روسيا سوريا.. مجرد خلاف في مواضع الأحرف / د. نور الله السيّد
2013-01-18
كثرت التفسيرات عن سر دفاع روسيا الاتحادية عن النظام السوري، منها من ذهب إلى القول بأن سورية هي المعقل الوحيد المتبقي لروسيا من دولها الصديقة في المتوسط أيام الاتحاد السوفيتي، ومنها من قال بأن سورية تمنح روسيا تسهيلات عسكرية أهمها قاعدة بحرية في طرطوس ومنها من قال بأن سورية تمثل سوق أسلحة هام بالنسبة لروسيا. وهناك من قال بأن روسيا تبحث عن دور فاعل في هذا العالم يماثل الدور الذي كان يمارسه الاتحاد السوفييتي.
ولكن هذه الأسباب ليست مقنعة فعلاً. فمشتريات سورية من الأسلحة الروسية لا تمثل قيمة اقتصادية هامة فهي أقل من 300 مليون دولار وسطياً سنوياً في فترة الأسد الابن وتخضع لعوامل سياسية متعددة كما حدث في صفقة صواريخ إسكندر التكتيكية التي اتُفق عليها عام 2001 وكان من المتوقع تسليمها عام 2005 فأوقفت بتدخل من إيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل حينها. أما قاعدة طرطوس فلا يمكن تسميتها بقاعدة بحرية بالمعنى العسكري، وهي ليست أكثر من محطة وقود وتوقف للسفن للإصلاحات البسيطة ولا يمكن التعويل عليها حربياً، ويمكن الحصول على خدمات مماثلة بالاتفاق مع أي دولة من دول المتوسط.
أما أن سورية هي المعقل الصديق المتبقي لروسيا في المتوسط فهذا في الواقع لا معنى له، إذ إن الواقع الجيوسياسي قد تغير في العقدين الأخيرين والحرب الباردة انتهت وأمريكا لم تعد تنظر إلى المتوسط والشرق الأوسط عموماً على أنه منطقة استراتيجية. وبلد بمساحة روسيا وامتدادها لا يهمها الحصول على مواطئ قدم هنا وهناك. أما الدور السياسي في العالم فلن يكون على خلفية المسألة السورية. فلكل دولة قدر ووزن معروفين. فروسيا عضو في مجلس الأمن وقوة عسكرية جبارة ومساحة جغرافية مترامية وقوة اقتصادية متوسطة ونظام سياسي لا تُحسد عليه. لها علاقات اقتصادية حيوية مع أوروبا بالنسبة للطرفين وحدود جغرافية هامة وعلاقتهما تتسم بالبرود عموماً. هذه هي عناصر قوتها وضعفها، تستعملها في كل مسألة ويحسب وزنها على أساسها. فهي لم تستطع التدخل في الأزمة البلقانية عام 99 ولم تستطع في العراق عام 2003 ولم تستطع في ليبيا عام 2011.
ولا يبدو في الظاهر من علاقة مباشرة قادرة على تفسير الارتباط بين النظام السوري وروسيا ودفاع الأخيرة عن الأول وكأنه نظامها. فروسيا ومنذ اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية على موقف ثابت: نكران الثورة والدفاع عن النظام السوري واعتماد مواقفه وتفسيراته لما يجري في سورية حتى في الحالات التي كانت أكثر من واضحة مثل مذبحة الحولة. ودافعت روسيا عن سورية في كل المحافل الدولية فمنعت إصدار قرار إدانة ما يجري في سورية، ووقفت مع ما يريده النظام السوري في كل المبادرات التي جرى تداولها لحل المسألة السورية وآخرها الالتفاف على خطة الإبراهيمي التي لا تناسب النظام السوري والتصفيق على الطريقة الروسية لخطاب الأسد الأخير وهو ما لم يفعله السوريون أنفسهم!
تدعي روسيا أن موقفها لأسباب مبدئية. فهي ترفض أن يكون لأي دولة إمكانية التدخل بشؤون أية دولة أخرى، وأن يكون مجلس الأمن وصياً على الدول والشعوب. وأن ما حدث في ليبيا لن تسمح بتكراره في سورية. وسار البعض في سوق هذا السبب باعتباره سبباً رئيساً يُفسر حذر روسيا من استغلال قرارات مجلس الأمن على النحو السيئ الذي حدث في القرار الخاص بليبيا! ولكن كيف يمكن تصديق أن الغرب تمكن من خداع روسيا والصين وفعل ما فعل بغفلة منهما؟ فكلاهما ليستا على هذا القدر من السذاجة.
أما أن يكون موقف روسيا لأسباب مبدئية فهذا نُبل قلما عرفته السياسة الروسية ولا يستقيم وسلوكها السياسي عموماً. فاحتلال تشيكوسلوفاكيا وإخماد ربيع براغ عام 68 لا يزال ماثلاً في الذاكرة. وقمع استقلال الشيشان عندما أعلنت روسيا الحرب عليها وقتلت رئيسها دوداييف عام 96 الذي كان أعلن استقلالها عام 91. ولما لم تستطع روسيا يلسين حسم الحرب أبرمت معها اتفاقية عام 1996 تنص على خروج الروس منها وإجراء استفتاء فيها عام 2001! ولإجهاض هذه الاتفاقية افتعلت روسيا بوتين عام 1999 جرائم قتل بالسُم لمواطنين روس في شققهم واتهمت مجموعات من الشيشان بالقيام بذلك. وشنت روسيا إثر ذلك حرباً على الشيشان سحقت خلالها قياداتها وأجهضت استقلالها. وعندما اكتشف بعض الصحفيين حقيقة ما جرى وفضحوه لاحقتهم المخابرات الروسية وقتلت عام 2006 الصحفي ليتفيننكو بالسّم في لندن وكذلك الصحفية الروسية الشهيرة آنّا بوليتكوفسكايا رميا بالرصاص.
والحال هذه، فهل كان لروسيا، البوتينية خصوصاً، أن تتخذ موقفاً آخر غير الذي اتخذته من الثورة السورية؟ الجواب لا وإلا فستكون في تناقض مع نفسها وعليها أن تتوقع ردود فعل من جمهورياتها القوقازية مثلاً وعلى رأسها داغستان وشركستان والشيشان التي تعيش حالة إلحاق تاريخية بدأت بروسيا القيصيرية ثم الاتحاد السوفيتي ثم روسيا الاتحادية منذ مطلع القرن التاسع عشر وتصبو وضوحاً لتحقيق حالة من الاستقلال وهو ما لا ترغب فيه روسيا قطعاً. وإذا أخذ بالحسبان وضع الدول التي تدور في الفلك الروسي وروسيا نفسها، التي لا تحسد على 'ديمقراطيتها'، مثل روسيا البيضاء وغيرها التي قد تجد نفسها في مواجهة شعبية مطالبة بأنظمة أكثر انفتاحاً، الأمر الذي سيلقى دعماً من الغرب لاعتبارات عدة، فماذا سيكون عليه موقف روسيا عندئذ؟ يمكنها أن تعيد عندها التذكير بموقفها في المسألة السورية الذي سيحيل كل ما يمكن أن تشهده جمهورياتها القوقازية ودولها 'الصديقة' إلى شؤون داخلية وتقاوم التدخل.
على صعيد آخر عرفت روسيا بأن الغرب لن يتدخل وعلى رأسه أمريكا التي كانت تعد العدة للخروج من العراق. كما أن سورية لا تمثل قيمة حيوية وهدفاً سهلاً بالنسبة للغرب كما هو الحال في ليبيا، وإنما قيمة سياسية متأتية عن ارتباطات سورية الإقليمية التي يكفي للغرب إضعافها إلى حد جعلها عديمة التأثير وتحيدها تماماً وهو ما يمكن بلوغه بإطالة الأزمة السورية مع احتوائها لتبقى داخل سورية، وهو ما تم حتى الآن. ومن ثم فلن يكون هناك من تدخل عسكري من قبل الناتو، إذن لا خطر من إحراج لروسيا. وصواريخ باتريوت التي تُنشر حالياً في الأراضي التركية بمواجهة الأراضي السورية فقيمتها ردعية ولن تستعمل إلا في حالات الضرورة القصوى. إذن فهامش المخاطرة في موقفها من الأزمة السورية صغير جداً.
ومما ساعد روسيا على موقفها المؤيد للنظام السوري الترابط الإيراني السوري. فخسارة إيران لسورية ستكون عالية الكلفة على إيران لذا فإن إيران ستقدم كل الدعم الممكن، العسكري والاقتصادي، المباشر وغير المباشر، لإبقاء النظام السوري حياً. ومن ثم فإن روسيا تساند سورية سياسياً دون كلف مادية ودون حاجة للتورط المباشر.
من جهة أخرى، يؤخر موقف روسيا من المسألة السورية سقوط النظام السوري وهذا يقلل من تشجيع إسرائيل التي كانت تتحين الفرصة لضرب إيران. فروسيا تبحث عن إعاقة أية عملية عسكرية ضد إيران نظراً لتداعياتها الكثيرة على المنطقة بما في ذلك روسيا نفسها.
وهذا كله لا يمنع أن تكون القراءة الروسية لما يجري في سورية خاطئة تماماً. وهذه لن تكون المرة الأولى، فالقراءات السياسية لروسيا نادراً ما كانت صائبة وخاصة عندما تمتزج برغبات 'قيصيرية'، كما هو حالها اليوم. ورغبة قيصر الكرملين الحالي تتمثل في إعطاء روسيا دوراً في العالم على الطريقة السورية في منطقتها، أي دور 'الأزعر أو الفتوة'، فيجني ما يجنيه الأزعر بالإتاوة، ولكن إلى حين.
عن جريدة القدس العربي.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |