براءة الأسد بفضل هولاند.. وخبرة فيصل القاسم في السمك. / عبد الرزاق قيراط
2013-02-03
على الجزيرة مباشر يمكن مشاهدة الأحداث المهمّة (وغير المهمّة)، منقولة من مصادرها دون تدخّل من المعلّقين والمحلّلين فيتعامل معها المشاهد بحريّة لا يجدها في القنوات الإخباريّة الأخرى التي تكبّل فكره وفهمه وتوجّه رأيه الخاصّ ليسير مع تيّار الرأي العام.
وجهة قد لا يرضى بها في البداية ولكنّه يُغلب على أمره فيتبّعها منقادا. على الجزيرة مباشر إذن، تتوفّر فرصة السباحة الحرّة في محيط يزخر بالأحداث المتلاحقة، ما يجبر القناة أحيانا على مواكبة حَدَثيْن مهمّين أو تافهين أو مهمّ وتافه في نفس الوقت بتقسيم الشاشة إلى نصفين... وقع ذلك في يوم افتتاح القمّة العربيّة الاقتصاديّة التي انعقدت بالرياض، وتزامنت مع موكب حافل انتظم أمام مبنى الكونغرس الأمريكي بمناسبة أداء اليمين الدستوريّة لفترة رئاسيّة ثانية وأخيرة للرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما. وكان أصحاب اليمين، يمين الشاشة هم الزعماء العرب الذين دخلوا صاخبين قاعة مؤتمرهم وتآمرهم على بعضهم بعضا وعلى شعوبهم، بينما خُصّص اليسار ليمين أوباما، الرئيس الشابّ الذي لن يشيخ في منصبه كما شاخ رؤساؤنا وملوكنا وأمراؤنا وفيهم من رُدّ إلى أرذل العمر، ومنهم من قضى نحبه 'ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا'. سيظلّون في مناصبهم رغم أمراضهم الظاهرة والباطنة، ولن يفسحوا المجال لغيرهم من شباب الأمّة المتعلّمين الراغبين في تغيير أوضاع الناس نحو الأفضل...وعموما أصابت الجزيرة مباشر- ربّما- في تعيين أصحاب اليمين الذين كانوا 'في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة'. والصورة مأخوذة من سورة الواقعة التي تتحدّث عن جزاء أصحاب اليمين عند ربّهم، لا عند شعوبهم كما رأينا على الجزيرة مباشر التي أجبرتنا على مقارنات عديدة بين واقعتين ونظامين للحكم. نظام حكّامنا ونظام حكّامهم، وكلّهم يَعِدون الشعوب، ولكنّ الوعود أنواع، منها ما يبقى على الورق، كما يحدث عند أصحاب اليمين، ومنها ما يغيّر الأحوال كما يحدث عند من يحترمون القسم واليمين.
براءة الأسد:
أتمنّى أن تنقل لنا قناة الجزيرة الأمّ أخبارها بطريقة الجزيرة مباشر، فالفكرة ستكون مثيرة جدّا إن عرضت لنا المعارك التي تدور رحاها في سوريّة والحرب التي تقودها فرنسا في مالي كما شاهدنا واقعة القمّة الاقتصاديّة العربيّة جنبا إلى جنب مع موكب اليمين الدستوريّة في أمريكا.. لا يهمّ من سيكون على اليمين ومن سيكون على الشمال. فالجبهتان متماثلتان في الكثير من المعطيات. والأسد الذي كان متّهما بكلّ أنواع الجرائم نال البراءة بفضل الرئيس الفرنسي هولاند الذي أعلن الحرب على الجماعات المسلّحة في مالي. فعندنا الآن رئيسان يقودان حربيْن على الجماعات المسلّحة، وفي رواية أخرى على الإرهاب، وفي قول ضعيف على المجاهدين أو الجهاديّين لأنّ المصطلح الأخير غير دقيق، وقد تمّ تسويقه حصريّا في ليبيا ثمّ في سوريا، ولكنّه الآن بحاجة إلى تمحيص عاجل حتّى لا تختلط الأوراق بشكل يخجل لاعبي الورق. اللاعبون الكبار الذين يعرفون فنون القمار، ويخرجون منه رابحين أحيَوْا من جديد مؤامرات القاعدة فحذّرت هيلاري كلينتون من خطرها المحدق بسعيها للسيطرة على شمال إفريقيا، وأيّدت الحرب الفرنسيّة على مالي لتطويق ذلك الخطر. ولعلّها قريبا تعترف بجهد الأسد في هذا الباب، إذا سلّموا بأنّه يحارب مثلهم الإرهاب، وإلاّ فإنّ 'شرفها سيكون على المحكّ'. والعبارة راقت لي كثيرا عندما سمعت وزير الدفاع الفرنسيّ يلوّح بها أثناء تحذيره من الانسياق في أعمال انتقاميّة تأكّد أنّ الجيش النظاميّ المالي ارتكبها. فقد أعلنت فرانس 24 أنّ جنودا في الجيش المالي يغتصبون النساء ويقومون بتنفيذ 'إعدامات تعسفية' في حق المجموعات العربية والطوارق بغرب مالي ووسطها. ولكنّ وزير الدفاع الفرنسيّ (كان بالمرصاد) فحذّر بسلامته من تلك الأعمال البغيضة وقال للجيش المالي إنّ 'شرفه على المحك'.
العرب من ناحيتهم حريصون على شرفهم ويخافون عليه من المحكّ. وعلامة ذلك أنّ وزير الخارجيّة سعود الفيصل اعترف خلال مؤتمر صحافي انتظم بعد قمّة الرياض التنموية 'بالمأزق الكبير الذي يواجهه العرب في سوريا'، فطلب من مجلس الأمن الدولي 'القيام بما يتوجّب عليه في هذا الشأن'، وأضاف 'إنّ المأساة السورية تكمن في وجود حكومة ترفض أيّ حل.. يواصلون تصوّر أنّ كلّ من يقاتلهم إرهابي'... ويبدو أنّ الفيصل مازال لم يدرك أنّ حملة هولاند على مالي كفيلة بتحويل تلك التصوّرات إلى يقين لا شكّ فيه. وفي انتظار أن تتبلور المفاهيم بخصوص من يقاتل في بلاد الشام إرهابيّين كانوا أم جهاديّين أم ثوريّين مسلّحين، يجوز للعرب أن يحفظوا شرفهم ومحكّهم بتعويلهم على مجلس الأمن الذي بَلِيَ شرفُه من كثرة الوضع على المحكّ. فعُوّض بالفيتو تشريفا لأمم على حساب أممٍ أخرى.
خبراء السمك الفاسد:
الحلقة الأخيرة من البرنامج الصاخب 'الاتجاه المعاكس' الذي يديره الدكتور فيصل القاسم كانت بطعم السمك الفاسد. وكانت متابعتها شاقّة مشقّة الصعود على درج لا ينتهي. وقد خُصّصَتْ للتصدّي إلى قضيّة تشبه سؤال البيضة والدجاجة أيهما جاء قبل الآخر. عنوان الحلقة: هل تتغيّر الشعوب العربية بتغيير حكّامها؟ وكعادته بادر القاسم بطرح خلطة عجيبة من الأسئلة التي قد تحتاج إلى دقائق كما تحتاج إلى سنوات للإجابة عنها فبعضها يشبه الألغاز والأحاجي، وهذه عيّنة منها: 'هل شعوبنا مستعدة للثورة على أنفسها كما ثارت على طغاتها؟ هل جاء حكامنا من المريخ؟... أليس تغيير النفوس أصعب بمرّات من تغيير الرؤوس؟ لكن في المقابل، أليست كل مصائبنا من حكّامنا؟ ألا تفسد السمكة عادةً من رأسها؟ ألا يبدأ غسيل الدرج من الأعلى إلى الأسفل؟'...
وقد أحصيت في مقدّمته تلك عشرين سؤالا أمطر بها ضيفيه والمشاهدين. وكما يحدث في كلّ مرّة، تعثّر النقاش عند التصدّي للأسئلة الفلسفيّة العميقة من قبيل 'من المسؤول عن تدهور مجتمعاتنا، الحكّام أم الشعوب؟ وكان فيصل متحمّسا وهو يحاجج ضيفه خالد عمر بمثال السمكة فسأله مُنكرا: 'السمكة تفسد عادة من رأسها أم من ذيلها؟ فأجاب ضيفه مكابرا: 'من ذيلها'.
- فيصل القاسم: من ذيلها يا رجل..يا رجل السمكة تفسد من رأسها..
- خالد عمر: أنت حرّ السمكة تفسد من ذيلها من رأسها أنت حر.
- فيصل القاسم: طيب برّر لي كيف تفسد من ذيلها...
وقد كان الحوار طريفا، كما ترون، بفضل الخبرة في شأن السمك الذي أفسد النقاش قبل أن يفسد من رأسه أو من ذيله. والعرب معروفون بالعناد لذلك تمسّك كلّ بما في رأسه ولعب بذيله. وعبثا حاول القاسم إقناع ضيفه بسؤاله الآخر عن غسيل الدرج:'غسيل الدرج يبدأ من الأسفل أم من الأعلى؟'، فقد أجابه صاحب نظريّة الذيل بقوله: 'يبدأ من الأسفل'... إنّه العناد، الذي لا يُبقي ولا يذر، وقد حوّل سوريّة إلى سقر،'لواحة للبشر'، حيث الصراع على أشدّه بين الرأس والذيل (بمنطق الاتجاه المعاكس)، ولعلّ السمكة مشرفة على الهلاك من ذيلها إلى رأسها أو من رأسها إلى ذيلها كلّ بحسب رؤيته. وبفسادها لن يفيد السؤال عن أصله...ولكنّ فيصل القاسم سيظلّ يطرح أسئلته الساخنة والباردة ليصنع بأضدادها عاصفة تناسب مادّته الإعلاميّة. وهو مطالب بالحذر الشديد مستقبلا، لأنّ اعتماده على أسئلة من فصيلة البيض والدجاج والسمك، قد تضع اتجاهه المعاكس على المحكّ !
عن جريدة القدس العربي.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |