دمشق بين الدوق والوالي
خاص ألف
2013-01-15
الخبر الذي نشرته جريدة الشرق الأوسط 13 – 1 – 2012 عن تعيين والٍ تركي للإشراف على شؤون السوريين النازحين إلى تركيا وتكليفه بثلاث مهام، الأولى هي الإشراف على المخيمات وشؤونها على الحدود التركية، والثانية هي الإشراف على شؤون اللاجئين السوريين في المدن التركية، أي ممن لم يسجلوا كلاجئين في المخيمات، والثالثة هي الإشراف على شؤون السوريين داخل الحدود السورية وخارج سيطرة حكومة دمشق.
الغريب أن تسمية هذا الوالي فيصل يلماز والي السوريين، هذه التسمية الغريبة لايمكن أن تمر ببساطة. والي السوريين؟ ألم يدرك الأتراك قساوة الكلمة في المأثور السوري؟ هؤلاء الناس الذين اعتادوا عبر كتب تاريخهم ربط كلمة الوالي التركي بالظلم والقسوة ولا تزال سيرة الوالي جمال باشا عالقة في ذاكرتهم، أما الوالي الأخير الذي غادر في العام 1919 فقد غادرها منذ مايقارب المئة عام، فبعد ست سنوات منذ الآن سيكون قد انقضى على خروج آخر وال تركي لسوريا مئة عام بالتمام والكمال.
ولكن.... سوريا هذه – أعوذ بالله - لم تكن دولة قائمة بذاتها أو حتى ببلاد شامها عبر التاريخ إلا في الستين سنة الأخيرة ونيف، فكل محاولتها للاستقلال وإنشاء دولة كانت تبوء دائما بقهر روما الإيطالية أو روما البيزنطية أعني القسطنطينية أو طيسفون عاصمة فارس، أما الفترة الأموية المكروهة من قبل أهل التاريخ، سنة متشددين كانوا أم شيعة، فهي لم تقم بالسوريين بل بالوافدين من الحجاز المسمين بالأمويين.
ونعود إلى الستين سنة ونيف وهي عمر الاستقلال الذي استولى البعث على خمسين سنة منه، خمسين عجافاً لم تعرف سورية فيها الفرح، فقد كان البسطار الميليشياوي جاهزاً دائما لإركاعها بدءاً من سيء الذكر الحرس القومي ومروراً بسرايا الدفاع حتى الشبيحة المعاصرين.
ولكن.... أهذا هو الاستقلال إذاً. أهذا هو؟... سجن كبير حدوده حدود سايكس بيكو وسجون صغيرة هي سجون البعث إن لم تزرها يوماً فأنت تعرف أنها تنتظرك عند الخطأة الأولى في حق الرب الكبير المسمى بالوطن، وأحب كلمة لأدونيس على كثرة سقطاته يقول فيها: الوطن حيث أسكن إليه لا حيث أسكن فيه. فهل سكنا يوماً إلى هذا الوطن المحتل بالميليشيات والملائكة السود الغامضة التي لم تقبض يوماً على شبكة تجسس واحدة أو جاسوس مندس في سورية إلا ما سمته هي مندساً ( على كيفها )، وجسسته هي ( على كيفها ) أيضاً.
ولكن أهذا هو تاريخ سورية إذاً ؟ لا، فالتاريخ يحدثنا عن ثعلب حكم دمشق لأكثر من عشرين عاماً في القرن الثاني عشر الميلادي أي إبان الحروب الصليبية، واسم هذا الثعلب كان معين الدين أنر بفتح الحرفين الأولين من أنر، هذا الرجل حكم جنوب الشام أي دمشق ومحيطها وهو من بقايا الأتابكيين، حكمها بطريقة شديدة الطرافة، فقد كان إذا ما رأى التهديد قادماً من عماد الدين زنكي مد يده للفرنجة في القدس، فتوقف عماد الدين عن محاولة إكراهه على الاتحاد، فدمشق مع المسلمين خير من كونها مع الصليبيين، وإذا ما اقترب الصليبيون من دمشق مد يده إلى عماد الدين في حماه فامتنع الصليبيون عن مهاجمته، فبقاء دمشق ضعيفة به خير من اتحادها مع عماد الدين زنكي.
هذه اللعبة لم يكن لها أن تطول إلى الأبد. إذ فجأة تقدمت حملة صليبية أعد لها الغرب طويلاً وكان على رأسها إمبراطورا بيزنطة وألمانيا المقدسة، وعدة ملوك على رأسهم الملك الفرنسي وملك بيت المقدس وعدد كبير من الكونتات، المحليين المسمين بالصليبيين ( البلديين ) أي من الذين ولدوا ونشؤوا في الشرق، بالإضافة إلى الفرقتين الشرستين الداوية والإسبتارية وهما فرقتان من الرهبان المقاتلين الذين أقسموا على حرب المسلمين حتى الموت وهم الذي سيأسرهم صلاح الدين بعد حطين ويسلمهم إلى رجال الصوفية المحاربين من المسلمين فيقومون بإعدامهم.
على أية حال فمعين الدين هذا وقد أيقن الجميع من نهاية لعبته استخرج من جرابه حيلة جديدة أذهل بها معاصريه جميعاً، وكان قد سمع بتعيين الإمبراطورين ومندوب البابا أميراً فرنسياً ليكون كونتاً على دمشق، فقد كانوا على ثقة من أن دمشق يجب أن تسقط أمام هذه الجيوش التي لم تعرف المنطقة مثيلاً لها من قبل، وكان كونت طرابلس ريمون يطمع في ضم دمشق له فهو الأحق بحكمها بين الصليبيين، وكان ريمون من الصليبيين البلديين فأبوا عليه ذلك فغضب وحرد وعرف معين الدين من جواسيسه بما حصل، وكان على صلة قديمة بريمون تجارة ودبلوماسية، فأرسل إليه يعده بمائة ألف دينار بيزنطي، - وكان الدينار البيزنطي الأكمل ذهباً في ذلك الوقت – إن استطاع صرف الغزاة عن دمشق، فحسبها ريمون، وقال لنفسه إنه قد خسر دمشق للكونت الفرنسي، وإذاً فلا بأس من كسب مبلغ كهذا دون جهد، فأرسل إليه بالقبول وليرسل معين الدين المال إلى ريمون.
سارع معين الدين إلى إرسال رسالة من عشر نسخ إلى عماد الدين وربطها إلى عشر حمائم زاجلة وهو يعرف أن الحراس الصليبيين يراقبون أسوار دمشق، وأنهم لا محالة سيسقطون واحدة من هذه الحمائم، وكان تخمينه صحيحاً، وحملت الحمامة الساقطة والرسالة إلى مجلس الأباطرة والملوك الذين هاجوا وهاجموا خيمة ريمون ليعثروا فيها على المال ويهجموا على ريمون فيثور له الحكام الصليبيون البلديون ويصطدم الجيشان، ثم يغضب الأوربيون فينسحبون عن دمشق، وينسحب بعدهم المحليون وهكذا ينجو معين الدين، والنكتة أنهم حين يهدأون ويفحصون الدنانير سيكتشفون أنها مزيفة !!!
ما دعاني للحديث عن هذا كله هو ذلك الكونت الفرنسي الذي صار اسمه الكونت دو داماس أو كونت دمشق، اختفى هذا الاسم عن ذاكرتي، وحق له أن يختفي فقد انقضى على إعطاء هذا اللقب إليه حوالي الثمانية قرون، ولكني وأنا أطالع كتاباً عن باشا مصر محمد علي وعن المفاوضات التي تمت بينه وبين الحلفاء ومنهم الفرنسيون بعد معركة نافارون عام 1827 إذا باسم دوق دو داماس بين المفاوضين يقفز أمامي ولم أكترث له كثيراً فهو مجرد اسم بين اسماء كثيرة ولكن الأيام تدور وفرنسا تحتل سورية وينتصر الفاتح العظيم واسكندر العصر – غورو – على الشهيد يوسف العظمة ومتطوعيه سيئي التسليح، ثم تقوم الثورة السورية وتعلن قبولها بالوطن السوري متجاوزة الانشقاقات المذهبية والمناطقية والدينية !!! ولكنها بعد اقل من سنتين تخبو نار هذه الثورة وتبدأ المفاوضات والمفاوضون ويجتمع في القاهرة الثوار الهاربون من بطش المستعمر الفرنسي. يجتمعون في القاهرة في انتظار مرور المفوض الفرنسي دوجوفينيل، ويحدثنا عن هؤلاء السوريين المنتظرين في فندق شيبرد الكاتب والروائي الفرنسي الذي كان يصحب دوجوفينيل "بيير مازيير" في كتابه (رحلة إلى سورية ).
المهم يجتمع في القاهرة الأمير ميشيل لطف الله وهو وريث عائلة مصرفية كبرى اشترى قبل سنوات لقب الأمير من الشريف حسين وكان معه أيضاً الأمير ارسلان و... الدوق دو داماس، وكلهم طامح إلى عرش دمشق، وكانت الصدمة... الدوق دو داماس ! ألا ينسى هؤلاء الناس شيئاً. الدوق دو داماس أو دوق دمشق والذي لم تدس قدماه دمشق أو سورية لا هو ولا أسلافه منذ مئات السنين يطالب بعرش دمشق، وطبعاً كلنا نذكر أن أياً من هؤلاء الأمراء لم يحصل على مملكته، لا لممانعة منا نحن السوريين، ولكن لأن فرنسا الجمهورية لم تكن تريد صنع دولة ملكية وهي من حاربت الملكية.
والآن وبعد تسعمئة عام على إخفاق كونت دو داماس في الوصول إلى كونتيته وما يقارب الخمسة وثمانين عاماً على إخفاق حفيده الدوق دو داماس في الحصول على مملكته في سورية، وبعد خروج الوالي العثماني الأحير من دمشق منذ حوالي المئة عام وتعيين والِ جديد (للسوريين) هو فيصل يلماز، وتملل الكي دور سيه في باريس لتعيين دوق جديد أو ما يماثله كونتاً أو دوقاً لسورية، وبعد ثورة السوريين على حكم البعث الفاشل حتى نقي العظام وعلى حكم المخابرات التي جعلت الناس يكرهون جلودهم ويتمزقون إلى مكوناتهم قبل حضارة التواصل العالمية، الآن.أين هي سورية ؟
في مقال سابق لي كنت قد تحدثت عن لعنة الجغرافيا السورية وتمزق الديمغرافيا الثقافية ( مذهبياً وعرقياً ) وإخفاق السوريين في صنع وطن حر عادل لهم، أعود إلى التساؤل : هل كانت لعنة الجغرافيا في سورية أشد قسوة منها في هولندا أو الأراضي الواطئة ليجتمع الهولنديون والبلجيكيون من الفلمنك والفريزيان متجاوزين الجغرافيا والديموغرافيا ليشكلوا وطناً هو الأهدأ في العالم تقريباً، وها هي ماليزيا تجمع المالاويين والصينيين والهنود في وطن تحول إلى جنة للرساميل والإنسان، فهلا حاولنا تجاوز لعنتي الجغرافيا والديموغرافيا الممزقة مذهبياً وعدنا إلى خمسينيات القرن الماضي قبل تدخل العسكر والبعث وتجلياتهم السوداء في حياتنا لنصنع وطناً كهولندا وماليزيا وإلا فوالي سورية والدوق دو داماس ينتظران.
خيري الذهبي
08-أيار-2021
06-شباط-2021 | |
28-تشرين الثاني-2020 | |
22-آب-2020 | |
15-آب-2020 | |
09-أيار-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |