حصاة في البركة الساكنة
خاص ألف
2013-02-16
الآن, وبعد ما يقارب المئة سنة على ظهور الكتاب - المشكل"في الشعرالجاهلي"الذي هـز القناعات السكونية لأناس ارتاحوا لسنين طويلة من التسليم بصدقية مايقولون, ارتاحوا من عناء مناقشة القضايا الأساسية للغة والتاريخ وصدقية الشعر الكلاسيكي الجاهلي,وصدقية التراث الأدبي الذي وصل إلينا, وإذا بكاتب, أي ابن للمركز الأساسي لتكريس
المفاهيم التراثية والفكرية, أزهري كفيف, من أولئك الذين اعتاد الأزهر على تخريجهم أبناء للمؤسسة,مرددين لأفكارها, وباثين لهذه الأفكار أمام تلاميذهم ومريديهم, وأحياناً العابدين في المساجد إن كانوا خطباء على المنابر, يحاول قلب طاولة هذه الأفكار في ضربة واحدة.... وصرخ صارخهم00: ابن المؤسسة ويخون أفكارها الأساسية؟
ولكن دعونا نتساءل في سذاجة: كيف لرجل هذه هي صفاته, وهذا هو تاريخه,وهذا هو تعليمه أن يفجر هذه القنبلة الفكرية, فيهز مسلمات عمرها مئات السنين, مسلمات ارتاحت إليها الحضارة العربية الإسلامية منذ انتصارها الكبير على الفرنجة في الحروب الصليبية,وانتصارها المستعار من العثمانيين منذ حصار فيينا, ثم..... الاكتفاء بذلك,يقضون المئات من السنين ىجترون مشروعيتهم وصدقيتهم,وشعورهم بالشرعية الإلهية التي نصرتهم على الصليبيين والمغول وقوى الدمار العالمي.
و... فجاة يأتي شاب قصير, مصاب بقرحة مزمنة في معدته,مطارد مخفق للنساء, يأتي ومعه بضعة آلاف من المقاتلين, وبضع عشرات من العلماء والباحثين,هذا الشاب كان اسمه نابوليون بونابرت الذي استطاع في عدة معارك عسكرية أن يطيح بمحاربي الشرق الأسطوريين, المماليك, ثم يعلن ملحاً بإصرار..... ألا حق لهؤلاء الغرباء في حكم مصر....... فهم المصريون,وهم وحدهم من يحق لهم أن يحكموا أنفسهم, والإفادة من ثرواتهم وجهدهم .
وحين ..... يستسلم المحاربون المماليك للهزيمة, ويهربون إلى الصعيد أو إلى السودان, أي إلى آخر الدنيا المعروفة في ذلك الحين, ويبدأ نابوليون بتشغيل الزمبرك الثاني في جراب سحره, إنهم العلماء, علماءالكيمياء والتشريح وعلم النبات,والجيولوجيا, والفلك,ثم يبدأون في وضع كتابهم العظيم "وصف مصر".
هذا الكتاب لم يكن موضوعاً لمصر, أو للمصريين, وإن أفادت منه مصر الكثير فيما بعد,فهو تقرير موسوعي وضعه علماء شبان من أبناء الثورة البورجوازية الفرنسية, فجمعوا فيه دراساتهم جيولوجياً, ونباتياً, وحيوانياً, وحشرياً.........
وفيما بعد سيقوم شاب اسمه شامبليون بالإصرار على تفكيك رموز حجر "معجمي" وجد في مدينة رشيد,ولن يتوقف
قبل تفكيك ألغاز اللغة الفرعونية, الهيروغليفية.
و.... أقاموا المخابر, واستضافوا في مخابرهم كهنة العلم من المسلمين الذين اعتادوا تسمية أنفسهم بالعلماء,وهم ليسوا إلاحفظة نصوص كتبت منذمئات السنين, كتبها مجتهدون ومفكرون وفقهاء.......ثم أغلق القرن الرابع الهجري الباب عليهم, فصار من يأتي بعدهم دارسين لنصوصهم في النحو والصرف والأصول والتفسير والبلاغة والمنطق, ولما لم يعد لهم من جديد, فقد اكتفوا بالشرح والتفسير, ثم تحولوا إلى اختصار ما فسروه, ثم اعتصار ما اختصروه, وصرت تسمع بكتاب اسمه,المعتصر في المختصر, ثم تفسير وشرح معتصرهم إلى آخر ما يمكن للعقل الخائف من المغامرة من صنعه, و......كتبوا التاريخ, ولكن بإيمان كامل أن التاريخ هو ما حدث ولا تطور إلا أن يبرهن على صدق معتقدهم, وأن كل ما يجري ماهو إلا مكافأة على فضائل قام بها "الأقطاب" و"المؤمنون" وأن كل هزيمة أو وباء يقع ماهو إلا عقوبة على خطايا وآثام ارتكبها الآثمون0
من بين العلماء الذين مضوا إلى مخابر الخبثاء الفرنسيين كان هنالك أزهري اسمه عبد الرحمن الجبرتي الذيصدم لدى رؤيته للمرة الأولى في حياته ماء يوضع في إنبيق زجاجي فيتحجر حصى عند إضافة ماء آخر له, أويوضع الإنبيق فوق
نار فيصدر قرقعة ,أوإلى آخر ألاعيب الكيميائيين الذين كانوا يلعبونها متنقلين ما بين المراقبة العلمية الصارمة والإبهار الغربي لإقناع العلماء من المتفرجين أن ما يحفظونه من نصوص لم يعد كافياً للعصر0
هذا الاحتكاك الأول بين عاصمتي الثقافة في ذلك الحين,باريس صانعة البورجوازية وفكرها, والقاهرة المحافظة على تراث الإسلام والثقافة الإسلامية, احتكاك بين منتصر عسكري, ومهزوم لا يصدق أنه هزم,بين منتصر علمياً ومبهور مكابر00000ولكنه كان اللقاء.
بعد بضعة عقود سيكون الانبهار الثاني حين يمضي شيخ أزهري آخر مع عدد من أبناء المماليك الذين أرسلهم باشا مصر محمد علي إلى باريس ليدرسوا الفنون العسكرية الحديثة, وأرسل معهم أزهرياً يؤمهم في الصلوات, ويحرص على الابتعاد بهم عن الخطايا في بلاد الكفار وما أكثرها, وتكشف الرسالة التي أرسلها شاب منهم إلى أبيه المملوكي يحدثه عن ممثلة فرنسية صغيرة ابتسمت له في حديقة إلى جانب مسرح, فسلبت لبه, وداوم على المضي إلى الحديقة لا يريد إلا رؤيتها, فهو لم يجرؤ على التقدم إليها أو مغازلتها, وكتب الشاب لأبيه كل هذا ثم طلب إليه أن يرسل إلى باريس من يشتريها له فهو لم يعد باستطاعته التخلي عن التفكير بها.
اصطدامان بين حضارتين, كان ممثل الحضارة الأعتق فيهما أزهري ومملوكي, الأزهري استفاد من هذا الاصطدام فوضع كتابه "تخليص الإبريز في وصف باريس", والآخر طلب من أبيه أن يشتري له الممثلة فهو لايستطيع العيش من دونها, ولكن... الاصطدام تم, والعلم البورجوازي انتقل, والطلاب الذين تعلموا في فرنسا تخرجوا, والجمعية الجغرافية المصرية أنشئت, والمياه جرت في نهر السكون .
هذه المقدمة الطويلة كان لابد منها لمعرفة ما الذي جعل هذا الأزهري الأعمى يقدم على هذه المغامرة الجديدة في الفكرين العربي والإسلامي, فيهز الهرم اللغوي التاريخي عارفاً أو غير عارف أنه حين يهز الهرم التراثي للجاهليين فهو يهز أيضاً هرم الشرح والتفسير الدينيين اللذين اعتمدا على شرح معميات اللغة بالاستناد إلى هذا الشعر الجاهلي, وهاهو هذا "الأعمى" يعلن أن أكثر هذا الشعر منحول ومدعى وضعه مرتزقة سياسيون إرضاء للأحزاب السياسية الإسلامية التي ظهرت منذ القرن الثاني الهجري, وإرضاء للعنعنات القبلية التي انفلتت من عقالها بعد أن صارت أرستقراطية, ورداً على شعوبيات المثقفين الفرس الذين أسلموا وحسن إسلامهم, ولكن الحنين إلى فارس ومجدها كان يجعلهم يسخرون من ماضي العرب في الجاهلية... ناقة, وتمرة, وخيمة !!! .
وهنا بدأ الصدام الأكبر بين المؤسسة المحافظة "الأزهر" وبين الخريج الأزهري الكفيف طه حسين, بين حامي حمى الإسلام تاريخياً "جامع الأزهر" فلم يكن قد تحول إلى جامعة بعد, وبين الأزهري المتفرنس.
الجبرتي اصطدم واندهش بل ربما ارتعب, ليس من الولاعة تشتعل بين أصابع الأوروبي, ولكنه ارتعب لإدراكه أن الحضارة الإسلامية لم تعد الحامل الوحيد والأول لمشعل الحضارة, و.... الطهطاوي اصطدم واندهش ورأى واحترم ولم يرتعب, بل قرر أن يحدث أهله بما رأى لعلهم يخرجون من غفوة السعيد المطمئن... أما طه حسين فقد رأى وعرف وقرأ ما كتب مارغيليوث البريطاني, ورينان الفرنسي, وكما يقول "الدكاترة كما كان يدعو نفسه" زكي مبارك في كتابه "النثر الفني في القرن الرابع الهجري" : إنه نقل أفكار المستشرقين ماسينيون وميرسييه .
لن أناقش أفكار أي من هؤلاء الذين ذكرت, ولن أناقش مدى أصالة فكرة طه حسين عن الشعر الجاهلي, ولن أناقش إن كان هذا الشعر منحولاً أو وضعه حماد الراوية أو خلف الأحمر أو كثيرون من الشعراء المأجورين لهذا , ولن أناقش هل كان سبب هذا الوضع تقوية هذا الحزب أو ذاك, ولكني سأناقش قضية نبهني إليها منذ سنوات الصديق الروائي الراحل غالب هلسا الذي حاول إلقاء حجر في المستنقع السوري لعل معركة أدبية ما تشب , فيستخدم هؤلاء الناس عقولهم للهجوم والدفاع فتستجد أفكار جديدة, قال: أنا أعجب من سوريا. لقد مضى علي فيها عدة سنوات لم تقم فيها معركة أدبية واحدة, فكرية واحدة. أأنتم راضون عن أنفسكم وثقافتكم إلى هذه الدرجة !!
الآن فقط وبعد هذه الموجة من الغضب السوري أدرك مدى القهر المرعب والكبت الأسطوري الذي تسببت فيه وزارة الإعلام واتحاد الكتاب العرساني, والجامعة المطهرة إلا من الكهنة الكونفوشيين عبدة الأجداد.
الآن فقط أدرك كيف استطاع السكون أن يخمد تململ الشبان, أن يسكن موجات التنين الكامن في المستنقع لا يجرؤ على التطاول برأسه خارج الأعشاب المسممة , لأنه إن فعل فسيخسر رأسه.
الآن فقط أدرك عظمة ما فعل نابوليون في مصر حين لم يجئها بالعسكر فقط, بل بالعلم والعلماء والمخابر ومناظير الفلكيين.
الآن فقط أدرك أن الجبرتي لم يكفر الفرنسيين في دهشته مما رأى, بل حزن أن المسلمين قد تراجعوا, وأن الفرنجة قد تقدموا, فكتب في تاريخه مرثية لنصر تم على الفرنجة منذ بضعة قرون في صدام الحضارتين في فلسطين.
الآن فقط أدرك أن الطهطاوي لم يبك ولم يندهش فتعجزه الدهشة, ولم يرسل إلى أبيه طالباً شراء الممثلة التي اشتهاها ولم ينلها, الآن فقط أدرك لماذا كان طه حسين الأزهري حامل راية العلم العتيق عتق مدينة الفسطاط هو من تقدم بكتابه المشاغب "في الشعر الجاهلي" , وكان قد كتب منذ بضع سنوات وقبل سفره إلى فرنسا واحتكاكه بديكارت الشكاك, وبجرأة فرنسة البورجوازية على مناقشة كل المسلمات كتابه المثير للجدل أيضاً "مع أبي العلاء في محبسه" فهز مسلمات, وأعاد للملحد "المعري" كرامته, وكان المتعصبون المعاصرون للمعري قد جعلوا ملاحدة الإسلام ثلاثة هم , المعري والتوحيدي وابن حيان.
الآن فقط أدرك ما الذي جعله يعلن منذ عودته من فرنسة أن الدخول في الحضارة لا بد لها من أساس, وما هذا الأساس إلا العودة إلى الحضارات الكلاسيكية التي رجع إليها الغرب متجاوزا المرحلة المسيحية وبادئاً عصر النهضة.
الآن فقط أفهم سر إعجاب طه حسين بالمعري – الجسر مابين الهلنستية في أنطاكية التي لا تبعد إلا بضع عشرات الكيلومترات عن المعرة وبين الغنوصية الإسلامية, فكتب رائعته الجسر ما بين الإغريقية والعربية "رسالة الفغران" , أترى طه حسين كان متلطياً وراء المعري لطرح أفكاره المتوسطية أم أنه كان عليه أن يمضي إلى فرنسة ليعمق أفكاره ويبلورها ثم يظهرها في كتابه "في الشعر الجاهلي".
تجاوزطه حسين المحاكمات والردود على كتابه والتي ماتزال تتردد حتى يومنا هذا,تجاوزها وأصيب ولاشكبكثير من الجراح, ولكنه تجاوزها حين رأى علي عبد الرازق يضع كتابه الانقلابي "الإسلام وأصول الحكم" فينزع القداسة عن الخلافة ووجوب قيامها, وكأنها شرط من شروط الدين, وفرض من فروضه, فيقول: إنها ليست من أصول الدين, بل هي مؤسسة سياسية يمكن للإسلام أن يعيش من دونها, وقد عاش لأزمان.
تجاوز طه حسين جراح التشهير والتكفير والحصار حين عرف أنه فتح نافذة كانت الحضارة الإسلامية في حاجة إليها,وخرج مريدين سيظلون منارات للفكر والدرس في مصر وفي العالم العربي, شوقي ضيف وعبد العزيز الأهواني, جابر عصفور, ونصر حامد أبو زيد, و000سيد القمني, وعابد الجابري, وجورج طرابيشي إلى آخر الأسماء الفكرية التي أضاءت عصرنا, والذ ين ما يزالون يعانون من رجم الراجمين, ولكن القطار انطلق, وما أظن أن ما يجري الآنفي مصر وسورية من هذا الإصرار على اللحاق بالركب العالمي من حرية وديموقراطية إلاوليد تلك الدهشة التي دهش لها الجبرتي, فعبر عن الرغبة في تجاوزها طه حسين في كتابه " في الشعر الجاهلي", وهاهي اليوم تحاول أن تؤتي أكلها0
خيري الذهبي
[email protected]
08-أيار-2021
06-شباط-2021 | |
28-تشرين الثاني-2020 | |
22-آب-2020 | |
15-آب-2020 | |
09-أيار-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |