Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

في رابعة ضوء النهار - قصة للكاتب الصيني ها جن ترجمة:

2013-01-29

حين كنت ألتهم كعكة الذرة و الرخويات على طعام الغداء، فتحت بوابتنا و دخل الورك العاري بقفزة واحدة . وكان معه مسدس خشبي كبير وقد حشره بشكل بارز في حزام قميصه الأزرق. وناداني بلقبي قائلا:" أسرع أيها القط الأبيض، و دعنا نغادر، لقد ألقوا القبض على عاهرة عجوز في بيتها. و سوف يجرّسونها في الشوارع طوال بعد الظهيرة".
ألقيت بالطبق الذي انتهيت منه تقريبا و قلت:" حقا؟". و أسرعت للغرفة الداخلية لأرتدي قميصي الداخلي و صندلي و أنا أقول:"سأعود في لحظة".
سمعت جدتي تسأل بصوتها الخشن:" هل تقول أيها الورك العاري إنهم سوف يعرضون اليوم مو ينغ؟".
" نعم، كل الأولاد في الحي انطلقوا إلى بيتها. و أتيت لأخبر القط الأبيض". التقط أنفاسه و تابع:" هيا أيها القط الأبيض، أسرع".
قلت و أنا لا أزال أبحث عن صندلي:" ها أنا قادم".
قالت الجدة للورك العاري و هي تهش الذباب بمروحتها المصنوعة من ورقة نخيل كبيرة:" حسنا، حسنا. يجب أن يحرقوا العاهرة بمصباح السماء كما كانوا يفعلون في الأيام الخوالي".
وقال لي الورك العاري في لحظة عودتي:" هيا لنذهب". و استدار نحو الباب، و حملت سيفي الخشبي و تبعته.
ولكن الجدة مدت مروحتها لتعترض طريقي وقالت:" البس حذاءك يا عزيزي".
" لا يوجد وقت لذلك يا جدتي. يجب أن أسرع. و إلا ستفوتني الفرصة و لن أتمكن من إخبارك بكل القصة بعد عودتي".
و هرعنا إلى الشارع، بينما الجدة تصيح وراءنا:" تعال. احمل معك الحذاء المطاطي".
اندفعنا نحو بيت مو ينغ عبر طريق الخلود، و نحن نلوح بسلاحينا فوق رأسينا. كانت الجدة كسيحة و لم تغادر باحتها الصغيرة الضيقة. ولذلك توجب أن أنقل لها ما يحري في الخارج.
ولكنها كانت تعرف مو ينغ بشكل جيد تماما مثل كل العجائز في البلدة . كن يعرفنها و يبغضنها. وكلما سمعن أنها حازت على رجل في بيتها مجددا تعمدن للقول:" هذه المرة يجب إحراق هذه العجوز العاهرة بشعلة السماء المقدسة ...".
وكن يقصدن الطريقة القديمة لإلحاق العقاب بالزانية. مع أنهن عشن في الصين الجديدة قرابة عقدين من الزمن، لا تزال بعض الأفكار التي أكل الدهر عليها و شرب تعشش في رؤوسهن. وقد أخبرتني الجدة بالعديد من قصص الإعدام التي شاهدتها بأم عينيها في قديم الزمان. كان المسؤولون يعدمون من يرتكب الإثم بطريقتين مختلفتين : يقطعون رأس الرجل، حيث يربط على عمود فوق دكة السوق، وفي البداية ينفخون البوق، و يصعد رجل مقنع على الدكة و بيده فأس عريضة يضعها أمام صدره: و لدى النفخ لمرة ثانية بالأبواق يقترب الرجل من المجرم و يرفع الفأس فوق رأسه، و مع الدفعة الثالثة من نفخة الأبواق يقطع الرأس و يتدحرج على الأرض. و لو أن أعضاء أسرة الرجل يقفون تحت الدكة، يتم التقاط الرأس لدفنه مع جثمانه، و لو لم يتوفر أحد من أعضاء عائلته ، يحمل الكلاب الرأس بعيدا و يطاردون بعضهم حتى يتم التهام اللحم الطري و يعودون فيما بعد لأكل الجثمان.
بعكس الرجل، كانت المرأة الخاطئة تعدم بمصباح السماء. تعلق بالمقلوب عارية فوق نار الحطب و التي بالكاد تلمس ألسنة اللهب جمجمتها، و يجلدها رجلان بالسياط المصنوعة من العضو التناسلي للثيران. و هكذا يرتفع صياحها طلبا للنجدة حتى تسمعها كل البلدة. و ما أن تحرق النار رأسها قليلا، يكون قد استغرق ذلك على الأقل نصف يوم فيتوقف صراخها، و لكنها تستغرق يوما و ليلة قبل أن تموت. كان الناس يعتقدون أن طريقة العقاب هذه تبررها و تفرضها السماء، و لذلك تدعى النار مصباح السماء. و لكن هذه عادات قديمة، و لا أحد يعتقد أنه يجب حرق مو ينغ بتلك الوحشية.
كان بيت مو صغيرا من الغرانيت مع بلاط إسمنتي و قد شيد في العام الماضي، وهو مجاور لفندق ( إيست - الشرق) في الجهة الشمالية من الدرب الشرقي. و عندما دخلنا في ذلك الشارع، لم يكن بمقدورنا لا أنا و لا الورك العاري أن نتلفت بحرية لأن تلك المنطقة هي أرض تقع تحت سيطرة أولاد يعيشون عليها. وإثنان من أعنف الأولاد فيها، ممن يقتل بلا تردد، يحكمون قبضتهم على المدينة.
و كلما اقترب ولد من شارع آخر من درب الخالدين يلقون القبض عليه و يشبعونه ضربا. وطبعا كنا نفعل المثل: لو أمسكنا بواحد منهم في منطقتنا، على الأقل نصادر كل ما معه: أقفاص صرصور الحقل، المقلاع، أغطية الزجاجات، الحجر الكربوني، العبوات الفارغة، و هكذا. و نجبره أيضا على أن يقول لنا " أبتاه"، أو " جدي الموقر". و لكن في هذا اليوم تدفق مئات من الأولاد و اليافعين على درب الخالدين. و لا شك أن دزينتين من الحراس لن يتمنكوا من الاحتفاظ بالأرض. أضف لذلك، كانت الهدنة قد دخلت حيز المفعول. فقد كانت عاطفتهم لرؤية الحرس الأحمر و هو يجر مو ينغ من عرينها تلهب فينا الحماس.
لدى وصولنا، كانت مو قد أجبرت على الخروج للعلن بين حشد من الناس تجمع أمام بوابتها. وفي داخل باحة منزلها تجد ثلاثة صفوف من الغسيل الملون المنشور على أسلاك معدنية، و كذلك تشاهد شجيرات كرمة. جر إثنان من الحرس الأحمر مو ينغ من ذراعيها، و سار خلفها عشرون حارسا أحمر آخر. كانوا جميعا من مدينة داليان و يرتدون البذة العسكرية الوطنية. و الله وحده يعلم كيف نما لعلمهم بوجود هذه المرأة السيئة في بلدتنا. مع أن الناس يبغضون مو و يطلقون عليها الألقاب، لا يمكن لأحد أن يعاملها بهذه القسوة. كان أفراد الحرس الأحمر هؤلاء من الأغراب، و لذلك لا يخجلون من العقوبة الخشنة.
لدواعي دهشتنا كانت مو تبدو هادئة للغاية، و لم تحتج و لم تلفظ كلمة واحدة. أفلت عضوا الحرس الأحمر ذراعيها، فتبعتهما بهدوء حتى الشارع الغربي. و سرنا جميعا برفقتهم. بعض الأولاد سبقونا بعدة ياردات ليلتفتوا إلى الخلف و ينظروا لها. كانت مو ترتدي ثوبا أزرق بلون السماء. وألقى عليها هذا مسحة مختلفة عن بقية النساء اللواتي كن دائما بسترات و سراويل تناسب العمل الشريف. وفي الحقيقة، حتى نحن الصغار كنا نستطيع أن نرى كم هي وسيمة، وربما لها أفضل القسمات بين نساء البلدة ممن هن بعمرها. و مع أنها في الخمسينات، لم يكن لها و لو شعرة بيضاء واحدة، كانت ممتلئة قليلا، و لكن بسبب طول ساقيها و ذراعيها تبدو بصورة ملكة. و إذا كان لمعظم النساء وجوه نحيفة، كان وجهها أبيض و موفور الصحة كالحليب الطازج. قفز الورك العاري أمام الحشود و استدار نحوها و صاح بصوت مرتفع :" يا لك من عاهرة حقيرة".
أخذت منه نظرة، وعيناها المستديرتان تلمعان، و الشامة بقرب منخرها الأيسر تبدو داكنة. أكدت لي الجدة أن شامة مو ليست علامة على الجمال و لكنها بسبب الدموع. و هذا يعني أن حياتها كانت مغمورة بالدموع. كنا نعلم إلى أين سيذهبون. إلى النزل الأبيض، و الذي كان في السابق مبنى مدرستنا، و هو المبنى الوحيد المؤلف من طبقتين في هذه البلدة. وعندما وصلنا إلى نهاية الشارع الغربي، برز رجل من زاوية الشارع، و هو يمسك أنفاسه و بيده منجل. كان مينغ سو، زوج مو ينغ، الذي يبيع مسحوق الفاصولياء في الصيف و الزعرور المغطى بالسكر في الشتاء في السوق المحلية. وقف أمام الحشد الكبير، كأنه نسي لماذا جاء مسرعا. و التفت برأسه ثم نظر للخلف، ولم يكن وراءه أحد. و بعد دقيقة اقترب بحذر شديد.
توسل قائلا:" من فضلكم اسمحوا لها بالانصراف. أيها الرفاق في الحرس الأحمر، الخطأ خطأي. من فضلكم أطلقوا سراحها". و وضع المنجل تحت ذراعه و عقد يديه أمام صدره.
قال له رجل طويل شاب بصوت آمر ولا بد أنه قائدهم:" انصرف من طريقنا".
" من فضلكم لا تحرموني منها. إنها غلطتي. لم أشرف على تربيتها كما يجب. من فضلكم امنحوها فرصة لتتحول إلى إنسانة جديدة. أعدكم، لن تعيد الكرة".
توقف الحشد بشكل دائرة حوله، و سألته امرأة مربعة الوجه و شابة بصوت رفيع:" ما هي طبقتك الاجتماعية؟".
قال مينغ و عيناه الصغيرتان مغرورقتان بالدموع و أذناه المغلقتان ترتعشان قليلا:" فلاح بسيط. اسمحي لها بالانصراف يا أختي، ارحمينا، سأركع لك لو أطلقت سراحها". و قبل أن يتمكن من السقوط على ركبتيه، أمسك بتلابيبه رجلان شابان و سحباه للخلف.
كانت الدموع تنهمر على صفحة وجهه الأسود و وجنتيه اللاحمتين، و رأسه الأشيب يتموج هنا و هناك. و كان المنجل قد أُخذ منه.
صاح القائد الطويل و هو يصفعه على وجهه:" اخرس. إنها أفعوان. قدمنا من مبعدة سبعين كيلومترا لنصل إليكم و نمحي من الوجود الثعابين و الديدان. إن لم تتوقف عن المقاطعة سوف نقودك معها. هل ترغب بالانضمام إليها؟".
صمت. غطى مينغ وجهه بيديه الضخمتين كأنه يشعر بالدوار. و قال رجل من الحشد بصوت مرتفع:" لو بمقدورك أن تشاركها الفراش، لماذا لا تشاركها التجريس في الشارع؟".
وضحك عدد من اليافعين. و قال أحد الأشخاص للحرس الأحمر:" خذوه معها، خذوه أيضا". و ظهرت علامات الخوف على مينغ، و بدأ بالنحيب بصوت هادئ.
نظرت له زوجته من غير أن تقول كلمة، و أسنانها مطبقة، و ابتسامة خفيفة على زاوية فمها. و يبدو أن مينغ بتأثير من نظراتها عبس قليلا. و أطلق الحرس الأحمر ذراعيه، فتنحى جانبا، و هو يراقب زوجته و الحشد و هم يقتربون جميعا من المدرسة.
كان للناس في البلدة آراء متباينة عن مينغ سو. بعضهم قال إنه ولد مدجنا و لا يمانع أن تنام زوجته مع أي شخص ما دامت تأتي له بالنقود. و بعضهم اعتقد أنه حسن التهذيب و قد استمر مع زوجته لأجل مصلحة أبنائه، و نسوا أن أولاده الثلاث كبروا من فترة و هم يعملون الآن في المدن الكبيرة بعيدا عن مسقط رأسهم. و البعض اعتقد أنه لم يترك زوجته لأنه لا يملك خيارا - لأنه لا توجد امرأة تقبل الزواج بمسخ مثله. و يبدو أن الجدة لسبب آو آخر، تحترم مينغ. و أخبرتني أن مو ينغ تعرضت للاغتصاب على أيدي جماعة من الجنود الروس تحت البرج الشمالي ثم ألقيت على ضفة النهر. و في تلك الليلة تسلل زوجها إلى هناك و حملها عائدا إلى البيت. و اعتنى بها طوال الشتاء حتى تعافت. و قالت لي الجدة :" العاهرة العجوز لا تستحق هذا الرجل الشريف. إنها بلا قلب ولا تعرف إلا كيف تبيع عرضها".
دخلنا باحة المدرسة حيث تجمع مسبقا حوالي مائتي شخص. و نادانا القريدس الكبير و هو يلوح لنا بمخالبه:" هاي،انظرا هنا ، أيها القط الأبيض و الكفل العاري". و كان هناك العديد من أولاد حينا. فذهبنا لننضم إليهم.
سار الحرس الأحمر مع مو إلى البوابة الأمامية من المبنى. و قد انتصبت طاولتان بين الأسدين الحجريين اللذين تأهبا على طرفي المدخل. و على إحدى الطاولتين وضعت قبعة طويلة من الورق و على جانبها عبارة سوداء كبيرة تقول:" سحقا للعاهرة العجوز!".
ورفع شاب يده العظمية النحيلة و بدأ بمخاطبتنا قائلا:" أيها الشعب، اجتمعنا اليوم هنا لنفضح و ندين مو ينغ، الشيطانة الشريرة في هذه البلدة".
وصاحت امرأة نحيفة من الحرس الأحمر تقول:" فلتسقط هذه الشيطانة البورجوازية". و رفعنا قبضاتنا ثم رددنا معها الهتاف.
صاح رجل في أواسط العمر و هو يرفع كلتا يديه في الهواء:" لتسقط العاهرة العجوز مو ينغ". كان رجلا ثوريا نشطا من حارتنا. وصحنا معه مجددا، بأصوات أعلى. و تابع الرجل حسير النظر قوله:" أولا يجب على مو ينغ أن تعترف بغلطها. لنرى موقفها من أخطائها. ثم نطبق العقوبة التي تناسب جريمتها و نفسيتها، هل توافقون أيها الناس؟".
ورددت بعض الأصوات من بين المتجمهرين:" نعم".
فالتفت للمجرمة و سألها:" يجب أن تعترفي بكل شيء يا مو ينغ. الآن الكرة في مرماك".
و أجبرت على الوقوف فوق دكة، و كنا ننتظر عند أسفل الدرج، و لذلك توجب علينا أن نرفع رؤوسنا لنشاهد وجهها.
و بدأ الاستجواب. سألها الزعيم الطويل بصوت جامد:" لماذا تغوين الرجال و تعطلين إرادتهم الثورية بسمومك البورجوازية؟".
قالت بهدوء مبالغ به:" ولكن لم أسأل أي رجل أن يأتي لبيتي، ألا تعلمون ذلك؟". وكان زوجها يقف في مقدمة المتجمعين، ليصغي لها دون أن يبدي أية عاطفة، كما لو أنه فقد عقله.
" اذا لماذا كانوا يزورونك في بيتك و ليس بيوت الأخريات؟".
قالت:" أرادوا أن يناموا معي". و زمجرت عدة نساء من بين الزحام قائلات:" يا للعار".
" هذه عاهرة حقيقية".
" اجلدوها".
" سدوا فمها القذر الرخيص".
لكنها تابعت الكلام بصوت مرتفع:"حسنا يا أخواتي، من الخطأ أن أنام معهم. و لكن تعرفن كيف تكون الحال حينما ترغبن برجل ما، أليس كذلك؟ ألم يخامر هذا الشعور العميق إحداكن ذات مرة". و نظرت باحتقار للنسوة متوسطات العمر الذابلات الواقفات في مقدمة الصف، ثم أطبقت عينيها و تابعت تقول:" آه، ألا ترغبن برجل حقيقي أن يأخذكن بين ذراعيه و تسمحن له بلمس كل جزء منكن- جسمكن. أنتن من أجل ذلك الرجل تزهرن بشكل نساء. نساء حقيقيات".
ضربها شاب بدين على جنبها بقبضته التي تشبه المطرقة و قال :" خذي هذه، يا روح الثعلب". و أسكتتها الضربة القوية مباشرة. و أمسكت طرفيها بكلتا يديها، و هي تشهق بحثا عن نفس.
قالت أم الورك العاري من أمام الحشود و سبابتها مرفوعة و تشير إلى مو:" أنت مخطئة يا مو ينغ، لديك رجلك، الذي لا تنقصه لا ذراع و لا ساق. و من الخطأ أن تستحوذي على رجال آخرين من أجل نقودهم".
رمقت مو زوجها و كشرت و هي تقول:" هل لدي رجل؟". ثم نصبت ظهرها و قالت:" رجلي لا شيء. أقصد إنه لا شيء في الفراش. ودائما يقذف قبل أن أستمتع".
و انفجر البالغون بالضحك. و سأل القريدس الكبير الكفل العاري :" ما هذا؟ يا لها من مصحة".
و قال الكفل العاري بنفاذ صبر:" ألم تفهم؟ ألا تعرف شيئا عما يدور بين الرجل و المرأة، تقصد إنها لا ترغب أحيانا أن يقترب منها و لكنه يفعل. توقيت سيء".
فقلت:" لا تبدو المسألة كذلك".
وقبل أن نتمكن من الكلام، تحطمت زجاجة حبر كبيرة على رأس مو و أسقطتها من الدكة. و عندما انبطحت على السلالم الإسمنتية بدأت بالسباب و الشتائم. وكانت تفرك رأسها بيسراها و هي تصيح:" يا إله السموات، إنهم يتعاملون مع جدتهم بهذه الطريقة المشينة".
" هذا يناسبك تماما!".
" حشرة رخيصة!".
" حتى لو غرست سكينا في بلعومها لن ترتدع".
" تولد الخنازير لتقتات على القاذورات".
عندما أعادوها للدكة، تحولت لشخص آخر- غطوا كتفيها بالساتان الأسود، و كان خط أحمر يسيل على صدغها الأيسر. كانت الشمس الحارقة تلهبها بنارها كما لو أن كل الأشياء السود التي تغطيها على وشك أن تحترق. و نقلت عينيها على المكان الذي وقف فيه زوجها منذ دقائق مضت، و هي تنوح. و لكنه لم يكن هناك. صاح مزارع من بين الحشود:" لتسقط العاهرة العجوز". و أيدناه جميعا بصوت واحد. فبدأت ترتعش قليلا.
قال الزعيم الطويل لنا:" لتتخلصوا من عدوة الثورة، أولا يجب قص شعرها". و بحركة من يده، نادى على الحرس الأحمر الواقفين خلفه. تقدم أربعة رجال إليه و أجبروها على أن تجثو. رفعت المرأة ذات الوجه المربع مقصا كبيرا و وضعته في كتلة الشعر الغزير.
" كلا، كلا، العون من فضلكم. سأفعل أي شيء تطلبونه مني".
صاح أحدهم:" قصوه. احلقوا شعرها لتنكشف صلعتها".
استعملت المرأة التابعة للحرس الأحمر المقص بمهارة. و بعد أربع أو خمس قصات، أصبح رأس مو يبدو مثل ذيل دجاجة يذوب. و عادت للهمهمة مجددا، و أنفها يسيل و أسنانها ترتعد.
وهبت نسمة و حملت معها الجدائل المتطايرة من المنصة و بعثرتها على الأرض الرملية. كان الجو حارا و استخدم بعض الأشخاص المراوح، و تابعوا يهزونها. و غمر العرق الحشد.
وووووووو، ووووووو، وو، وو. جاء القطار من مدينة الرمال في الثالثة و النصف. كان قطار بضائع و من عادة السائق الشاب أن يستعمل النفير البخاري كلما شاهد امرأة في ربيع العمر في الحقل أمامه على السكة.
و استمر الاستجواب، فسألها الرجل حسير النظر:" كم رجلا نمت معهم خلال تلك السنوات؟".
" ثلاثة".
و صاحت امرأة من بين الجمهور:" كذابة".
مسحت دموعها من خديها بقفا يدها:" قلت الحقيقة يا أختاه".
سألها الرجل الشاب مجددا:" من هم؟. تحدثي بالتفصيل".
" ضابط من جبل التنين الصغير و-".
" كم مرة جاء إلى بيتك؟".
" لا أستطيع أن أتذكر. ربما عشرين".
" ما اسمه؟".
" لا أعرف. و لكن أخبرني أنه ضابط مهم".
" و هل جنيت منه المال؟".
" نعم".
" كم هي كمية النقود في كل مرة؟".
" عشرون يوانا".
" و كم يبلغ الإجمالي؟".
" ربما خمسمائة".
التفت الشاب إلينا و قال:" أيها الرفاق و الثوار. كيف يمكن معالجة هذه الحشرة مصاصة دم الضابط الثوري؟".
صاحت امرأة عجوز تقول:" اربطوها بأربعة جياد و مزقوها إربا اربا".
" احرقوها بالمصباح المقدس".
وصاحت صبية و يدها مرفوعة مثل مسدس ناعم و الإبهام مثل زناد مرفوع و السبابة مصوبة على مو:" الطموها على وجهها".
فضحك بعض الصبية.
ثم تم تمرير زوج من الأحذية القماشية القديمة، رمز للمرأة العاملة، إلى الأمام. حملتهما المرأة النحيلة الشابة و ربطتهما معا بالرباط. و صعدت على طاولة و أوشكت أن تعلقهما حول رقبة مو. دفعت مو المرأة بكوعها و ألقت بالحذاء على الأرض. فحمله الشاب البدين و قفز مرتين ليصفعها بالنعل على خديها. و سألها:" كم أنت عنيدة. هل ستتوبين أم لا؟".
فقالت بمكر و لم تجرؤ على الحركة:" نعم، سأتوب". في نفس الوقت تم تعليق الحذاء حول رقبتها.
فقالت امرأة:" ها هي تبدو كعاهرة حقيقية".
وصاح مزارع:" غني لنا أغنية".
قال رجل بنظارات:" يا رفاق، لنتابع الإدانة". و التفت إلى مو و سألها:" من هم الرجال الآخرون؟".
" مزارع من قرية التفاح". " كم مرة؟"." مرة واحدة".
" كاذبة".
" إنها تكذب".
" الطمها على فمها".
ورفع الشاب يديه ليهدئ الجماهير و سألها مجددا" كم حصلت منه؟"." ثمانين يوانا".
" لليلة واحدة".
" نعم".
" أخبرينا بالمزيد، كيف نصدقك؟".
" جاء ذلك الرجل للبلدة لبيع الخنازير. و باع كل شيء بثمانين، و حصلت منه على النقود".
" لماذا كانت تسعيرته أعلى من الضابط؟".
" ليس أغلى. فقد فعلها معي أربع مرات في ليلة واحدة".
كان بعض الناس يبتسمون و يتهامسون. وقالت امرأة ربما الرجل العجوز المذكور أرمل أو إنه لم يتزوج قط.
وتابع الشاب يسأل:" ما اسمه؟". " لا أعلم".
" هل كان فقيرا أو غنيا؟".
" فقير".
وخاطبنا الشاب بقوله:" يا رفاق. لدينا فلاح فقير يعمل بمنجله طوال العام و لا يحصل إلا على بقايا الخنازير. النقود هي ملح و زيت عائلته، و لكن هذه الحية ابتلعت نقوده بكرعة واحدة، ماذا نفعل بها".
" اقتلها".
" حطم جمجمتها".
" اعصر منها حتى بولها".
وبدأ عدد قليل من المزارعين بالتقدم عدة خطوات، و هم يلوحون بقبضاتهم و يهزون أيديهم.
قالت بصوت آمر امرأة من الحرس الأحمر لها وسام صورة كبيرة للرئيس ماو فوق صدرها:" علمنا القائد العظيم إنه في سبيل كفاحنا نحتاج لاستعمال الكلمات، و ليس القوة. القوة لا تحل المشاكل الإيديولوجية". و كلمت بعبارتها المزارعين الغاضبين الذين وقفوا بين الحشود.
وووووووو، وووو، وو، صرخ محرك في الجنوب، كان غريبا لأن سائقي قطار الساعة الرابعة هم حفنة من الرجال الكبار بالعمر و نادرا ما ينفخون بالصافرة.
وتابع الرجل حسير النظر استجواب مو." من هو الرجل الثالث".
" عضو في الحرس الأحمر".
انفجر الحضور بالضحك. و طلبت امرأة من الحرس الأحمر علبة حبر أخرى. وقال الشاب بصوت خطير:" هل أنت مسؤولة عن كلامك يا مو ينغ".
" ذكرت لك الحقيقة".
" ما اسمه؟".
" لا أعرفه و لكنه قائد جماعة البروباغاندا التي مرت من هنا في الشهر الماضي".
" كم مرة نمت معه؟".
" مرة واحدة".
" كم هو المبلغ الذي كسبته منه؟".
" لا شيء. لم يدفع ذلك الكلب القذر قرشا واحدا. قال إنه أنجز عملا شاقا و يستحق عليه جائزة مالية".
" لقد ضحك عليك إذا؟".
ضحك بعض الموجودين بين الزحام، و مسحت مو أنفها بإبهامها، و على الفور ارتسم شارب سميك على وجهها من المخاط. و قالت:" لقد لقنته درسا".
" كيف؟".
" قرصت أذنه، و ضربته على أنفه حتى سال الدم. و أخبرته أن لا يعود مجددا".
و بدأ الناس يتكلمون فيما بينهم. بعضهم قال يا لها من امرأة شجاعة فهم يعلمون كم تبلغ جرأتها. و بعضهم قال رجل الحرس الأحمر تافه و مخادع. لو حصل على شيء لا بد من دفع ثمنه. و حفنة من النساء قلن هذا الجبان حصل على ما يستحق.
و بدأ الزعيم الطويل يقول:" أيها الجمهور الثوري العزيز. كلنا سمعنا تفاصيل جريمة مو ينغ. لقد أغوت واحدا من ضباطنا البواسل و فلاحا بسيطا ليسبحا في مياهها العكرة، و ضربت واحدا من الحرس الأحمر حتى صبغت لونه بالأزرق و الأسود. هل نسمح لها بالعودة للبيت من غير عقاب، أم نلقنها درسا لا ينسى حتى لا تكرر فعلتها الشنعاء".
بعض الأصوات صاحت بنغمة حزينة: لقنها درسا. ثم نعرضها في الشوارع على الملأ".
جر إثنان من الحرس الأحمر مو ينغ من الدكة، و آخر حمل القبعة الطويلة.
توسلت لهم بقولها:" أخوتي و أخواتي. سامحوني هذه المرة. لا تلحقوا بي الضرر. أعدكم بتصويب أخطائي. سأتحول لإنسانة نافعة. النجدة. آه النجدة".
لم تنفع المقاومة، في غضون ثوان زرعت القبعة الكبيرة على رأسها. و علقوا لوحا كبيرا بين فردتي الحذاء القماشي فتدلى على صدرها. و كانت هناك كلمات مكتوبة عليه تقول: أنا حذاء مكسور. و جريمتي تستحق الموت.
وضعوا جرسا في يدها و طلبوا منها أن تقرعه و تقرأ بصوت جهوري الكلمات المكتوبة على الجهة الداخلية من الجرس. و تبعت أنا و أصحابي الجمهور، و نحن بغاية الارهاق. كان الشبان من الشارع الشرقي أكثر صخبا، و ألقوا الحجارة على ظهر مو. حجرة ضربتها في قفا رأسها و سال الدم على رقبتها. و لكنهم امتنعوا فورا بأمر الحرس الأحمر، لأن حجرة ابتعدت عن مو و أصابت رجلا بوجهه.
أما الكبار بالسن الذين لم يتمكنوا من اللحاق بنا، وقفوا على الكراسي و أطراف النوافذ و بأيديهم المناشف و الغلايين. كانوا على وشك أن يجرّسوها في كل الشوارع. و كان هذا يتطلب عدة ساعات، لأن المسار يتوقف لفترة قصيرة في زاوية كل شارع.
ضربت مو الجرس ، بانغ بانغ، و قالت:" أنا شيطان شرير".
" بصوت أعلى".
بانغ، بانغ:" سرقت الرجال. و فاحت رائحتي لآلاف السنوات".
و عندما كانوا يخرجون من ساحة السوق، برز صديقنا النظرة الضيقة من زقاق ضيق.
قبض على معصمي و على معصم الكفل العاري و قال:" مات أحدهم في محطة القطار. تعالوا، لنأخذ نظرة". كلمة " ميت" حفزتنا مباشرة. و أسرعت نصف دستة من الأولاد إلى محطة القطار.
كان الرجل الميت هو مينغ سو. و تجمع الناس على سكة القطار على بعد مائتي ياردة شرق مقر المحطة. و انكب عدد من الرجال على السكة المبقعة بالدم و بقطع الجثمان المدهوس. و أسرع رجل نحو الجزء المظلم من السكة و أعلن أن القطار جر مينغ على الأقل سبعين قدما. و تحت السكة كان جسد مينغ يرقد بلا رأس في الخندق. و إحدى ساقيه مفقودة، و عظامه اللماعة المبيضة مقذوفة لمسافة عدة بوصات. و كانت هناك عدة ثقوب في جسمه لذلك ظهر كأنه قطعة لحم طازجة فوق طاولة الجزار. و وراءه، على مسافة عدة أذرع، استقرت قبعة قش على الأرض. و أخبرونا أن رأسه تحت القبعة.
ذهبت برفقة الكفل العاري و هبطت على السفح لمشاهدة الرأس. و لم يجرؤ أحد من الناس أن يأخذ نظرة. و تبادلنا نحن النظرات، و تساءلنا بنظراتنا من يجب عليه أن يرفع القبعة القش. حملت سيفي الخشبي و رفعت به طرف القبعة قليلا. و انطلق سرب من الذباب الأزرق، يطن مثل يعاسيب ثائرة. و انحنينا لننظر على الرأس من فوق. كان سنان مشحوذان قد اخترقا الشفة العليا. و اختفت مقلة إحدى عينيه. و لم يكن الشعر الشائب موجودا، بل تغطيه الأوحال و القذارة. و الفم المفتوح ممتلئ بمخاط متورد. و سحلية ناعمة تقفز و تزحف بعيدا في العشب.
بدأ الكفل العاري بالتقيؤ و قال:" آه". وانبثق دقيق السورغوم ممزوجا مع ذرات من خيوط الفاصولياء على صخرة مصفرة. " لنبتعد أيها القط الأبيض". و ابتعدنا نتجول في المحطة، و نصغي لروايات مختلفة عن الحادث. قال بعض الناس إن مينغ سكر و غط بالنوم على القضبان. و قال غيرهم لم ينم أبدا و لكنه ضحك بهستيرية و هو يمشي وسط القضبان باتجاه قطار قادم. و غيرهم ذكر إنه لم يشرب قطرة واحدة، لأنه تكلم و الدموع في مآقيه مع بعض الأشخاص و كان يعدو إلى المحطة، على أية حال، كان ميتا و ممزقا لأشلاء.
وفي تلك الليلة حينما كنت في طريق العودة للبيت، سمعت مو ينغ تنوح في الظلام الضبابي و تقول:" خذني للبيت. آه، ساعدني. من بمقدوره أن يساعدني. لماذا لا تأتي و تحملني إلى لبيت".
و كانت مستلقية في محطة الباصات وحدها.

من مجموعته ( تحت الراية الحمراء). 1997.

ها جن Ha Jin : روائي صيني معارض يقيم في الولايات المتحدة منذ عام 1985. من أهم أعماله ( الخريف الطيب، قصص؛ نفايات الحرب، رواية ، الانتظار و هي من أكثر الروايات العالمية مبيعا) و غيرها. في مجمل أعماله يكشف عن معاناة الصيني البسيط و عن خلافه مع أساليب النظام.

تعليق



محمد السبيعي

2013-06-12

كم اعشق هذا الكاتب ,

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow