أنا رجلٌ حر / ىجزء 2 ـ باولو كويلو
خاص ألف
2013-01-11
سأجد امرأة أخرى. وعندما سأمشي في الشارع، سأظل أرى طيفه في نساء أخريات. سأعاني ليل نهار، نهار ليل . قد يستغرق ذلك أسابيع، أشهراً، ربما سنة أو أكثر .
إلى أن يحل صباح أحد الأيام، سأستيقظ مكتشفا أن أمرا آخر يراودني، عندئذ سأعرف أن زمن المعاناة قد ولى . قد يكون قلبي انشطر، لكنه سيتعافى ويصبح قادراً على رؤية جمال الحياة مرة أخرى . لقد سبق أن حدث هذا، سيحدث مجدداً، أنا متأكد. عندما يرحل أحدهم، فذلك لأن أحداً آخر على وشك الوصول، سأجد الحب ثانية .
للحظة، تطيب لي فكرة وضعي الجديد: أعزب ومليونير. يمكنني أن أخرج مع من أريد في وضح النهار، يمكنني أن أتصر ف كما لم أفعل منذ سنوات. ستنتشر الأخبار بسرعة، وجميع أنواع النساء، من الشابات والفتيات، الثريات ومن هن ثريات إنما ليس بالثراء الذي يردنه، اللبيبات وتلك المدربات على قول ما يعتقدن أنني أود سماعه؛جميعهن،
سرعان ما سيطرقن بابي .
أود أن أصد ق أن من الروعة أن يكون المرء حراً.على استعداد لأجد حبي الصادق الوحيد، القابع في انتظاري والذي لن يسمح لي مطلقاً أن أخبر هذا الذل ثانية .
أنهي شراب الشوكولاتة الساخن، أنظر إلى الساعة؛ أعرف أنمن المبكر جداً الاستمتاع بشعور رائع هو أنني، مجدداً، جزء من الإنسانية . وللحظات،أتخيل أن إستير على وشك الدخول من ذلك الباب، تخطو نحوي وهي تطأ السجاد العجمي الجميل، تجلس بقربي ولا تنبس بكلمة، تدخن سيجارة فحسب، تلقي بنظرها على فناء الحديقة، وتمسك بيدي. مرت نصف ساعة،ولنصف ساعة صدقت القصة التي ابتدعتها، إلى حين أدركت أنها من نسج الخيال .
أقرر ألا أعود إلى المنزل . أتوجه إلى ركن الاستقبال، أطلب غرفة، فرشاة أسنان ومعطراً للجسم.
الفندق مكتظ، لكن المدير تدبر الأمر : أفضى بي الأمر إلى جناح جميل يطل على برج إيفل، على تراس، على سطوح المنازل الباريسية، والأضواء المتوهجة أحدها تلو الآخر، والعائلات التي تجتمع لتناول عشاء يوم الأحد .
وإذا بالشعور الذي خالجني في الشانزيلزيه ، يعاودني : كلما ازداد جمال ما يحيط بي، ازددت شعوراً بالتعاسة .
لا تلفاز، لا عشاء، أجلس على التراس أعاين حياتي، شاب حلم أن يصبح كاتباً مشهوراً، ورأى فجأة أن الحقيقة مختلفة تماماً . هو يكتب بلغة لا يكاد أحد يقرأها، فيبلد يذيع فيه أن ليس للمطالعة جمهور تقريباً . شاب تجبره عائلته على ارتياد الجامعة ) أي جامعة ستفي بالمطلوب يا بني، ما دمت ستحصل على شهادة، وإلا فأنت نكرة ( . هو يثور، يجول العالم خلال حقبة موجة الهيبيين، يلتقي مغنياً ، يكتب بعض كلمات أغنيات، وإذا به فجأة، يجني المال بما يفوق ما تجنيه أخته، التي أصغت إلى ما أمله عليها والداها وقررت أن تصبح مهندسة كيميائية . . .
أكتب المزيد من الأغنيات، وينتقل المغني من قوي إلى أقوى؛ أشتري بعض الشقق ويتلاشى عملي مع المغني،لكنني لا أزال أملك رأسمال كافياً يوفر علي العمل في السنوات القليلة اللاحقة . أتزوج للمرة الأولى من امرأة تكبرني سناً، أتعلم الكثير، كيف أمارس الحب، كيف أقود، كيف أتكلم الإنكليزية، كيف أستلقي في السرير لساعة متأخرة - لكننا انفصلنا لاعتباري غير ناضج عاطفياً ، وعلى استعداد مفرط لمطاردة أي « فتاة ناهدة الصدر . » أتزوج للمرة الثانية والثالثة من امرأتين اعتقدت أنهما ستمنحاني الاستقرار العاطفي : أحصل على مرادي، لكنني أكتشف أن ما أريده من استقرار هو توأم الشعور العميق بالملل. طلقان جديدان . حر ثانية، لكنه مجرد شعور؛ ليست الحرية غياب الالتزامات، إنما هي القدرة على اختيار ما هو أفضل لي، وإلزام نفسي به .أواصل بحثي عن الحب، أواصل كتابة الأغاني . عندما يسألني الناس ما عملي، أقول إنني كاتب . عندما يقولون إنهم لا يعرفون إلا كلمات أغاني ، أقول إنها مجرد جزء من عملي . عندها يعتذرون ويقولون إنهملم يقرأوا من قبل أياً من كتبي، فأشرح لهم أنني أعمل على مشروع - كذب طبعاً . الحقيقة أنا أملك المال، ولي صلات، لكني أفتقر إلى الشجاعة لتأليف كتاب . أصبح حلمي ممكن التحقيق، لكن إذا حاولت وفشلت، فلا أدري ما ستكون عليه باقي حياتي؛ لذلك من الأفضل أن أحيا وفي البال حلم بدل من مواجهة الاحتمال أن نهاية الأمر عقيمة .
ذات يوم، تحضر صحافية لإجراء مقابلة معي، تريد أن تعرف شعور من تكون أعماله معروفة في جميع أنحاء البلد، في حين أنني غير معروف كليا، لأن من الطبيعي أنالمغني هو فقط من يظهر في وسائل الإعلام . هي جميلة، ذكية، هادئة . نلتقي مجدداً في حفلة، حيث يخلو الجو من ضغط العمل، أتمكن من مضاجعتها في الليلة نفسها . أغرم بها،لكن اهتمامها كان زهيداً . عندما أهاتفها، تقول، على الدوام، إنها منشغلة . كلما زاد صدها لي، زاد اهتمامي بها، إلى أن أتمكن في النهاية، من إقناعها بقضاء عطلة نهاية الأسبوع في منزلي في الريف ) ربما كنت المستضعف الوحيد , في العائلة، لكن الثورة تنفع أحياناً - كنت بين أصدقائي في تلك المرحلة من حياتنا الوحيد الذي يشتري منزل في الريف.
(نقضي ثلاثة أيام وحدنا، نتأمل البحر . أطهو لها الطعام وتروي لي قصصاً عن عملها، وتنتهي بالوقوع في غرامي . نعود إلى المدينة، وتأتي إلى النوم في شقتي بانتظام . ذات صباح، ترحل أبكر من العادة وتعود بصحبة آلتها الكاتبة؛ من تلك اللحظة فصاعدا، من
دون التفوه بشيء، يغدو منزلي منزلها .
وإذا بالنزاعات التي عهدتها مع زوجاتي السابقات، تبدأ بالظهور : النساء في بحث دائم عن
الاستقرار والإخلاص، في حين أنني أسعى وراء المغامرة والمجهول . لكن هذه المرة، تدوم العلاقة أطول . مع ذلك، وبعد سنتين، أقرر أن الوقت حان لإستير أن تصطحب آلتها الكاتبة إلى شقتها، إلى جانب كل شيء آخر أحضرته معها .. » لن ينجح الأمر «
. » لكني أحبك وأنت تحبني، أليس صحيحاً ؟ «
لا أدري . إن كنت تسألين إذا كانت صحبتك « تروق لي، فالجواب هو نعم، وإن كنت تسألين إذا كان . » بإمكاني العيش من دونك، فالجواب هو نعم أيضاًأنا سعيدة لأني لم أولد رجل . أنافي غاية « السعادة كوني أنثى . كل ما تتوقعونه منا نحن النسوة هو قدرتنا أن نكونطاهيات ماهرات . ويتوقع من الرجال من جهة أخرى أن يقدروا على كل شيء - عليهم البقاءعلى المنزل في حالة اكتفاء، أن يمارسوا الحب،
. » أن يعيلوا الولد، أن يجنواالمال وأن يكونوا ناجحين ليس الأمر هكذا : أنا في غاية السعادة لما أنا « عليه . أستمتع بصحبتك، لكنني لا أظن أن الأمر . » سينجح بيننا
أنت تستمتع بصحبتي، لكنكتمقت البقاء «
وحيداً . أنت في سعي دائم وراء المغامرة كي تنسى أموراً أعظم أهمية . تريد دوما أن تشعر بالأدرينالين يتدفق عبر شرايينك، لكنك تنسى أن الأمر الوحيدالذي . » يجب أن يجري فيها هو الدم أنا لست هارباً من الأمور المهمة . أعطني مثال «. » على أمر مهم
. » تأليف كتاب «
. » يمكنني فعل ذلك في أي وقت «
هلم إذاً، افعله . عندها، إن أردت، يمكننا أن «
. » ننفصل
وجدت تعليقهاسخيفاً ؛ يمكنني تأليف كتاب متى أريد؛ أعرف ناشرين، صحافيين، كل من يدين لي بخدمات . إستير مجرد امرأة تخشى خسارتي، هي تبتدع أموراً . أقول لها إن علاقتنا انتهت، ولايتعلق الأمر بما تعتقد أنه يسعدني، بل بالحب .
ما الحب ؟ جاء سؤالها . أقضي نصفساعة أشرح لها، وأدرك أنني أعجز عن استحضار تعريف جيد . تقول، بما أنني أجهل تعريفالحب، فعلي المحاولة وتأليف كتاب .
قلت إن الأمرين طرفا نقيض تماماً . أقرر تركالشقة في ذلك اليوم بالتحديد؛ يمكنها أن تبقى ما تشاء . سأذهب للمكوث في فندق حتىتجد مكاناً آخر تعيش فيه .
تقول لا بأس بذلك، يمكنني الرحيل،وسوف تخليالشقة في غضون شهر . ستبدأ بالبحث عن مكان جديد منذ الغد . أحزم أمتعتي، وتقرأ هيكتاباً . أقول إن الوقت متأخر، وإنني سأرحل غداً . تقول إن علي الرحيل من فوري،لأنني في الغد، لن أكون على القدر نفسه من القوة أو العزم . أسألهاإذا كانتتحاول التخلص مني . تضحك وتقول إنني أنا من أراد قطع العلاقة .ننام، وفي اليومالتالي، لم تعد الرغبة في الرحيل بالإلحاحنفسه . أقرر أن علي التفكير في الأمور . مع ذلك، تقول إستير إن الأمر لم ينته بعد : هذا السيناريو سيتكرر ويتكرر ببساطة مادمت أرفض المجازفة بكل شيء من أجل ما أؤمن بأنه سبب بقائي الحقيقي؛ ففي النهاية، ستغدو تعسة، وتهجرني .
فيما عدا ذلك، إذا هي رحلت، ستفعل ذلك على الفور وتهدم كل الجسور التي تتيح لها العودة . أسألها ماذا تقصد؟ . تقول إنه استجد حبيباً آخر تقع في غرامه .
تذهب إلى عملها في الصحيفة، وأقرر أن آخذ يوم إجازة ) فإلى جانب تأليف كلمات الأغاني، فأنا أعمل أيضاً لدى شركة تسجيل ( . أجلس إلى الآلة الكاتبة . أنهض، أقرأ الصحف، أرد على بعض الرسائل الطارئة؛ وعندما أنتهي من ذلك، أبدأ بالرد على الرسائل غير الطارئة . أدون قائمة بالأشياء التي علي فعلها، أستمع إلى الموسيقى، أجلس بقرب المبنى، أتحدث إلى الخباز، أعود إلى المنزل . وإذا بالنهار يذوي فجأة ، ولا أكون قد تمكنت لحينها من كتابة ولو جملة واحدة . أقرر أنني أكره إستير، إنها تجبرني على القيام بأمور لا أريد فعلها .
عندما تصل إلى المنزل، لا تسألني شيئاً ، لكنني أقرّ أنني لم أتمكن من الكتابة . تقول إنني لا أزال أملك النظرة ذاتها التي وشحت عيني أمس .
في اليوم التالي،أذهب إلى العمل . لكن عشية ذاك اليوم أتوجه مجدداً إلى طاولة المكتب حيث الآلة الكاتبة . أطالع، أشاهد التلفاز، أستمع إلى الموسيقى، أرجع نحو الآلة، وإذا بشهرين يمران، وأنا أكوّم أوراقاً فوق أوراق فيها « جمل أولى » ، من دون أن أتمكن من إنهاء ولو مقطع . أتذرع بكل حجة ممكنة : لا أحد يطالع في هذه البلد، لم أحْــبك عقدة الحكاية، أو إن لدي عقدة رائعة لكنني لا أزال أبحث عن الطريقة الصحيحة لتوسيعها . وفضل عن ذلك، فأنا منهمك في كتابة مقال أو كلمات أغنية . وإذا بشهرين آخرين يمران . وذات يوم، تدخل المنزل ومعها تذكرة سفر .تقول « هذا يكفي . كفّ عن الادعاء بأنك منشغل، بأن المسؤوليات تثقلك، بأن العالم في حاجة إليك لتفعل ما تفعله . سافر لبعض الوقت . » يمكنني أن أصبح محرر الصحيفة حيث أنشر مقالتي، يمكننيأن أصبح رئيس شركة التسجيل التي أكتب لها كلمات الأغاني، والتي أعمل لديها لمجرد أنهم لا يريدونني أن أكتب أغاني لمنافسيهم . يمكنني فعل ما أفعله الآن، لكن حلمي لا ينتظر . فإما أن أقبله أو أنساه .
ما وجهة تذكرة السفر؟
إسبانيا .
أصدم . تذاكر السفر باهظة الثمن؛ وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكنني السفر الآن، فلدي مهنة أمامي وأحتاج إلى العناية بها . سوف أخسر الكثير من الشراكات الموسيقية المحتملة؛ليست المشكلة في ، إنها في زواجنا . لو أردت وضع كتاب، لما استطاع أحد منعي .
تقول : : « يمكنك، لو أردت، لكنك لا تريد . مشكلتك لا تكمن بي، بل بك،لذا من الأفضل أن تقضي بعض الوقت وحدك " .
تريني خريطة، علي الذهاب إلى مدريد،حيث يقلني قطار باتجاه جبال البيرينيه، على الحدود مع فرنسا . هناك تبدأ درب للحج تعود للقرون الوسطى : الدرب إلى سانتياغو . علي أن أمشي الدرب بطولها . ستكون هي في انتظاري عند الطرف الآخر وعندها سوف تتقبل كل ما أتفوه به : أنني كففت عن حبها،أنني لم أعش كفاية بعد، كي يتسنى لي ابتكار مؤلف أدبي، أنني لا أريد حتى التفكير في أن أكون كاتباً ، أن ذلك لم يكن سوى حلم مراهق .
هذا جنون ! إن المرأة التي أعيش معها منذ سنين طوال - سنين تبدو أبدية في مفهوم العلاقات - تصنع قرارات بشأن حياتي وتجبرني على ترك عملي، متوقعة مني المشي مجتازاً بلداً بأكملها ! إنه لجنون عارم إلى درجة أني أقرر أخذه على محمل الجد .
أشرب حتى الثمالة ليالي عديدة هارباً ، وهي إلى جانبي تشاطرني القدر نفسه من السكر، مع أنها تكره الشرب . أمسي عدائياً . وأقول لها إنها تغار من استقلاليتي، وإن السبب الوحيد الذي خلف فكرة الجنون هذه بأكملها كوني قلت لها إنني أردت الانفصال عنها . فتقول إن بادرة الأمر كله تعود إلى أيام المدرسة حين كنت أحلم في أن أصبح كاتباً . ما من تأجيل للأمور بعد الآن؛ وإذا لم أواجه نفسي الآن، سوف أقضي بقية حياتي، أتزوج وأطلق وأروي نكتاً حلوة عن ماضيّ وعن انحطاطي الدائم .
بديهياً ، لا أستطيع القرار بأنها محقة، لكنني أعرف أنها تقول الحقيقة، وكلما أدركت ذلك، ازددت عدائية . هي تتقبل عدائيتي بل تذمر؛ تذكرني، فحسب، بأن موعد الرحيل يقترب .
ذات ليلة، وقبيل ذاك الموعد، ترفض ممارسة الحب معي . أدخن سيجارة ماريجوانا كاملة، أشرب زجاجتي نبيذ ويغمى علي في وسط غرفة الجلوس . وبعد استعادة وعيي، أدرك أني بلغت قعر الحفرة، وكلما تبقى الآن هو أن أجهد في الصعود لبلوغ القمة . وأنا، الذي أتبجح بنفسي لما أملك من شجاعة، أرى بكم من الجبن والحقارة وقلة المغامرة أجابه حياتي. ذاك الصباح،أوقظها بقبلة وأقول لها إني سأنفذ اقتراحها .
أنطلق وأتبع الدرب إلى سانتياغو مدة ثمانية وثلاثين يوماً . مع وصولي، أدرك أن رحلتي الحقيقية تبدأ هنا . أقرر الاستقرار في مدريد وأعيش من مردود حقوقي كمؤلف، لكي يفصلني محيط عن جسد إستير، مع أننا لا نزال معاً رسمياً ، وغالبا ما نتحادث هاتفياً . من المريح جداً أن أكون متزوجاً ومدركاً أن بإمكاني العودة إلى ذراعيها متى أشاء في حين أستمتع بكل استقلالية في العالم .
استمرت حقوقي المادية من تأليف الأغاني تتدفق وتتدفق، وتكفيني لعيش بهناء، غير مضطر إلى العمل . وكان لي متسع من الوقت للقيام بكل شيء، حتى . . . تأليف كتاب .
مع هذا، يمكن للكتاب أن ينتظر إلى الغد، لأن محافظ مدريد أصدر مرسوماً يقضي بأن تتحول المدينة إلى حفلة مطولة، وألّف شعاراً مشوقاً يقول: « مدريد قاتلتي » ، وحث الجميع على ارتياد حانات مختلفة ليلاً مستحدثاً عبارة « La movida madrileña مهرجان مدريد . » وهذا أمر يستحيل علي تأجيله حتى الغد؛ كل شيء ممتع، النهارات قصيرة والليالي طوال .
ذات يوم، تهاتفني إستير لتخبرني أنها قادمة لرؤيتي : في رأيها، علينا تقييم وضعنا نهائياً. حجزت تذكرة سفرها للأسبوع المقبل، ما يتيح لي الوقت الكافي لترتيب سلسلة من الأعذار « أنا ذاهب إلى البرتغال،لكنني سأعود خلال شهر » ، سأقول هذا للشقراء التي كانت تغني في القطار السريع، والتي تنام في الشقة المستأجرة حيث أعيش والتي أخرج . » بمهرجان مدريد « برفقتها كلليلة للاستمتاع أرتب الشقة، أمحو أي أثر لوجود أنثوي فيها، وأطلب إلى أصدقائي عدم التفوه بحرف، لأن زوجتي آتية وستمكث شهراً هنا .
تترجل إستير من الطائرة متباهية بتسريحة شعر قبيحة عجائبية . نسافر وجهتنا داخل أسبانيا، مكتشفين قرى صغيرة تعني الكثير عند قضاء ليلة واحدة فيها، غير أنني قد أعجز حتى عن إيجادها إذا ما رجعت اليوم إليها . نذهب لحضور مصارعة الثيران، عروض رقص الفلامينكو . وخلال كل هذا أمثل دور الزوج المثالي في العالم، لأنني أريدها أن ترجع إلى الديار محملة بشعور أنني لا أزال أحبها . لا أدري لماذا أريد أن أترك هذا الانطباع لديها، ربما لأنني، في الصميم، أعرف أن حلم مدريد سيتبدد في النهاية . أتذمر بشأن قصة شعرها . تغيرها، مستعيدة جمالها . بقي عشرة أيام فقط من عطلتها، وأريدها أن ترجع وهي سعيدة . وأن تتركني وشأني أستمتع بمدريد هذه، قاتلتي : حانات الرقص التي تفتح عند العاشرة صباحاً ، مصارعة الثيران، الأحاديث اللانهائية حول الموضوعات القديمة ذاتها، الكحول،النساء، المزيد من مصارعة الثيران، المزيد من الكحول، المزيد من النساء، وبالطبع،لا جدول زمنيا على الإطلاق .
ذات أحد ، وفيما كنا نتجه نحو حانة تقدم الطعام الليل بطوله، تفتتح الموضوع المحرم : الكتاب الذي قلت إني أؤلفه . أحتسي زجاجة كاملة من خمر الشيري، أركل كل الأبواب الحديدية التي عبرناها في طريق العودة، أشتم أشخاصاً في الشارع، وأسألها لماذا تكبدت عناء السفر هذه المسافة بطولها مادام هدفها الوحيد جعل حياتي جحيماً والقضاء على سعادتي . لا تتفوه بكلمة، لكن كلاً من اعرف أن علاقتنا وصلت إلى تخومها . تهجر الأحلام نومي تلك الليلة . وفي الصباح التالي، وبعد أن أتذمر شاكياً لمدير المبنى بشأن هاتفي المعطل، بعد أن أعنف خادمة التنظيف كلامياً لأنها لم تغير ملاءات السرير لأسبوع، بعد أن أستحم مطولاً لأغسل عني آثار الليلة السابقة، إذا بي أجلس إلى آلتي الكاتبة، لمجرد أن أظهر لإستير أنني أحاول، أحاول بصدق ، أن أعمل .
وفجأة تحصل المعجزة . ألقي بناظري على المرأة التي أعدت لتوها بعض القهوة . وهي الآن تقرأ الصحيفة، بعينيها التعبتين اليائستين، تبدو هي هي، بروحها الهادئة، التي لا تعبر دوماً عن عطفها بالحركات؛ امرأة جعلتني أقول « نعم » عندما وددت قول « لا » ؛أجبرتني على الكفاح من أجل ما تؤمن هي، بصواب تام، أنه سبب عيشي؛ سمحت لي بالرحيل منفرداً لأن حبها لي كان أعظم من حبها لروحها؛ دفعتني إلى السعي وراء حلمي . وفجأة، رؤية هذه المرأة القلقة،الهادئة، التي تخبر عيناها ما تعجز عنه أي كلمات، التي غالباً ما ذعرت في الصميم، لكنها أظهرت شجاعة في أفعالها، والتي أمكنها أن تحب رجل من دون أن تذل نفسها ولمتأسف قط للصراع من أجل الرجل الذي بجانبها؛ فجأة، رؤيتها جعلت أصابعي تضغط على الزرار . تظهر الجملة الأولى، فالثانية .
أقضي يومين بلا طعام، أنام القسط الأدنى،تبدو الكلمات، وكأنها تنبع من مكان مجهول، كما كانت تفعل عندما تعودت تأليف الأغاني، عندما كنت وشريكي الموسيقي، بعد الكثير من المشاحنات والكثير من المحادثات الفارغة، كنا ندرك أن ذلك " الشيء " هناك، جاهز، أن الوقت حان للباسه كلمات ونوتات . هذه المرة، أعلم أن ذلك « الشيء » نابع من قلب إستير؛حبي انبعث من جديد، أضع الكتاب لأنها موجودة، لأنها تخطت كل الصعاب من دون تذمر، من دون أن ترى نفسها ولو لمرة، أنها الضحية . أبدأ بوصف التجربة التي أثرت بي أعمق التأثير في السنوات الأخيرة ـ الدرب إلى سانتياغو .
وفيما أكتب، أدرك أن نظرتي إلى العالم تمر بسلسلة من التغيرات . لسنوات عديدة، درست السحر ومارسته، ودرسه الخيمياء والتنجيم؛ ذهلت لفكرة أن قوة عارمة تتملك مجموعة ضئيلة من الناس، قوة عارمة يستحيل مشاطرتها مع باقي الإنسانية، لأنه سيكون من الخطر الكبير السماح لمثل هذه المقدرة الشاسعة أن تقع في أيد عديمة الخبرة . كنت عضواً في جمعيات سرية، وتورطت في فرق غريبة، ابتعت كتباً قاتمة، باهظة للغاية، أنفقت قسطاً كبيراً من الوقت أؤدي طقوساً وصلوات . تعودت الانضمام إلى مجموعات وأخويات مختلفة، معتقداً على الدوام أنني وجدت أخيراً الشخص الذي يمكن أن يكشف لي خفايا العالم اللامرئي . لكن، في النهاية، كان ظني يخيب متى اكتشفت أن معظم هؤلاء الأشخاص - ومع أنهم حسنوا النية – كانوا يتبعون هذا المعتقد أو ذاك فحسب؛ ونزعوا إلى التعصب، لأن التعصب هو الطريقة الوحيدة لوضع حد للشكوك التي تكدر روح البشر على الدوام .
اكتشفت أن العديد من الطقوس مفيدة بالفعل، لكنني اكتشفت أيضاً أن أولئك الذين يصرحون بأنهم أرباب أسرار الحياة وحملتها، الذين يدعون معرفة تقنيات مكنتهم من إشباع كل رغبة، قد انقطعوا تماماً عنتعاليم الأجداد . وبإتباع الدرب إلى سانتياغو، والتواصل مع أشخاص عاديين، اكتشفت أن الكون تفوه بلغته الخاصة، لغة الإشارات؛ وأنه، من أجل فهم هذه اللغة،لم يكن علينا سوى النظر بقلب منفتح حولنا . كل هذا دفعني إلى التساؤل هل التنجيم السبيل الوحيد لبلوغ هذه الخفايا . في كتابي عن الدرب إلى سانتياغو، أناقش طرق أخرى محتملة من النضوج والوصول إلى هذه الفكرة : " كل ما عليك فعله هو الانتباه؛ تأتي العبر دوماً عندما تكون على استعداد، وإذا تمكنت من قراءة الإشارات، سوف تتعلم كل ما تحتاج إلى معرفته لكي تخطو الخطوة التالية " .
نحن البشر، نعاني مشكلتين كبيرتين : الأولى، أن نعرف متى نبدأ، والثانية، أن نعرف متى نتوقف .
بعد أسبوع، أبدأ بوضع المسودة الأولى، الثانية، فالثالثة . لم تعد مدريد تقتلني، حان وقت العودة إلى الديار . أشعر وكأن حلقة قد تمت، والحاجة ملحة إلى البدء بأخرى . أودع المدينة كما تعودت دوماً قول الوداعفي الحياة : بي ظن أنني سأبدل رأيي وأرجع يوماً ما .
أرجع إلى بلدي مع إستير، وأنا على قناعة بأن الوقت ربما حان لكي أجد عمل آخر، لكن إلى حين أفعل ) ولن أفعل، لأنني لست في حاجة إلى ذلك ( سأواصل مراجعة الكتاب . لا أعتقد أن أحداً سيهتم كثيراً بتجارب رجل تبع درباً رومانسية إنما وعرة عبر إسبانيا .
بعد أشهر أربعة، وفي ما أنا منهمك بمسودتي العاشرة، أكتشف أن النسخة المطبوعة وإستير قد اختفتا . وفيما كنت على وشك أن أ جن قلقاً ، تعود وفي يدها وصل تسلم من مكتب البريد - أرسلت النسخة إلى حبيب سابق لها،وهو يدير حالياً دار نشر صغيرة .
نهاية الجزء الثاني
إعداد: ألف
يتبع...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |