صناعة الدول مخابراتيا – قراءة في رباعية الاسكندرية
خاص ألف
2013-01-23
في رواية رباعية الاسكندرية وهي أهم ما كتب الروائي الإيرلندي البريطاني لورانس داريل الذي عمل في مصر رجل مخابرات مع المخابرات البريطانية قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها. والعمل في المخابرات في الدول الديمقراطية عمل يشرف صاحبه وخاصة زمن الحرب. وهكذا رأينا من الكتاب المهمين ممن عملوا مع المخابرات البريطانية سومرست موم وجورج أورويل ولورانس داريل وآخرين. طبعاً هذا يختلف عن العمل في المخابرات في الدول الأمنية أصلاً والدكتاتورية حكماً حين تتخلى أجهزة الأمن عن عملها الأصلي في كشف الجاسوسية و.... التجسس على العدو إلى العمل على التجسس على أحرار البلد ومنتقدي النظام وملء السجون بهم.
ونعود إلى رباعية الإسكندرية, فحين كتبت هذه الرواية كانت الدولة العثمانية, الدولة الشرقية أو ممثلة الشرق الإسلامي في مقابل بريطانيا وفرنسا وروسيا التي تحالفت معهما في الحرب العالمية الأولى. هزمت الدولة العثمانية التي كانت قد هزمت قبل ما يقارب الثمانين عاماً وأعني في معركة نافارون لتحرير اليونان من الاحتلال العثماني حين حطم الحلفاء الأوروبيون الأسطول المصري الشاب القوي جداً أعني أسطول محمد على والأسطول العثماني, هذه الهزيمة التي سيعلق عليها المستشار الرئاسي الأمريكي بريجنسكي بعد مئة وخمسين عاماً فيقول: "منذ معركة نافارون فقد الشرق كل قرار سياسي له وأصبح قراره السياسي بيد الغرب".
المهم في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين كان داريل في الاسكندرية تحت غطاء معلم للغة الإنكليزية كما يسمي صوته في الرواية (دارلي) . في ذلك الوقت ومنذ أكثر من مئة عام أي منذ أوائل القرن التاسع عشر كانت الإسكندرية مدينة كوزموبوليتانية حقيقية , فالأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية كانت ل"مهاجري" البحر المتوسط من طليان ويونان ومالطيين وقبارصة وشوام وفرنسيين وبريطانيين , هؤلاء الناس كانوا أرستقراطية مدللة منفصلة عن المصريين الذين كانوا غائبين تماماً عن المشهد إلا من خدم وقوادين وعاهرات ورجال شرطة من الرتب الدنيا , وهكذا كان تقسيم العمل في المدينة الكوزموبوليتانية تحت الاحتلال البريطاني, وبعد حوالي ثلاثين عاماً من نشر الرواية سيقوم الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ بكتابة روايته ( ميرامار ) التي يقدم فيها معارضة أو تقليداً مضاداً لرباعية الاسكندرية إلا أنه سيقلب المشهد والأبطال, فالمصريون الآن في الواجهة والمقدمة ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً, أما الخواجات فقد انحطوا إلى مرتبة عجائز الغانيات والسماسرة والبارمانات.
في الجزء الأول من الرباعية (جوستين) تبدأ الرواية بصوت دارلي مدرس اللغة الانكليزية ومحب الشاعر اليوناني كافافس, ذلك الشاعر الذي عاش في الاسكندرية منذ القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين, ولكنه في شعره كان يتبدى هلنستياً كامل الهلنستية, ليس له من موضوع في أشعاره إلا الحديث عن جماليات وصعود وهبوط البطالسة في مصر والسلوقيين في الشام ورثة الاسكندر , وكانت قراءته لذللك العصر تحاول أن ترى سبب ذلك السقوط المريع للعقل الهليني أمام البسطار اللاتيني الذي لم يتجل بعد, ولكنا جميعاً وشخوصه جميعاً نعرف أنه قادم ليحطم أندلس العصور الكلاسيكية كما سيحطم أندلس العصور الوسطى ألفونسو القادم من البربرية الاوروبية وابن تاشفين القادم من الجانب الآخر للبحر, وغابت هلنستيا إلا من حنين كافافس وغابت أندلسيا إلا من كتابات ابن رشد وابن حزم وابن الخطيب .
ونعود إلى داريل الذي يقدم لنا طيلة روايته صورة قوطية للاسكندرية مدينة للجنس والمغامرات المالية والنزوع الفكري العالي لدى الغائب كافافس ولدى الحاضر الروائي بورسواردن الروائي الذي يثير حسد وغيرة دارلي طيلة الوقت, هذا الروائي الذي يذكرني بشكل ما بالروائي البريطاني د. ه. لورانس الذي كان يحوم في رواياته على حدود الإيروتيكية , ليس عن رغبة في الإثارة , وإنما في تحد للعصر الفكتوري الذي سبق عصره مباشرة.
في رواية رباعية الاسكندرية سنرى حالة غرام بين امرأة قبطية هي ليلى أم الإقطاعي ورجل البورصة القوي نسيم حصناني وبين الدبلوماسي البريطاني الشاب ماونت أوليف والذي سيكون سفيراً لبريطانيا فيما بعد , وهي قصة غرام مأساوية خاصة وأنا لا نتعرف على ليلى إلا وهي في مظهر غرائبي, إنها محجبة الوجه بشكل دائم بمنديل أسود وفيما بعد سنعرف أن الجدري قد قضى على جمال وجهها فاختفت وراء الحجاب القناع.
الحجاب – القناع – الرمز هو ما يتقنع به الاسكندرانيون في حفلهم السنوي الكرنفال , أو حفل الأقنعة الذي يقضي الإسكندرانيون أسابيع في انتقائها والاختفاء من خلفها, وفي واحدة من تلك الليالي ستتم عملية قتل لمثلي إيطالي وفيه ستتم عمليات الاغتصاب وفيه سنرى اسكندرية أخرى أشبه ببندقية كازانوفا بكل عهرها وعنفها الليلي ورغباتها المجنونة وتنكرها الذي يكشف خفايا نفوس أهلها الموزعة بين شهوات الشرق حيث يعيشون وشهوات الغرب حيث اشتهى اسماعيل باشا قبل بضعة عقود لو أنه يربط مصر من ساحلها الى أوروبا بحبال قوية ثم يشدها فتنفصل مصر عن أفريقتها وتصبح جزءاً من أوروبا , فلم يفلح إلا بجلب أوروبا وانكلترا إلى مصر فاتحة, ومحتلة, ومحيلة الاسكندرية الى اسكندرية أوروبية لمدة قرن تقريباً ومحيلة أفريقيي هذه الاسكندرية إلى خدم وعبيد لدى أوروبا .
في هذه الرواية سنرى امرأة خارقة الجمال والإغراء, إنها جوستين , بطلة الجزء الأول من الرواية , وهي يهودية محاطة بالغموض والأسرار وهذا ما يجعلها أكثر إغراء لذكور الرواية.
جوستين هذه كانت قد اغتصبت في مراهقتها وحبلت وولدت بنتاُ مالبثت أن خطفت , وهكذا يصبح هم ذكور الرواية وعاشقو جوستين هو العثور على من اغتصبها وعلى من خطف ابنتها, وكما نرى فهذه الحالة هي التجسيد الروائي لعقدة اليهودي الضائع المضيع.
يقع في غرام جوستين ويضاجعها معظم ذكور الرواية من الروائي بورسواردن والوسيط السمسار بالتازار وحتى بطلنا دارلي نفسه , وأخيراً يتزوجها الثري الإقطاعي القبطي نسيم حصناني , وتتسلل إلى الرواية بهدوء الرسامة الفنانة الرقيقة حتى الهشاشة (كليا) ويفاجئنا أن حتى كليا هذه الرقيقة جداً كانت قد عشقت جوستين لفترة ما وعاشت معها قصة حب مثلية وهكذا سنرى هذه الجميلة وهي تتنقل في قلق من حضن إلى حضن دون عشق حقيقي , إلا أن انتحار الروائي النجم بورسواردن سيذيب الجليد الذي تتقنع به وتطرد دارلي الذي يظن أنها عشقته لشخصه غير عارف أنها لم تفعل ذلك أي مطاردته إلا وهي تحاول في علاقتها معه إثارة غير بورسواردن البارد المقتنع بذاته والذي لايغار.
بعد حكايات طويلة معقدة والدخول إلى العالم الدبلوماسي المخابراتي للمحتل الانكليزي لمصر وبعد حكايات عن أخي نسيم حصناني الذي يتبدى تابعاً لنسيم بأكثر مما يتبدى شريكاً في الملكية الإقطاعية, ومن الغريب أن داريل ينسى أن نسيم وأخاه مصريان وبالتالي يخضعان لقانون الميراث في الأحوال الشخصية المصرية, فنرى الأخ الأكبر نسيم وهو يملك كل شيء ونرى الأخ الأصغر وهو يعيش كمساعد وعالة على أخيه على طريقة الإقطاعيين الأوروبيين, وها هو يطارد بكرباجه الذي يحسن استخدامه كسلاح أساسي يخيف الجميع به وبضحكته التي تتكشف عن شفة عليا مشقوقة وهو مظهر آخر من مظاهر تعلق داريل بالغرائبية في روايته هذه وهو يطارد الدراويش المصريين والحواة والمتسولين في بحث ملح يريد منه إرضاء أخيه نسيم في الكشف عن السر الخفي وراء اغتصاب جوستين وضياع طفلتها , وفي رحلته في ليل الاسكندرية المصري سنرى كرنفالاً آخر من السحرة والحواة والشحاذين والعاهرات, سنرى الشاويش في الشرطة المصرية الانكليزي الذي يحاول صنع ويسكي محلي في بيته المتواضع جداً وهو الحائر بين تعلقه بالمصريين الذين يرضون مثليته وبين خجله كمستعمر وهو ينزل إلى هذا الانحطاط مع المحتلين المصريين, ويموت هذا الشاويش ميتة غريبة تاركاً خلفه ببغاءه الذي يظل يثرثر بأغنية بحار كان بحاراً قبل أن يرسو في الاسكندرية ليموت.
فجأة وفي العمق من هذه القوطية الغرائبية تختفي جوستين لتصبح سراً آخر من أسرار الرواية, فالكل يبحث عنها أو عن جثتها إن قتلت ولكنها اختفت, وبهدوء تبرز كليا على سطح الرواية , لقد غادرت الاسكندرية هاربة من عار عشقها لجوستين وتمضي في رحلات آسيوية تزور فيها الهند البريطانية والعراق وفلسطين.
في فلسطين تلتقي المرأتان فجأة , كليا وجوستين , الفنانة الرقيقة الخجولة الرواقية كليا , و.... المرأة ابنة الشهوات والملذات العنيفة الأبيقورية جوستين, ولكن جوستين تتكشف في فلسطين عن جوستين أخرى, فلقد تخلت عن المجوهرات والثياب الرقيقة والعطور الفخمة والماكياج الشهوي , لتحل محلها امرأة تلبس أوفرول العمل بلا مجوهرات وبلا ماكياج وبلا عطور, إلا رائحة عرق المرأة العاملة في الكيبوتز اليهودي , المتصوفة لهدف واحد هو إقامة الدولة والوطن اليهودي.
طبعاً لا نتعرف من خلال الرباعية كلها على فلسطيني واحد أو سوري واحد إلا من كان في مرجل المتوسطية الكوزموبوليتانية الاسكندرية, والذين تحولوا من مواطنين في أوطانهم إلى جزء من الكوزموبوليتانية المتوسطية الاسكندرية.
كانت كليا تراسل أصدقاءها في الاسكندرية كجزء من حياتها الاجتماعية, فهي تقدم لهم رؤيتها عن العالم البريطاني في المستعمرات التي زارتها , فجأة تفجر كليا قنبلتها الكبرى إذ تخبر نسيم في رسالة لها عن لقائها بجوستين في فلسطين , وتنفجر الحكاية في المدينة – الدولة – مختصر العالم – الاسكندرية: جوستين في كيبوتز في فلسطين !!! لا يبدي الزوج المهجور نسيم أي انفعال أو ردة فعل عن زوجته الهاجرة الموجودة في فلسطين على بعد بضع مئات من الكيلومترات فقط وحين يسائله أحد شخوص الرواية إذا ما كان يعرف أو هو متواطىء في مضيها إلى فلسطين مستعيدة هويتها وخارجة من كوزموبوليتانيتها , فيقول نسيم الإقطاعي القبطي : هذا الشرق الأوسط كان خاضعاً لمئات من السنين لدولة إسلامية كبرى , "يقصد العثمانية" أخيراً ونحن لا نرغب ولا نتمنى عودتها , فبعودتها سنتحول إلى كفار وإلى مواطنين من الدرجة الثانية, إلى آخر الصفات التي أطلقها, والآن – تنهد عميقاً- هناك فرصة لإقامة دولة للأقلية اليهودية في فلسطين, وهذه الأقلية ستقوم بحماية كل أقليات الشرق الأوسط, ولن تسمح للأكثرية بالطغيان عليها – ثم يهز رأسه في قناعة – اليس هذا بالشيء الجميل!!!.
وبهدوء تتسرب رسالة الرواية المصنوعة بشكل فني جميل, تتسرب رواية ضابط المخابرات الذي كان يعرف بما يـُعـَد للشرق الأوسط عبر إقامة دولة أقلية تقوم بحماية الأقليات الأخرى, تقوم بحمايتها حتى اضطهاد الأكثرية .
والآن هاهو التحدي الكبير الذي يواجه تلاوين الشرق الأوسط ولا أحب تسميتها بالأقليات, وأتساءل: أهي تنظر إلى نفسها على أنها جزء أصيل من الوطن, كما فعل أقباط مصر زمن ثورة 1919 حين صمد الهلال مع الصليب في وجه الاحتلال البريطاني غير عابئين بنسيم حصناني ورؤاه , وكما فعل الموارنة في القرن التاسع عشر حين حملوا لواء النهضة العربية ثقافياً واجتماعياً,وليس كما فعل بشير الجميل عام 1981 حين تعاون مع العدو الصهيوني ضد محيطه العربي والمسلم , أم أنهم .. تخلوا عن ماضيهم الرائع ليصبحوا مجرد أقليات تبحث عن حماية ربما حولتهم إلى أعداء لمحيطهم وأهلهم , كما حصل للسيخ في الهند في علاقتهم مع المحيط الأوقيانوسي الهندي , وكما حصل للمرتزقة التوركوبولو زمن الاحتلال الصليبي حينما تحولوا إلى أعوان للفرنجة ضد شعبهم , والتوركوبولو كلمة تعني أبناء الترك, الاسم الذي كان الفرنجة يطلقونه على المسلمين المتعاونين معهم.
هل نقرأ الإنذار, وهل نعيد قراءة التاريخ.
08-أيار-2021
06-شباط-2021 | |
28-تشرين الثاني-2020 | |
22-آب-2020 | |
15-آب-2020 | |
09-أيار-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |