محمد كرد علي رحالة في سبيل العلم / علي عفيفي علي غازي
2013-02-16
محمد كرد علي، ترجع أصوله إلى السليمانية شمالي العراق، ولد عام 1876، أتم الدراسة الابتدائية عام 1886 تقريباً، وتعلق في دراسته الثانوية بالشعر العربي وفنونه. عُيّن بعد الدراسة كاتباً في قلم الأمور الأجنبية عام 1892، وهو في سن السابعة عشرة، وما إن بلغ الثانية والعشرين حتى عمل في تحرير الصحف، حيث حرر جريدة «الشام» أول صحيفة ظهرت في دمشق، حتى اضطرته الظروف إلى مغادرة الشام في خريف 1908، بعد أن نشر في المقتبس مقالة أغضبت الوالي العثماني فصادر الصحيفة وأغلق المطبعة، فانطلق إلى أوروبا رحالة في سبيل العلم، فزار بعض المدن الفرنسية، ثم سافر إلى الأستانة، وعاد إلى وطنه في مطلع 1909، ورحل ثانية إلى إيطاليا 1913 لمطالعة الكتب والمخطوطات الثمينة في مكتبة المستشرق الإيطالي الأمير «ليوني كيتاني»، حتى يتمكن من وضع كتابه «خطط الشام» ثم توجه إلى سويسرا، ثم فرنسا والمجر وأثينا، وقد ضمن الجزء الأول من كتابه «غرائب الغرب» مشاهداته وانطباعاته في هذه الرحلات، وبين أن غرضه منها كان السياحة والاستجمام، فضلاً عن البحث والدرس والتنقيب للتعرف إلى حقيقة المدنية الغربية.
وتابع كرد علي أسفاره في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فترأس سنة 1921 بعثة طلابية إلى فرنسا، وزار بلجيكا وهولندا وإنجلترا، وفي شتاء 1922 زار إسبانيا، ومنها أبحر إلى طنجة، ثم واصل أسفاره إلى ألمانيا وإيطاليا، فوصف هذه الرحلات في الجزء الثاني من كتابه «غرائب الغرب»، واشترك سنة 1928 في مؤتمر المستشرقين في أكسفورد. إلا أن كرد علي قام كذلك برحلة ذات أغراض سياسية، فقد أرسله جمال باشا (ت 1922) قائد الجيش الرابع العثماني بدمشق، مع وفد، في رحلة علمية إلى إسطنبول، وجناق قلعة سنة 1915، وكانت غاية الرحلة الدعاية للدولة العثمانية، فقام بالمهمة خير قيام في الكتاب الذي نشره بالاشتراك مع بعض أعضاء الوفد الآخرين، ووسموه «البعثة العلمية إلى دار الخلافة الإسلامية»، وفي الغرض نفسه طلب منه الباب العالي أن يدون أخبار الرحلة التي قام بها أنور باشا (ت 1922) ناظر حربية الدولة العثمانية وجمال باشا في أرجاء الشام والحجاز، فكتب «الرحلة الأنورية إلى الأصقاع الحجازية والشامية»، ويتضح من مضمون الكتاب أنه لم يشترك في الرحلة، فاعتمد في وصفها على ما كتبه مراسلو الصحف المختلفة، واعترف في ما بعد، أن هذين الكتابين «من كتب الدعاية السمجة في الحرب الممقوتة» وقد أُكره على كتابتهما مراعاة للعثمانيين (إرشاد الألبا ص 116-118).
وكان كرد علي يعرف الفرنسية والتركية والعربية، لذا من الصعب أن نُحصي أسماء الكتب الأوروبية التي ذكر أنه قرأها، أو تلك التي استشهد بها وعوّل عليها في مؤلفاته، فإنه يستشهد بعدد كبير جداً منها في التاريخ والاجتماع والسياسة والجغرافيا والاقتصاد وفلسفة التاريخ، الأمر الذي يبين سعة اطلاعه من جهة، واهتمامه بمختلف العلوم الإنسانية من جهة أخرى. وقد أيد كرد علي الدولة العثمانية، لأنه مسلم أحس بانتفاء الجنسية في الإسلام، وحاول أن يثبت بالقرائن التاريخية أن الإسلام ربط بين الشعوب المختلفة منذ العصور العباسية فاندمجت في دولة واحدة، ولكن إيمانه بالجامعة الإسلامية لم يأتِ لنزعته الدينية، بل نتيجة العدوان الغربي على الشرق، ويستشهد بحالة سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة قبل اتحادها ويدلل على ذلك بأن يد الله مع الجماعة، وأنه يجب تكاتف العالم الإسلامي وتعاضده ليقف في وجه الاستعمار الغربي، وانتقد المستعمر الغربي الذي عزز الأقليات من الجنسيات والطوائف في البلاد المحتلة، عملاً بمبدأ فرق تسد، وآلمه أن يكون الشرق تحت وصاية الغربيين سياسياً واقتصادياً وعلمياً، وانتقد المستشرقين المتعصبين الذين يتناسون حقوق الشرق، والمحتلين البريطانيين الذين سلبوا المصريين السيادة في بلادهم، ونراه على النقيض يوضح الفوائد التي جنتها المستعمرات من الاحتلال الأجنبي، وأكد أن الحركة التبشيرية كانت منطلق روح الاستشراق الخالصة، التي جنت منها اللغة العربية وآدابها فوائد جمة، وأشار إلى التحسينات التي طرأت على الاقتصاد والإدارة في مصر وسوريا بعد أن احتلهما الإنجليز والفرنسيون، ولعل لإحساس كرد علي القومي العربي علاقة بموقفه من الاستعمار، حيث نظر إلى أن من فضله مساعدة البلاد المحتلة على وعي قوميتها وتعلم لغتها.
ووصف كرد علي نظم الحكم الديموقراطي في أوروبا وصفاً مفصلاً، ليري مواطنيه الفرق الشاسع بين تطبيق النظم الديموقراطية في أوروبا وتطبيقها في البلاد العثمانية بعد إعلان الدستور وإجراء الانتخابات، وقارن بين مجلس النواب الفرنسي ومجلس المبعوثان في الأستانة، ورأى أن من حضر اجتماعات المجلس الفرنسي يشهد بارتقاء الغرب ويدرك سر الشورى، أما المجلس العثماني، فصورة من صور العهد الحميدي إلا أنهم يدعون الحرية (غرائب الغرب، ج1، ص 143، 144)، فلأن كرد علي ذاق ظلم الأتراك في العهدين الحميدي والاتحادي على السواء، وأحس أن تبني مظاهر النظم السياسية وأسماءها لا يجدي إن أغفلت الأسس والمبادئ، وربط تغير الأحوال السياسية بالأحوال الاجتماعية، وأوضح أن الأولى لن تتغير ما لم تتغير الثانية.
ولم يميز كرد علي بين المجتمعين الغربي والشرقي في ما يتعلق بالتفاوت الطبقي، إذ وصف الفقر والاستغلال والاستثمار في كلٍّ منهما على السواء، ورأى أن من قبيل النظام الاجتماعي أن تكون الأمة مؤلفة من طبقات ترجع إلى طبقتين: الخاصة والعامة، ويختلف حال كل منهما باختلاف الأمم والعصور، وثار على استغلال الغني للفقير، ولكنه رأى أن حل مشكلات المجتمع الاقتصادية ليست في ما طالبت به الاشتراكية أو الشيوعية، بل اعتبر المنافسة ضرورية للتقدم، والملكية الفكرية أمراً طبيعياً وعادلاً، واعتبر أن الاستقلال الاقتصادي أساس الاستقلال السياسي، وأن الحرية الحقيقية قائمة على دعائم اقتصادية، فلقد شعر أن وراء الاستعمار السياسي دوافع اقتصادية، وعليه يكون الاستقلال الاقتصادي أولى الخطوات التي تحرر الشرق من النفوذ الغربي، ولكنه رأى أن لهذا الاستقلال الاقتصادي أثراً في ذهنية الشعب نفسه، وبالتالي في نظام الحكم الاقتصادي الذي دفع الطبقة البرجوازية إلى المطالبة بالاشتراك في الحكم، ورأى أن اعتياد الشعوب الشرقية حرية العمل والتصرف والفكر يمكنها من فهم مبادئ الحرية خير فهم، فيقوم الحكم الديموقراطي في الشرق على أسس ثابتة، وينجح نجاحه في إنجلترا، فالنظام الاقتصادي الحر، ولو مقيد بقوانين تحمي العمال والفلاحين من جشع المستغلين، هو أساس الحكم الديموقراطي الثابت، وبالتالي فإن الحكم الدستوري الحر، من وجهة نظره، هو الذي يكفل العدالة الاقتصادية.
وقد أعجب كرد علي بصدق الغربيين وأمانتهم، فضلاً عن إكرامهم الغريب وإحسانهم إلى الفقير، لكنه رغم ذلك شعر بأن في الأخلاق الغربية ما قد يناقض القيم الشرقية، فلم يحاول التوفيق بينهما، بل أكد أن هذا الاختلاف والتناقض أمران طبيعيان، إذ تتغير الأخلاق بتغير البيئات والبلاد والعصور، وبدلا من أن يقوده ذلك إلى التمسك بالأخلاق والقيم العربية على أنها خاصة بالعرب، وتميزهم عن شعوب البلاد الأخرى، أنكر أن تكون هذه القيم ملائمة للعصر الحديث، وطالب بالقيم الغربية بديلاً، ولذلك حض العرب على تغيير مفاهيمهم الأخلاقية، وأحس أن نظم المجتمع الغربي تختلف كل الاختلاف عن نظم المجتمع العربي القديم، وأن النظم الغربية متصلة بمفاهيم وقيم أخلاقية نابعة منها، وأن لا معنى أو بقاء لهذه النظم من دونها، ولهذا شعر بأن من الضرورة تبني القيم الأخلاقية المقترنة بالنظم الغربية، والتي كانت السبب في تفوق الغرب الاقتصادي والسياسي والعلمي، فلم يأخذ بنظم الحضارة المادية وحدها بل بالقيم الأخلاقية والروحية الكامنة وراءها والتي سببت نجاحها، وعليه قاس الخير والشر بمقياس الغرب لا الشرق، فلم تبق قائمة على أساس العلاقة العاطفية بين البشر، بل على أساس ما تقتضيه المصلحة والتطور السياسي والاقتصادي.
وشعر كرد علي بالفرق الشاسع بين المرأة الغربية والمرأة الشرقية، ولا شك أنه قرأ مؤلفات قاسم أمين، وأحس بأن المرأة هي دون سواها هي سبب التقدم والارتقاء، فطالب بتعليم المرأة مختلف الآداب والعلوم نظير ما حدث في أوروبا، وتجلى الصراع الفكري والحضاري بشكل أوضح حين عرض للغاية من تعليم المرأة ولدورها في المجتمع، وأكد تفوق المرأة المتعلمة على الجاهلة في تربية الأولاد وإدارة المنزل، وقارن بين الأسرة الغربية الراقية والأسرة الشرقية التي يستبد فيها الرجل بالمرأة الضعيفة الجاهلة، ولا يقوم فيها الزواج على التكافؤ، ولكنه أنكر تعاطي المرأة الصناعة أو التجارة، واستنكر مطالبة المرأة الغربية بحقوقها السياسية، فقد ظلت نظرته إلى المرأة النظرة التقليدية القديمة التي اعتبرتها دون الرجل عقلاً وذكاءً، وعليه رفض منحها ما للرجل من حقوق اجتماعية وسياسية.
ولم ينكر كرد علي قيمة الأدب الأوروبي وروعته، ولكنه بين أن في أدبنا العربي العباسي ما يشبهه في الغرض والعمق والصدق والأصالة وطبيعة التعبير، واستشهد بمؤلفات ابن المقفع والجاحظ والغزالي، ولم ينكر تأثر المحدثين بالأدب الأوروبي، لكنه في ذات الوقت لم يُرد أن ينفصل الأدب الحديث عن الأدب القديم، استمراراً للهوية المميزة عبر القرون، فأثبت أن أدبنا القديم يكفل خط الاستمرار والأصالة والرقي معاً، إذ ليس فيه ما يختلف جوهرياً عما يهدف إليه الأدب الأوروبي، أو الأدب الحديث، سواء في الغرض أو المعنى أو أساليب التعبير، وبذلك أدرك هدفين في آن واحد: أرضى إحساسه القومي إذ دافع عن قيمة الأدب الذي يعزز هذا الإحساس، وفي الوقت نفسه أكد ما ينبغي أن يحققه كل أدب أصيل، أي التطور المستقبلي من غير أن ينفصل عن جذوره الماضية. وأشار كذلك إلى حرية الصحافة في الغرب، وبين أن الغرض منها هو انتقاد النقص في الحكومة أو في الشعب ليتسنى الإصلاح.
وأكد كرد علي أن ارتقاء الشرق يترتب بالدرجة الأولى على تعليم العلوم الغربية، موضحاً أن اقتباس العلوم الغربية لن يُفقد العرب هويتهم، فنهضة العرب في عصرهم الذهبي قامت بفضل الترجمة والنقل، فتمسك بالماضي حرصاً على الهوية، وليستنتج منه عبرة التطور المستقبلي، وشعر بأن تطور العلوم الغربية مرهون بمنهج الغربيين في البحث العلمي من البحث والتمحيص والتدقيق، والعقل والمنطق.
وتبنى كرد علي العقلانية في المجالات العلمية، وانتقد إيمان معاصريه بالأعاجيب والكرامات، وآمن بأن العلم لا يناقض الدين، ورغم ذلك نظر إلى الدين على أنه ضرورة لتهذيب الأخلاق، ولكنه لم يتعرض لإمكانية الاستغناء عنه، إذ اعتبره حامل حقائق ثابتة ينبغي الإيمان بها، ولعله أراد أن يبين أن أصول الحكم الديموقراطي كامنة في الإسلام نفسه، فرأى أن الإسلام كان وما برح الدين الذي فاق سائر أديان العالم شورى وديموقراطية، وكان مصدر الحرية والعدل والمساواة، واتخذ الصراع في فكره مظهراً آخر حين أكد أن الديموقراطية الشعبية التي توصي بها وتكفلها تعاليم الإسلام أفضل من الديموقراطية الغربية، لأنها لا تفضي إلى المساوئ المقترنة بالديموقراطية الغربية، وهاجم الإقطاعية وما يرافقها من فقر وحرمان، وتأثر بالفكر الغربي في ما قدمه من إصلاح اقتصادي، فلعلاج الفقر ومحاربة الإقطاعية لم يرجع إلى الدين الإسلامي مطالباً بتطبيق أحكامه الداعية إلى الزكاة والإحسان والصدقة، بل اقترح توزيع الأراضي على الفلاحين وتحديد الملكية الفردية.
عن جريدة الحياة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |