين. كنّا ننادي "حرية حرية"، ونتضامن مع درعا، ففرّقونا بعد اعتقال عددٍ من الأشخاص سحبوهم من وسط التظاهرة بخفّة دون أن نشعر بالأمر. وفي التظاهرة الثانية في حمص استخدم الأمن الأسلوب نفسه، وسحب الناس منها دون أن يدري بهم أحد. كنّا ننادي "الشعب يريد إسقاط المحافظ" [4]، وارتفعت صبيّة فوق الأكتاف وراحت تنادي "حرية حرية درعا"، ولأوّل مرة سمعت حمص هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام" فردّد الناس وراءها الشعار ذاته. حدثت بلبلة، وبدأ الأمن يضرب الناس. ولمّا رأى المتظاهرون سيارات الأمن قادمة، هربوا. هرب الناس واختبؤوا في العمارات وفي الشوارع الضيقة في حيّ جورة الشياح، ووقف شابٌّ من بيت "الكن" في أوّل الشارع ومعه "شنتيانة" [5]، وصعد أخوه إلى سطح عمارة وبدأ يطلق النار من مسدس، فتوقّف هجوم الأمن".
"الجمعة الثالثة بالنسبة لحمص، كانت الجمعة الأولى لبابا عمرو. قتل فيها سبعة شباب قريباً من الجامع، بعد أن سمع هتاف "الله سورية حرية وبس"، "بالروح بالدم نفديك يا درعا"، وكذلك هتافات لمدينة بانياس التي كانت قد انتفضت... كان هناك حاجز للشرطة قرب المخفر القريب من الجسر، يفصل بين حيّ الزهراء (الذي تقطنه أغلبيّة علويّة) وبابا عمرو. التجمّع كان عند جامع الجيلاني [6] في بابا عمرو، وتوجّهت التظاهرة باتجاه الجامعة؛ حينها وقف عناصر الشرطة على الجسر كي يحموا المخفر، ويمنعوا المتظاهرين من الوصول إلى المناطق العلويّة؟ وصلت الناس إلى ما قبل الجسر، فحصل إطلاق نار من قبل الشرطة، ونادى المتظاهرون بعضهم البعض للرجوع، وبعد ان اجتازوا مئتي متر باتجاه بابا عمرو، توقّف صوت الرصاص؛ وبعد أقلّ من دقيقة سمعنا صوت رصاصتين من جهة البيوت، وبعدها بثواني بدأ الامن والشرطة بإطلاق النار تجاهنا، زخّ من الرصاص، فهرب المتظاهرون، وسقط بعضهم أرضاً. وبعد ساعتين عدنا لسحب الجثث، ودفنّاها في مقبرة بابا عمرو. كان معظم الشهداء شبابٌ خرجوا من جامع الجيلاني". سألت محمد: هل كان بينهم نساء؟ قال "لم تشارك النساء في التظاهرات إلاّ بعد وقتٍ طويل، في رمضان بعد صلاة التراويح خرجن من الجامع، وبدأن بعدّة نساء متنكرات بشماخ [7]، ثم ازداد عددهن بعد ذلك".
"في اليوم التالي استيقظنا وكأنّ شيئاً لم يكن". ولم يحدث شيء حتّى الجمعة التالية، "حيث خرجت بثينة شعبان [8] لتقول أنّ الرئيس بشار أصدر قراراً بمنع إطلاق النار على المتظاهرين. فخرجت مظاهرة باتجاه حيّ الانشاءات، وهي منطقة راقية أبنيتها جديدة منظّمة مختلطة من كلّ الطوائف لكنّ أكثرية القاطنين فيها من السنّة. انطلقت التظاهرة من جامع الجيلاني ووصلت إلى السوق في مركز المدينة حيث "الساعة الجديدة"، وحيث التقت بمظاهرات من أحياء اخرى: "اجتمعنا، كان هناك شرطة وأمن، ولم يتعرّض أحدٌ لنا؛ بقينا دقيقتين ثمّ بدأت بعدها القنابل المسيلة للدموع، فهربنا.. كان بعض عناصر الأمن يحملون العصي وينتشرون على مفارق الطرق... لكن لم يحصل اشتباك أو أيّ شيء".
"في الجمعة الثالثة اجتمعنا عند دوار المؤسّسة الاستهلاكية في بابا عمرو، وبقيت ساعة ونصف وكذلك لم يحصل شيء". ويقول "اتذكّر أن مجزرة الساعة في حمص حصلت بين مظاهرة بابا عمرو الثالثة والرابعة. اجتمعنا صباح الاثنين، ودفنّا الشهداء في مقبرة "الكتيب"، ثمّ اعتصمنا في ساحة "الساعة". كنّا حوالي أربعين أو خمسين ألف معتصم، وكان هناك أشخاص من جميع المذاهب والطوائف، وأعداد لابأس بها من النساء. نصبنا الخيام في الساحة، وأحضر البعض السندويش والعصير والحلويات للمعتصمين. وفي المساء تعبت الناس، وذهب البعض ليرتاح وبقي آخرون. هكذا بعد العاشرة مساءً كان هناك ثلاثة ألاف شخص؛ وصلهم خبرٌ من المشايخ لإخلاء الساحة لأنّ الأمن سوف يدهمها، فاستجاب البعض. وبعدها بساعة تقريباً نادى شيخان من آل الدالاتي وآل جنيد بمكبّرات الصوت قائلين "معكم ساعة لإخلاء الساحة". لبّى البعض نداءهم، وبقي البعض، ولم نعرف عدد من تبقّى من المعتصمين، رّبما ألفاً أو خمسمئة أو ألفين؟"
مجزرة تجاه المعتصمين في ساحة الساعة تطلق العنان للعنف
"كنت في منزلي في بابا عمرو، وحوالي الساعة الواحدة ليلاً سمعت صوت رصاص. بيتنا على بعد خمسة كيلومترات من ساحة "الساعة" في قلب حمص. ثمّ حصلت بلبلة في بابا عمرو، واجتمع بعض الشباب والرجال وأخذوا يطرقون أبواب البيوت و"سحابات" المحلات بالعصي كي يوقظوا الناس، وكان هناك من يصرخ بأعلى صوته: " إخوتكم ماتوا". خرج ابن عمّي وكان جالساً معي منذ الساعة العاشرة ليلاً إلى الشارع، وقال للناس "ثلاثة آلاف ماتوا"!! حصل ازدحام وفوضى: "عجقة... وسيارات رايحة جاية"، ركبت ناس سياراتها باتجاه ساحة "الساعة"، لكن البعض منعوهم قائلين لهم "وين رايحين ؟ بدكم بأيديكم تقاتلوا الأمن المسلّح ؟". بعض الاشخاص اقتحموا الجوامع، وراحوا يكبّرون ويدعون للجهاد، سمعت أنّ بعضهم جاء بإذن من شيخ الجامع ليفتحه ويمكث فيه". وقف البعض بالسلاح على أطراف بابا عمرو، وتجمّع شباب عند المؤسّسة خوفاً من اقتحام الجيش للحي. سهرت حتّى أذان الفجر، سمعت حينه شابّين قادمين في الشارع يركضان: "خير شو فيه؟" قالا: "الدبابات صارت عالجسر"، أطفأ الناس الأنوار المطلّة على الشوارع واختبأت، أنا صدّقت، لكنّي اكتشفت لاحقاً أن الخبر كان كاذباً، ولم يكن الجيش قد تدخّل بعد".
"قبل يومين من الجمعة الرابعة كان الأمن قد أقام حاجزاً ما بين بابا عمرو والسلطانيّة جنوباً. وقد اختار تلك النقطة كي يمنع الناس القادمين من الريف من الدخول إلى بابا عمرو للمشاركة في مظاهرة الجمعة. ومع ذلك بدأ التظاهر عند المؤسّسة، ثمّ توجه الحشد باتجاه السلطانية؛ وقبل أن يصل إلى حاجز الأمن بخمسمئة متر أطلق رجال الأمن النار في الهواء؛ فخاطبهم أحد المتظاهرين بمكبّر الصوت:" أنتم إخوتنا... أنتم أهلنا... ما بدنا نأذيكم". لكن الاشتباك بالرصاص الحيّ تفجّر فجأة. ولا أعرف كيف خلق كلّ هذا السلاح على الجهتين. فهرب المتظاهرون واختبؤوا، وبقي المسلّحون. وحقّاً لا أعرف من أين بدأ الرصاص. في اليوم ذاته مرّ أناس على الدرّاجات الناريّة، ومعهم مدافع رشاشة وبنادق ورأيت قاذف آر بي جي أو اثنين، وفعلأً استغربت الأمر". سقط ثلاثة ليسوا من المتظاهرين؛ واحدٌ منهم قيل أنّه كان واقفاً في أعلى مأذنة جامع حمزة، عمره 23 سنة لكني لست متأكداً من ذلك. كان هناك 15عنصراً من الأمن متواجدون عند الحاجز، يحتمون بدشمة من أكياس الرمل، ومعهم سيارتين دفع رباعي إضافة لعربة "بي إم بي". حوصر الحاجز من ثلاثة جهات: بابا عمرو، كفرعايا، والسلطانية. وذبح ثلاثة منهم بالسكاكين بعد أن جرحوا، ورمي رجل أمن منهم على دوار المؤسسة، لم يعرف الناس هويته ودفنوه في مقبرة بابا عمرو".
يقول محمد: "قبل الثورة كان من يضرب شرطي مرور يعتقل هو وعائلته فكيف بقتل 15 عنصر أمن؟ لذلك بعد أن توقف الاشتباك، بدأ بعض السكان يهربون خارج بابا عمرو، وأضحى الناس يتوقّعون شراً مستطيراً. هكذا عادت الاشتباكات في الثالثة صباحاً، واستيقظت على صوتها. كان الجيش والأمن يحاولان الدخول إلى بابا عمرو. وبقيت اسمع الاشتباكات حتّى الساعة العاشرة صباحاً. وكانت هذه أصوات كمين، قتل فيه جميع عناصر حافلتين للأمن على مفرق كفرعايا".
"سافرت إلى حلب عند هذه الساعة 10 صباحاً. كنت قد حجزت بطاقة في نقليات "الأهليّة" قبل يوم لزيارة رفيقٍ لي. انقطعت الكهرباء والاتصالات خلال الاشتباكات. أخذت إجازة من العمل، وكنت أعمل في دار "الإرشاد" للنشر في حمص. خرجت من المنزل، "مشيت الحيط الحيط" خوفاً من رصاصة طائشة، والشوارع كانت فارغة ... أخذت سيارة أجرة من مكانٍ قبل حيّ الإنشاءات يدعى "التوزيع الإجباري"، وهي منطقة سكن جديدة في بابا عمرو".
"في مناطق الحمرا والكورنيش والإنشاءات، كانت الحركة طبيعية كما في كلّ حمص". بقيت في حلب حتّى الثلاثاء، ثم عدت بالقطار إلى حمص. وحينما حاولت الدخول إلى بابا عمرو من جهة كفرعايا حيث محطة القطار، كان الجيش يحاصر بابا عمرو، وشاهدت عناصر الأمن مع عربتين (ب إم ب) و (ب ت آر) ومناصب للرشّاشات. نزلت من الحافلة عند مفرق كفرعايا، واتجهت سيراً باتجاه بابا عمرو، حيث لا يبعد منزلي أكثر من 300 متر عن المحطّة... أوقفني جنديّ وسألني: "وين رايح؟" أجبته أنّي ذاهب إلى البيت، سألني عن مكان سكني، قلت من بابا عمرو، فطلب منّي أن "أمرّ عالشباب ...هنيك قاعدين وشوفهم". كانت يدي مكسورة، لفّت بجبيرة وكنت أحمل حاسوبي. نادى لي أحد "الشباب" وسألني إلى أين؟ قلت إلى البيت قال وين بالضبط؟ أشرت له، سألني أين كنت؟ قلت له كنت في حلب، الآن جئت، قال مين قتل رفقاتنا هون؟ قلت أنا ما بعرف أنا كنت بحلب منذ ثلاثة آيام، أريته بطاقة الحجز في الشركة الأهلية وأريته تذكرة القطار. ماذا معك؟ قلت "لابتوب"، قال هاتو، أعطيته إيّاه، فتّش الشنطة، وجد فيها أقراص مدمجة لأفلام، طلب تشغيل أحد الأفلام وأشار لي أجلس، قرفصت، قال أقعد على الأرض، امتنعت، قال اقتلك لا تكبّر رأسك، أريته هويّتي، فيّشها. ثمّ وجد ورقة كنت كتبت عليها مقال سياسيّ منذ أكثر من ستة اشهر، أحتفظ به من أجل أيّ فرصة للنشر، قال هذا المقال هو الذي أنجاك والله يحميك لهل بلد وخليك هيك ع طول. كان المقال ينتقد الحكومات العربيّة التي تقف ضد حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، ما يعني مقالاً يصبّ في نفس وجهة نظر النظام الإعلامية. أوقف الفيلم، وقال أغلق "اللابتوب"، لم يفتشه، إذ كان "اللابتوب" فارغ تماماً. تابعت إلى المنزل، فاستغرب أصدقائي أنّي قادم من حاجز الجيش؛ سألوني كيف لم يعتقلوك أو يقتلوك ؟ ولم يصدّقوا أنّي قادم من جهة حاجز كفرعايا، حيث الموت يتربّص بكلّ من يقترب".
أنا لا أصدّق قناة الجزيرة منذ ذلك اليوم، فهي لا تبغي سوى الدمّ
"أيقظني أخي في الثانية عشرة ظهراً. قال انهض، قلت خير شو فيه؟ قال جاء الجيش وفتش البيت وغادر. وكانت هذه أوّل مداهمة تفتيش لبابا عمرو. استغربت ولم أصدّق، سألت أمّي صحيح أنّ الجيش فتّش؟ قالت نعم، قلت لم يصعد إلى الطابق الثاني؟ قالت "لا، فتّش فقط الغرفة على الشارع ولم يدخل غرف النوم". ثمّ سمعت على قناة الجزيرة أصوات اشتباكات، ونجاتي طيارة يقول على شاشتها أنّ أصوات رصاص وسحب الدخان تتصاعد من بابا عمرو، وعشرات القتلى في الشوارع لا يستطيع أحد انتشالها". يقول محمد: "هذا الكلام كاذب مليون بالمئة لأنّه لم يحدث شيء". ويتابع "قلت لابن عمّي لنذهب إلى الإنشاءات لنجري اتصالات نطمئن الناس، لأنّ الاتصالات كانت مقطوعة في بابا عمرو. وأنا منذ ذلك اليوم لا أصدّق قناة الجزيرة، ولديّ قناعة أنّ عندها أجندة تنفّذها على الأرض. تنشر شيئاً من الحقيقة، هدفها ليس الحقيقة وإنّما أجندة تريد فيها دمّ حتّى تبثه. وهذا ما قاله بالضبط وضّاح خنفر لشبابٍ من مدينة السلمية، لذلك لم يبثّوا أيّ صور من مدينة السلمية رغم أنّ بعض التظاهرات فيها كان قد وصل تعدادها لعشرة آلاف. وبعد يومين، عادت الحياة عادية إلى بابا عمرو. يوم الثلاثاء صارت المداهمة، ويوم الجمعة خرجت تظاهرة من مئتي شخص باتجاه الإنشاءات. كانت الناس تهرب من بابا عمرو، وكانت التظاهرات تتفرّق بعد نصف ساعة عندما تصل سيارات الأمن".
"خلال رمضان، جاءنا في منزلنا خبر أنّ العلويين اجتمعوا للهجوم على بابا عمرو بالعصي والسكاكين، وقد صاروا عند الجسر. اجتمع الناس، وحملوا أيضاً عصياً وسكاكين واتجهوا نحو الجسر. وبعد نصف ساعة عادوا، سألهم البعض عمّا حصل، فقالوا "لقد أعدناهم، كانت القصة كلّها كذب، لو قالوا أنّهم يهجمون بالسلاح لصدقناهم، لأنّ بابا عمرو فيها سلاح، وكان المسلّحون فيها قد قتلوا قبل أيام 15 رجل أمن. أمّا أن يهجموا بالسكاكين، فهذا يعني أنّهم قادمون لينتحروا وليس ليقاتلوا". في اليوم الثاني رأيت صديقي من الزاهرة وهو علويّ؛ قلت له مازحاً: "شو يا دبّ، عم تجتمعوا وتهجموا علينا، بدكم تقتلونا؟". قال: "لا والله، وصلنا الخبر أنّو أنتو مجتمعين عند الجسر وهاجمين بدكم تقتلونا!!!" [9].
يختم محمد شهادته بالقول "أخبرني ابن عمّي، وهو سائق سيارة أجرة أنّ عناصر الأمن موجودون عند شارع الحضارة يمنعون خروج أيّ سيارة أو شخص خارجه، وهذا الشارع تسكنه أكثرية علويّة رغم أن فيه سنّة مازالوا متواجدين حتّى هذه اللحظة". هذا يعني أنّ الشعب السوري بكل طوائفه يعيش سويّاً رغم كلّ ما حدث، ولاخوف على العلويين من السنّة، فلو أرادوا أذيتهم لفعلوا ذلك منذ وقتٍ مبكِّر. أمّا الحالات التي جرت وصورت على أنّها حالات انتقام طائفيّ فقد جرت ضد "شبّيحة" [10] أو ناس تورّطوا بالقتل أو الاغتصاب!!!"... عند هذه الصورة ينهي محمد كلامه.
* كاتب سوري، وسجين سياسي سابق
[1] السلفيين في حمص تحديداً، مثل معظم السلفيين السوريين، هم من النوع الدعوي، بالنظر إلى بقية أنواع السلفيّة المعروفة كالجهاديّة والتكفيريّة، ولقد قدّم الشاهد من بابا عمرو شهادته حول بعض النماذج من السلفية التي يعرفها جيّداً في بابا عمرو حيث أن بعضهم يشارك في الحياة الشبابيّة بكلّ ما فيها من لهو لكنهم لا يشربون الخمر، وهم يصلّون، ولا يختلفون عن سواهم بالنسبة لمستوى تديّنهم، فهو كبقية التديّن السوري تديّن اجتماعيّ يتعلّق بالحفاظ على الأخلاق العامة، لاسيما مفهوم "العيب". لكن السلفية يقرنون ذلك بأدلّة من القرآن والأحاديث النبوية، ولا يمكن تمييز السلفيين في سورية إلاّ في المظهر: إطلاق اللحية وحفّ الشارب، أو بإقرارهم الصريح أنّهم سلفيّة. ومن الطريف هنا أن أذكر أنني قابلت خلال اعتقالي في سجن صيدنايا ثلاثة من السلفيين الذين قبض عليهم في أماكن السهر في مدينة حماه، كما أنّه بعض الشباب اتّهم بالسلفية لمجرّد شرائهم لكتابٍ ديني أو لقرص مدمج لأناشيد وخطب دينيّة متوفرة في السوق يسمح بها الرقيب السوري. ولقد قابلت سلفيّ من حمص اعتقل لأنّه لم يرض أن يدخل في عملية رشوة مقابل نقله من مدرسة إلى أخرى ....
[2] راجع موقع قناة العربيّة 27/3/2012.
[3] في سورية يميّز الثوار بين "المظاهرة" وهي الاسم الذي يطلق على تجمعات الانتفاضة المعادية للنظام وبين "المسيرة" وهي الاسم الذي يطلقه النظام والثوار معاً على تجمّعات تسيّرها الحكومة والمخابرات، موالية للنظام، تحشد لها الموظفين بعد الدوام وطلاب المدارس الاعدادية والثانوية.
[4] أطلق المتظاهرون في حمص هذا الهتاف احتجاجاً على محافظ حمص آنذاك إياد غزال الذي كان متورّطاً بقضايا فساد كثيرة ونهب أموال طائلة قدرت ب 250 مليون دولار، ممّا يدل على أنّ بداية التظاهرات في حمص كانت ضد الفساد والمسؤولين الفاسدين وهو ما جرى في غير مكانٍ من سورية كما في درعا أيضاً حيث كانت التظاهرات الاولى ضد فساد رامي مخلوف، مما يدلّ على الخلفية الاجتماعية الاقتصادية لحركة التظاهر قبل تحوّلها إلى المطالبة بإسقاط النظام السياسيّ كاملاً.
[5] سلاح أبيض شعبي يشبه السيف.
[6] جامع الجيلاني: على اسم عبدالقادر الكيلاني أحد أقطاب الصوفيّة الكبار في التاريخ الإسلامي، وله اتباع كثر في شتى بلدان العالم الإسلامي، ومنهم في سورية. كان هذا الجامع هو المكان الوحيد الذي يمكن أن تخرج منه التظاهرات، لأنّ النظام السوري كان يراقب كل شيء في البلاد ويسيطر على كلّ المؤسسات والمراكز الرياضية والثقافيّة والفنيّة وأماكن التجمّع التي يمكن أن تكون مركزاً لانطلاق التظاهرات، في حين وفّر الجامع إمكانية تقنية نادرة لخروج التظاهرات، بحيث يحتاج الأمر لشخص واحد يطلق الهتاف الأول داخل الجامع كي تتحوّل جموع المصلين إلى متظاهرين. وهنا لا تتوفّر للأمن المقدرة دائماً على ضبط الجموع أو إيقاف التظاهرة داخل الجامع أو عند خروجها منه، وفي الأحوال التي حاول بها إيقاف هذه التظاهرات، كان يرتكب مجزرة كما حدث مرّة في الجامع الأموي في الثمانينات، أو يخرّب محتويات الجوامع، الأمر الذي يكون ردّ الشارع عليه قويّاً بسبب تعرّضه لمكانٍ مقدّس عند عموم السوريين. وعلى الرغم من خروج التظاهرات الأولى في بابا عمرو من هذا المسجد، فلم يشارك بها أيّ من المشايخ ورجال الدين بحسب محمّد.
[7] لباس شعبي
[8] مستشارة الرئيس السوريّ.
[9] استخدم النظام إثارة المشاعر الطائفية والتحريض على القتل الطائفي في غير مكانٍ من سورية، في حمص كما في اللاذقية، وفي كلّ المناطق المتجاورة طائفياً، عبر بثّ إشاعات الخوف من الآخر الطائفي. لكنّه سرعان ما كان يلجأ إلى وقف هذه المسرحيّة في اللحظة التي يصل فيها الطرفان إلى نقطة المواجهة. إذ لم تكن الغاية هي الوصول إلى الاقتتال، وإنّما التعبئة والشحن الطائفيّ، وهي أحد تكتيكات النظام النفسيّة لحرف الصراع من صراع شعب ضدّ سلطة إلى صراع اجتماعي طائفيّ أهليّ.
[10] الشبيحة مصطلح أطلق على عصابات السلطة في سورية، كانت في السابق تثري من أعمال التهريب، وتتباهى في الأحياء بسيارات المرسيدس، التي كان تطلق عليها تسمية "الشبح".
عن اللوموند ديبلوماتيك النشرة العربية
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |