باولو كويليو – ساحرة بورتوبيللو ــ ترجمة عزّة طويل
2008-04-13
بادرت: أريد تعلّم السحر. حملق المجوسي فيها. كانت ترتدي جينزاً عتيقاً وقميصاً عادياً، وفي عينيها تلك النظرة المتحدّية التي تعتلي الوجوه الخجلة لا سيما في غياب أي حاجةٍ اليها.
فكّر: لا بد أنني أبلغ من العمر ضعف عمرها. لكنه أدرك على رغم ذلك أنه قبالة رفيقة روحه.
- اسمي بريدا. اعذرني لأنني لم أقدم نفسي، لقد طال انتظاري حتى هذه اللحظة، وها أني أكثر توتّراً مما تصوّرت.
- لمَ تريدين تعلّم السحر؟
- لأنه قد يوصلني الى أجوبة عن بعض أسئلتي حول الدنيا، وكي أمتلك الطاقات السحرية وأيضاً
كي أتمكن من الرجوع في الزمن والطواف في المستقبل ان كان ذلك ممكناً.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يزوره فيها أحدهم وفي جعبته أسئلة مماثلة. وهو الذي عُرف معلّماً مرموقاً في مجال التعاليم، تبنّى تعليم الكثير من الفتية، مؤمناً بأن العالم بأسره سيتحوّل إذا تمكن من تغيير من حوله. لكنه ارتكب خطأ ولا ينبغي أن يخطئ المعلمون.
- ألا تعتقدين أنك لا تزالين شابة؟
- أنا في الحادية والعشرين... فإذا رغبت في تعلّم الباليه لاعتبروني هرمة!
أشار إليها المجوسي لتتبعه. ومضيا عبر الغابة، يتوسّطهما الصمت. وفيما هو يراقب ظلال الأشجار تطول وتراوغ الاتجاهات بعجلة مدفوعة بسحب تغوص في الأفق، راح يفكّر: إنها جميلة لكنها تبلغ من العمر نصف ما أبلغ. وأدرك أن معنى ذلك عذاب أليم. صمتُ ذاك الرجل إلى جانبها أضجرها، فهو لم يكلّف نفسه حتى التعليق على ملاحظتها الأخيرة. كانت أرضُ الغابة رطبة، تسترها أوراق الأشجار المتناثرة. هي أيضاً لفتتها حركة الظلال معلنةً دنوّ الليل فالظلام سيحلّ ويستلقي ولا مصباح في حوزتهما. خاطبت بريدا نفسها: عليّ الوثوق به. إيماني بأنه يستطيع تعليمي السحر يحتّم عليّ الوثوق بأن في إمكانه توجيهي عبر الغابة.
أكملا سيرهما. كان كأنه يهيم، عابراً من جانب إلى آخر، محوّلاً اتجاهه حتى في غياب كل ما يعرقل مسيرته. اجتازا مراراً دروباً دائرية مارّينِ بالبقعة نفسها ثلاث مرات وأربعاً.
وضعت احتمال أنه يمتحنها. كانت مصمّمة على اجتياز التجربة حتى النهاية، محاولة إقناع نفسها بأن كل ما كان يحصل، بما في ذلك الدروب الدائرية، ليس فيه ما يثير الريبة، وهي التي اجتازت مسافة طويلة جداً وتعلّق كبير أمل على لقائها المجوسي. دبلن تبعد أكثر من 90 ميلاً، والباصات التي تصل إليها مرهِقة جداً، ومواعيد انطلاقها غير محددة. وجب عليها أن تستيقظ باكراً لتبدأ رحلة تستغرق ثلاث ساعات لتصل إلى القرية فتسأل من تقابلهم عن مكانه، مضطرة إلى توضيح حاجتها برجلٍ في مثل غرابته. وبعد عناء طويل، أخبرها أحدهم في أي موضعٍ من الغابة يحلّ عادة خلال النهار، محذّراً إياها بأن المجوسي سبق أن حاول إغواء إحدى فتيات القرية.
فكّرت في سرّها: لا بدّ من أنه رجل لافت. كانا يتوغّلان صعوداً فإذا بها تأمل لو أن الشمس تتريّث متقاعسةً في السماء. كانت خائفةً من التعثّر فوق الأوراق الرطبة.
لماذا هذه الرغبة الشديدة في تعلّم السحر؟ سألها.
سُرّت بريدا لكسر حاجز الصمت، وكررت إجابتها السابقة.
لكنها لم تقنعه.
- قد تكون رغبتك هذه عائدة إلى كون السحر غامضاً خفياً، أو لأنه يوفّر أجوبة لم يتوصّل إليها سوى القلائل وعلى مدى حيواتهم، أو ربما لأن السحر يستحضر الماضي الرومنطيقي.
لم تجب بريدا، لأنها لم تكن تعرف بما تجيب. قلقة من ردّ قد لا يروق للمجوسي، تمنّت لو يعود إلى صمته.
أخيراً بلغا قمة تلّةٍ، بعد أن عبرا الغابة. هناك كانت الأرض صخرية خاليةً من أي نبات، لكنها كانت زلقة أقل، ما جعل مسير بريدا مع المجوسي ميسّراً أكثر.
جلس عند أعلى نقطة، وطلب إلى بريدا القيام بالمثل.
- جلس آخرون في هذا المكان من قبل. هُم أيضاً جاءوا طالبين تعلّم السحر، لكنني قدّمت كل التعاليم اللازمة. أعدت إلى الإنسانية ما أعطتني إياه. واليوم، أريد أن أبقى وحيداً، أن أتسلّق الجبال وأعتني بالنباتات وأناجي ربيّ.
ردّت بريدا: هذا ليس صحيحاً.
مستغرباً، أجابها: ما الذي ليس صحيحاً؟
- قد تكون رغبتك في مناجاة ربك صادقة، لكن من المؤكد أن ادّعاءك ابتغاء الوحدة ليس كذلك.
ندمت بريدا على قولها. فعفويّتها دفعتها إلى تلك الكلمات، ولم يعد من مجالٍ لتصحيح خطئها. قد يكون ثمة اشخاصٌ يبتغون الوحدة. وقد تكون حاجة النساء إلى الرجال أشدّ من حاجة الرجال إلى النساء.
لم يبدُ على المجوسيّ أي انزعاجٍ حين أجاب:
- سأطرح عليك سؤالاً، وعليك التزام الصراحة القصوى في إجابتك. وإذا قلتِ الحقيقة، لكِ ما تطلبين. أما إذا لجأت إلى الكذب، فلا تعودي إلى هذه الغابة أبداً.
تنهّدت بريدا بارتياح. فكلّ ما توجّب عليها قول الحقيقة ليس إلا. كما أنها لطالما افترضت أن للمعلّم مطالب عدة ينبغي لكل طالب أن يحقِّقها كي يُقبل مريداً. وبينما كانت عيناه مسمَّرتين عليها، قال: «فلنفرض أنني بدأت تعليمك ما أعرفه... فلنفرض أنني أريتك الكونين المتوازيين اللذين يحيطان بنا، قدتك إلى الملائكة، إلى حكمة الطبيعة وأرشدتك إلى خبايا حكمة الشمس وحكمة القمر. وجاء يومٌ، قصدت فيه وسط البلدة لشراء بعض الأطعمة وقابلت حبَّك المنتظر هناك... في وسط الشارع». فكّرت في السرّ: ما كنت لأعرف كيف أميّزه؛ لكنها قرّرت أن تلزم الصمت. وها هو سؤال المجوسي يغدو أصعب مما تصوَّرَت.
«ينتابه الشعور نفسه، فيتوجّه نحوكِ. يستدرجكما الحبّ. تثابرين على دروسك معي. خلال النهار، ألقّنك حكمة الكون، وأثناء الليل، يُعلّمكِ حكمة الحبّ. ثمّ يأتي يوم ولا يعود في إمكان هاتين الحكمتين أن تتعايشا، فيتوجّب عليكِ الاختيار». تأنّى المجوسي للحظات. فبعد أن طرح سؤاله، اعتراه الخوف من جواب الفتاة. فوصولها إلى الغابة في ذاك العصر عَنى نهاية مرحلة في حياة كل منهما. أدرك ذلك، لأنه عارفٌ بالتعاليم ونيّات المعلّمين. كان في حاجةٍ إليها، تماماً كحاجتها إليه. ولكن كان لديه شرطٌ وحيد: أن تجيب عن سؤاله بصدقٍ تام.
استجمع شجاعته وقال: أجيبي الآن بمنتهى الصراحة. هل ستتخلّين عما تعلّمته حول كلّ الإمكانات، وكلّ الأسرار التي يكشفها لك عالم السحر، من أجل البقاء مع حبك المنتظر؟»
نظرت بريدا بعيداً. كانت الجبال والغابات تمتد حولها، وهناك في الأسفل كانت أنوار البلدة تسطع شيئاً فشيئاً، معلنةً تحلق العائلات حول موائد العشاء. هؤلاء كانوا يعملون بكدٍّ وأمانة، ويخافون ربّهم ويسعون إلى مساعدة أخيهم الإنسان. كلّ ذلك لأنهم عرفوا الحبّ، فغدا لحياتهم معنى. هؤلاء فهموا كلّ ما يدور في هذا الكون من دون أن يسمعوا حتى بحكمة الشمس وحكمة القمر.
قالت: لا أرى أن بحثي في الروحانيّات يمكن أن يناقض سعادتي الشخصية.
كان لا يزال محدِّقاً في عينيها حين ألحّ عليها: أجيبي، هل ستتخلّين عن كل شيء من أجل ذاك الرجل؟ أحسّت بريدا برغبة جامحة في البكاء. فالسؤال لم يكن سؤالاً بقدر ما كان دعوةً إلى خيارٍ هو أصعب خيار قد يواجهه المرء في حياته. سبق لها أن تأمّلت في هذا الخيار مراراً. وهي التي شعرت يوماً بأن لا شيء في الدنيا يضاهيها أهمية. لقد عاشرت الكثيرين ومع كلٍّ منهم خُيّل إليها أنها وجدت الحب. لكنها في كلّ مرة كانت تشهد زوال الحبّ مع تلاشي كلّ لحظة. خبرت بريدا الكثير لكنها لم تجد أعقد من الحبّ. وها هي اليوم مغرمة بشاب يكبرها قليلاً، يدرس الفيزياء ويملك نظرة إلى الحياة مغايرة كلياً لنظرتها. مرة أخرى، آمنت بالحبّ ووثقت بمشاعرها، لكن خيباتها المتكررة أفقدتها ثقتها بكل شيء. ومع ذلك، كانت في مواجهة أعظم رهانات حياتها.
استمرت في تفادي نظرات المجوسي التي تحاصرها. شردت في البلدة والأضواء المتلألئة المنبعثة منها. منذ وُجد الإنسان وهو في سعيٍ مستمر إلى فهم الكون من خلال الحبّ.
أخيراً نطقت: سأتخلّى عن كل شيء.
هذا الرجل الماثل أمامها لا يمكنه فهم ما تختلج به قلوب البشر. فهو امتلك الطاقة وأدرك خفايا السحر، لكنه لم يخبر البشر. شعره أشيب، بشرته أحرقتها خيوط الشمس، ولديه قوام من تعوّد الدروب الجبلية. جاذبيّته لافتة وعيناه تبوحان، بجوهرٍ تخيّبه مشاعر البشر العاديين.
هي أيضاً خاب أملها، لكنها لم تستطع كذباً.
- انظري إليّ.
أحسّت بريدا بالخجل لكنها استجابت.
- قلتِ الحقيقة. سأكون معلّماً لك.
حلّ الظلام وكانت النجوم تتلألأ في سماءٍ غاب عنها القمر. أمضت بريدا ساعتين تخبر المجوسيّ قصة حياتها، محاولة التنقيب عن الحقائق التي قد تبرّر اهتمامها بالسحر: من رؤى طفولةٍ إلى هواجس ومناجاة باطنية - لكنها عبثاً حاولت. فكل ما في الأمر أنها وجدت نفسها مدفوعة بحاجتها إلى المعرفة، لذا أخذت دروساً في علم التنجيم والتارو والأعداد السحرية.
- بالكاد تُعدّ هذه لغات، كما أنها ليست الوحيدة. فالسّحر ينطق بكلّ لغات القلب.
- إذاً، ما هو السحر؟
وعلى رغم الظلام، فإن بريدا استشْعرت انصراف المجوسي عنها. كان غارقاً في أفكاره شارداً في السماء، يستشفّ إجابة ربما. قال أخيراً: هو جسر، يخوّلكِ عبور العالم المنظور إلى ما وراء المنظور، ويمنحكِ دروس العالَميْن وعِبَرَهما.
- وكيف السبيل إلى عبور ذاك الجسر؟
- بالاهتداء إلى الطريق، ولكلٍّ منا طريقه.
- هذا ما جئت سعياً الى اكتشافه.
فسّر المجوسي قائلاً: أمامك طريقان، حكمة الشمس التي ترشدك إلى الأسرار من خلال الفضاء والعالم الذي يحيط بنا، وحكمة القمر التي تعتمد الزمن وكل ما تحتبسه ذاكرة الزمن.
فهمت بريدا. فحكمة الشمس تتمثّل في الليل والأشجار، في الرجفة التي تستحوذ على جسدها، وفي النجوم المتناثرة في السماء. وحكمة القمر تتجسّد في ذاك الرجل الذي يقف قبالتها الآن، حاملاً حكمة الأسلاف مشرقة في عينيه.
وكما لو أنه قرأ أفكارها، علّق المجوسي: لقد سلكتُ طريق حكمة القمر، لكنني لم أكن يوماً لأعلِّمها، بل أعلّم حكمة الشمس.
ردّت بريدا، وقد أربكتها نغمة الرقة التي استشعرتها في صوت المجوسي:
إذاً انقل إليّ حكمة الشمس.
باولو كويليو عندما وقع في حبّ «بريدا» ترجمة عزة طويل
- سأنقل إليك كل ما تعلّمتُه، لكن لحكمة الشمس دروباً عديدة، وعلى المرء الإيمان بقدرة كلّ شخصٍ على
تعليم نفسه. كانت بريدا على حق، فقد ردّد صوت المجوسي نغمة حنوناً أرعبتها بدلاً من أن تطمئنها.
- أنا واثقة من قدرتي على فهم حكمة الشمس.
حوّل المجوسي نظره عن النجوم ليركّزه على الشابة. أدرك أنها لم تكن جاهزة بعد لتلقّي حكمة الشمس، وأن عليه هو تلقينها إياها. ثمة مريدون ينتقون معلّميهم.
- قبل أن تبدأ حصتنا الأولى، أريد تذكيركِ بأمرٍ واحد: حين تجدين طريقك، عليكِ ألا تخافي. عليك التحلّي بما يكفي من الشجاعة لارتكاب الأخطاء. الخيبة، الهزيمة، اليأس، أدواتٌ يتوسّلها الله لإرشادنا إلى الطريق.
- غريبةٌ هذه الأدوات، فهي غالباً ما تثني المرء عن المتابعة. أما المجوسي، فكان يعي الباعث وراء هذه الأدوات، وقد سبق أن اختبرها بالجسد والروح.
أصرّت بريدا: علّمني حكمة الشمس.
طلب إليها المجوسي أن تتكىء على الصخرة وتسترخي.
- لا حاجة إلى إغماض عينيك. انظري إلى العالم من حولك. شاهدي ما تستطيعين وافهمي قدر ما تستطيعين. فحكمة الشمس تتجلّى معرفةً سرمدية مع كل خطوة.
لبَّت بريدا طلب معلّمها، رغم شعورها بأنه يتقدّم بسرعة بالغة.
- هذا درسك الأول والأهم، أبدعه متصوّف أسباني أدرك معنى الإيمان، وكان اسمه سان خوان دي لاكروز.
تفرّس المجوسي في وجه الفتاة الذي تعلوه اللهفة والإصرار. تمنّى في قلبه أن تفهم تعاليمه، فهي رفيقة روحه، وإن لم تكن قد أدركت ذلك، وإن تكن لا تزال شابة يسحرها هذا العالم بما فيه من أشياء وبشر.
من رواية تصدر حديثا
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |