القــوقعـة / يوميات متلصص /ج 11 مصطفى خليفة*
خاص ألف
2013-02-19
29أيلول
عاد يوسف " مجنون القائد " لزيارتي ، لقد تحسن وضعي في المهجع قليلاً منذ شهر تقريباً، خفت ممانعتهم له عن زيارتي .
استيقظت في الصباح الباكر قبل موعد الاستيقاظ العادي بساعة أو ساعتين على أنين رجل يتألم بشدة. إنه جاري في الفراش، كان يضع يده على بطنه وهو يتلوى ألماً، يحاول جاهداً أن يكتم أنّات ألمه، نظرت حولي... أنا الوحيد الذي أستيقظ على أنينه، نظر الي مباشرة ، هي المرة الأولى التي تلتقي فيها أعيننا ، نظرته تحتوي على نداء استغاثة لرجل يتألم بشدة، رغبتي بمساعدته شديدة، ولكن كيف ؟!... تلفتُّ حولي حائراً، ورغم أنه كان قد ترك مسافة أكثر من خمسة وعشرين سنتمتراً بين فراشي وفراشه إلا انه كان قريباً جداً، هممت أن أسأله عما به وماذا يريد، لكن لم أعرف كيف أفعل ذلك !، وبنفس الوقت أشاح بوجهه إلى الطرف الأخر، دقائق كانت طويلة ... استيقظ العديد من السجناء ، اقتربوا منه ، طلب منهم أن يأتوه بطبيب ، حضر أحد الأطباء استفسر منه وسأله وهو يفحصه عما به:
- مغص ... مغص شديد يا دكتور ... مصاريني عم تتقطع، ألم ما بينطاق ... راح موت يا دكتور!!.
خلال ساعة اجتمع ثلاثة من الاطباء عند أبو حسين رئيس المهجع :
ـ التهاب حاد بالزائدة الدودية، لا نعرف الزمن الذي يمكن أن تنفجر فيه، إذا لم يتم إسعافه سريعاً واجراء عملية جراحية لاستئصال الزائدة فهي حتماً ستنفجر وسيموت المريض.
نظر أبو حسين إلى الأطباء، التفت الى المريض ... تساءل وكأنه يحادث نفسه :
- إيه ... والحل ؟ ... لازم نلاقي حل ... أظن ما في غير حل واحد ... منشان شيل خطيته من رقبتي! ... ندق الباب ونطلب طبيب السجن، هذا كل شيء اقدر أساويه ... بس يا هل ترى رح يردوا علينا ؟... ولك خلينا ندق الباب ويللي بدو يصير يصير !!... هي موتة وحدة !... وأكتر من القرد ما مسخ الله !... شو رأيكم بهالحكي؟.
ـ متل ما بدك يا أبو حسين.
دق أبو حسين الباب، الشرطة والبلديات في الساحة يوزعون طعام الإفطار، جاء صوت الرقيب " أبو شحاطة ":
- مين هـ الكلب يللي عم يدق الباب ؟.
أخبره أبو حسين برقم المهجع، وان الدكتور سمير يريد طبيب السجن لأمر هام.
فوجئ الدكتور سمير بذلك لكنه وقف إلى جانب أبو حسين بانتظار طبيب السجن، قال أبو حسين لسمير:
ـ والله يا دكتور ... كيف طلع اسمك معي ما بعرف !!... يجوز إلهام من الله، وانت صاروا يعرفوك ويجوز يسمعوا منك.
كان مرض السل في أواخره ولا زال الدكتور سمير يتابع علاج عشرات الحالات التي أسماها مستعصية، ولذلك فهو على احتكاك دائم مع الشرطة.
استغرق مجيء الطبيب أكثر من ساعة لأن الوقت لازال مبكراً، جاري يعتصر من الألم ويحاول كبح أنّاته، فتح الباب وظهر أمامه الطبيب والمساعد وبعض الشرطة، سأل الطبيب الدكتور سمير عن سبب استدعائه، شرح له سمير الأمر، لكن طبيب السجن لم يتكلم ابداً، أدار ظهره ومشى، المساعد رمق سمير بنظرة طويلة وقال:
ـ مشان زائدة دودية عملتوا كل هـ الضجة ؟!... صحيح هـ الكلب معه زائدة بس انت معك ناقصة، وأنا من زمان حاسس إنك ما تنعطى وجه ... طلاع لبره.
خرج الدكتور سمير إلى خارج المهجع ، وخاطب المساعد أبو حسين:
ـ مين دق الباب ... ولا خرى؟
ـ أنا يا سيدي دقيت الباب.
ـ طلاع لبره كمان يا كلب ... يا ابن الكلاب.
خرج أبو حسين أيضاً وأغلق الباب، نصف ساعة كنا نسمع صراخهما، ومع مجيء الهليوكوبتر توقف الضرب وأدخلوهما المهجع.
ـ مشان الله يا دكتور لا تواخذني !... أنا سببتلك هـ العقوبة، أنا يللي ورطتك.
ضحك الدكتور سمير وهو يحجل في مشيته، ربت على كتف أبو حسين:
ـ بسيطة أبو حسين بسيطة ... هنن كم كرباج !... راح سجلن دين عليك واستوفيهن انشاء الله بره ... يعني قدام أم حسين، المهم هلق شو بدنا نساوي بالمريض؟.
طرح هذا السؤال على مستوى المهجع كله، كثرت الاقتراحات، كثرت التعليقات والتساؤلات:
ـ العمى ... بدي افهم !... ليش عالجونا من السل، وما بعالجونا من الزائدة الدودية؟.
ـ يا اخي ... لازم نفهمها منيح ... الزائدة شخص واحد، يعني فراطة، اذا مات ما بتفرق معهم، أما السل جماعي ، يعني جملة، اذا ماتوا كل الناس هون هذا مو من مصلحة هـ الحكومة بنت الكلب لأنه نحن مثل الرهائن عندها، تضغط على الناس يللي بره بهالرهائن.
ـ لم يدم النقاش والحوار اكثر من عشر دقائق، تقدم خلالها طبيب كهل أشيب الشعر وسيم القسمات، عيناه صغيرتان براقتان، جلس على فراش ابو حسين، قال:
ـ تعرف يا أبو حسين إني طبيب جرّاح، أنا بحسن هلق ساوي عملية جراحية للمريض بستأصل الزائدة فيها، لكن يلزمني بعض الاشياء، وكمان لازم المريض يقول قدام الناس كلها إن العملية على مسؤوليته هو.
دون أن يجيب أبو حسين أمسك يد الطبيب وسحبه إلى عند المريض، انتقلا من يساري الى يميني، جلسا إلى جانبه، قال أبو حسين للطبيب:
ـ احكي له، شو بدك منه.
ـ شوف يا أخي، راح كون صريح معك، أنت معك التهاب حاد بالزائدة الدودية، وخلال فترة بسيطة إذا ما ساوينا عملية جراحية راح تنفجر وتموت، في عندنا فرصة نساويلك عملية جراحية، لكن بهذي الظروف خلينا نقول إنه نسبة النجاح أقل من خمسين بالمية، وهلق انت بدك تختار قدام الناس كلها بين الموت المؤكد، وبين الموت المحتمل.
واختار المريض الموت المحتمل، نفى أمام الناس كل مسؤولية عن الطبيب.
أبلغ الطبيب أبو حسين بمستلزمات العملية:
ـ يوجد قماش نظيف، يوجد كحول، يوجد ملح، يوجد بعض حبوب المضاد الحيوي التي استطاع الدكتور سمير أن يغافل الشرطة عنها، يوجد إبر خياطة، يوجد خيطان، يوجد نار، لكن ما نحتاجه هو بعض الاشياء المعدنية لنحولها إلى مشارط !!.
مع ظهور كل هذه الاشياء تبين أنني كنت غافلاً وأن تلصصي لم ير إلا ما يظهر على السطح.
التلييس الداخلي للمهجع كان ذا اسمنت خشن والجميع يدرمون أظافرهم بهذا الاسمنت – لا مقصات أظافر في السجن – الاسمنت يستخدم كمبرد، وعلى هذا الاسمنت تم صنع وابتكار العديد من الأشياء، فمن قطع عظم صغيرة تم صنع إبر الخياطة، يمسك أحدهم العظم ويبدأ بحكه على الجدار ... يوم ... يومين.. أيام، إلى أن يأخذ شكل الابرة، وبواسطة مسمار يكون قد تم برده أيضاً على الحائط، يقوم الشخص وبصبر عجائبي بفتح ثقب الابرة ، " المسمار هنا يعتبر ثروة ، وتبين أن هناك عشرات المسامير في المهجع " ، الخيطان أمرها سهل ، ينسلون قطعة قماش ، بصبر وهدوء يغزلون الخيطان الرفيعة من جديد وحسب الطلب .
وقتها انتبهت إلى أن معظم الثياب التي يلبسونها قد اهترأت ، " كيف لم يخطر على بالي أن أتساءل عن الوسيلة التي يرقعون بها ثيابهم ؟!" ، علماً أن بنطالي كان قد اهترأ عند الركبتين والورك وأضحى بأمسّ الحاجة إلى ترقيع .
الكحول : بعض الاطباء – أو بالاتفاق بينهم جميعاً – قاموا بتخمير المربى في بعض المرطبانات البلاستكية " كيف حصلوا عليها ؟؟!" وتحول السائل الى كحول ، قد تكون نسبته قليلة لكنه كحول .
عمم أبو حسين الأمر على المهجع :
ـ كل من لديه قطعة معدنية مهما كان نوعها أو شكلها ليأت بها .
وظهرت المعادن ، مسامير ، قطعة نقدية من فئة الليرة عليها صورة رئيس الدولة ، أربع علب سردين فارغة ! أسلاك معدنية، خاتم ذهبي " خاتم زواج " .
مددت يدي إلى جيب سترتي الداخلي ، تحسست الساعة ، أمسكت بها، يجب أن أعطيها لهم ... ولكن لمن؟... هل سيقبلونها ؟ ... أم أنهم سيقذفون بها على وجهي باعتبارها نجسة من شخص نجس ؟ ! ساعتي مفيدة جداً لهذا الامر ، فـ " الكستك " المعدني مؤلف من قطع معدنية رقيقة يسهل تحويلها إلى أدوات حادة ، وكذلك غطاؤها الخلفي ، وحتى زجاجها اذا لزم الأمر، وطال ترددي دقائق طويلة ، عدة أشخاص كانوا قد انتشروا وبيد كل منهم قطعة معدنية ما يبردها حسب توجيهات الطبيب ، تم فرش بطانية أمام المغاسل حيث لا يستطيع الحارس على السطح أن يرى شيئاً ، واستلقى المريض وهو يتأوه على هذه البطانية ، الطبيب الجراح يتناقش مع مجموعة من الأطباء وسط المهجع .
حزمت أمري ، سأغافلهم وأضع الساعة في مكان يستطيعون فيه أن يجدوها بسهولة ، ولكن ألن يسألوا عن صاحب هذه الساعة ؟ ، هل أستطيع أن أجيبهم بأنها لي ؟ ... لا أعتقد .
لو أن يوسف " مجنون القائد " يزورني في هذه اللحظة لأعطيتها له .
ليكن ما يكون ، وقفت ومشيت باتجاه الطبيب الجراح ، دون أية كلمة مددت يدي بالساعة إليه .
بوغت الجميع ، سكتوا ، نظر الجراح في عيني مباشرة ، عيناه عسليتان دافئتان دهشتان قليلاً ، وببطء مد يده وتناول الساعة مني ، قال :
ـ شكراً .
ثم التفت إلى الاطباء وهو يقلب الساعة ، قال :
ـ هلق صار فينا نبدأ ، هـ الساعة راح تساعدنا كثير .
عدت إلى مكاني وجلست، قليلٌ من النشوة، قليلٌ من الرضى ، استرجع وقع كلمة " شكراً " بعد كل هذه السنوات " أحدهم " يشكرني ، يخاطبني مباشرة وهو ينظر في عيني مباشرة ، لا يشيح بنظره قرفاً واشمئزازاً وحقداً .
وزع الطبيب قطع الساعة و " الكستك " على بعض السجناء الذين انهمكوا في عملية البرد والشحذ ، فجأة قرقع المفتاح في الباب ، أذيعت أسماء تسعة أشخاص من مهجعنا ، ثلاثة إعدام وستة محاكمة ، توقفت التحضيرات لإجراء العملية أكثر من ساعة ، توضأ خلالها المحكمون بالإعدام ، صلوا ، ودعوا الناس ، خلعوا الثياب الجيدة وارتدوا ثياباً بالية ، فتح الباب ... خرجوا .
ـ اللهم أحسن ختامنا ، عليهم رحمة الله ، خلونا نتابع الشغل يا شباب لأنه المريض ما عاد ممكن يتحمل أكثر من هيك .
توجه الطبيب الجراح بهذه الكلمات إلى بعض الأطباء وإلى الشباب الذين كانوا يقومون بالاستعدادات ، انتهى تجهيز المشارط ، توجه الطبيب ومعه بعض الشباب إلى حيث يستلقي المريض متألماً أمام المغاسل .
تملكني الفضول ، أريد أن أرى إجراء العملية الجراحية ، وقلت إن من حقي أن أرى، تمشيت متمهلاً إلى الداخل ، دخلت إلى المرحاض ، حوالي عشرة أشخاص منهمكون بالتحضير ، خرجت من المرحاض وانزويت جانباً ، لم ينتبه إليّ أحد ، أخذت أراقب .
كيس بلاستيكي مملوء بالدهن، يبدو أنهم كانوا يجمعون الدهن المتجمد على سطح الطعام، ينقونه من الشوائب ويضعونه في الكيس، ملأوا إحدى علب السردين بالدهن وغرزوا فيه قطعة قماش بعد أن فتلوها جيداً ، أخرج أحدهم علبة كبريت وأشعل الفتيل، " من أين الكبريت ؟!" ، اشتعلت النار مدخنة ، وضعوا فوق النار علبة سردين اخرى مملوءة بالماء وبه " المشارط " ، كانوا ينفخون على الدخان المتصاعد من الدهن ويحاولون توزيعه قدر الإمكان كي لا يصعد إلى السطح ويشمه الحارس، بعد قليل غلت المياه فتعقمت أدوات الجراحة .
في هذه الأثناء كان الطبيب قد غسل بطن المريض بالماء والصابون ، ثم أحضر ملحاً رطباً فرك به نفس المكان ، غسل يديه جيداً وأصر على ارتداء الكمامة قبل إجراء العملية، تغيرت نبرة صوته وبدأ بإصدار الأوامر :
ـ ما في عنا مخدر ... لذلك بدك تتحمل الألم ولا تتحرك أبداً .
ـ تعالوا إنتو الأربعة، أمسكوه بقوة ، كل واحد من طرف .
أخرج الطبيب المشارط من علبة السردين وبدأ بتجريبها واحداً بعد الآخر ، اختار المشرط المصنوع من غطاء ساعتي ، جربه على اظفر ابهامه ، قال :
ـ يا لله يا أخي ، توكلنا على الله ، يا شباب ثبتوه منيح ولا تخلوه يتحرك أبداً .
وضع المشرط على بطن المريض " بسم الله الرحمن الرحيم "، وحز جرحاً بطول عشرة سنتيمترات تقريباً.
ـ آخ يا أمي .
صاح المريض ولكنه لم يتحرك .
انتهت العملية، كان الطبيب يعمل بسرعة فائقة، وبعد خياطة الجرح مسحه ونظفه، فتح عدة حبات من المضاد الحيوي وافرغ المسحوق فوق الجرح، ثم قطعة قماش نظيفة وربطه جيداً.
ـ انشاء الله معافى يا أخي، يا شباب احملوه على فرشته .
عدت إلى فراشي فوجدت بنطال بيجاما وقطعتي قماش فوقهما إبرة عظمية وخيطان، أمسكت بهذه الاشياء نظرت حولي ولكن لم يكن هناك أحد يلحظني، من وضع هذه الأغراض ؟ البنطال عرفته كان لاحد الذين أعدموا اليوم، لكن من وضعه على فراشي ؟ .
بعد قليل أدركت الامر، لقد أعطوني هذه الاشياء، هل هي مكافأة ؟ هل يعني هذا أنني لم أعد جاسوساً كافراً ؟! التفت إلى أبو حسين، رفعت الأشياء بيدي أمام وجهه وقبل أن أنطق بحرف قال بحدة شعرت أنها مفتعلة :
- الك ... هدول الك ... ماداموا على فرشتك يعني الك .
من يومها أحسست أن وضعي قد تحسن قليلاً ، رقعت بنطالي من الخلف ومن الأمام، أصبحت ألبس بنطال البيجاما عندما أغسل بنطالي، أصبح يوسف "مجنون القائد" يزورني مجدداً دون ممانعات .
الآن وبعد مرور شهر على إجراء العملية فإن الرجل تعافى وأصبح يمشي بشكل طبيعي .
" لكنه سيعدم بعد حوالي السنة شنقاً ".
1 كانون الثاني
البارحة كان عيد رأس السنة، أغلب الناس خارج هذا المكان يحتفلون بهذه المناسبة حتى الصباح، أما هنا فأعتقد أني الوحيد الذي يعني له هذا اليوم شيئاً. منذ بداية المساء نام الجميع، البرد جارح، لبست بنطال البيجاما وفوقه بنطالي والسترة، تغطيت بالبطانيات لكن لا جدوى ، قداماي مثلجتان ، أنفي ... أذني ... لففت نفسي جيداً وغطيت رأسي، هذا البرد الصحراوي اللعين ... برد كنصل الشفرة .
حاولت الهرب منه إلى أحلامي، رتبت سهرة لرأس سنة ما ، تعبت قليلاً في اختيار المكان والأشخاص، أنا نجم السهرة بلا منازع، المائدة مليئة بالأطعمة والأشربة، الموسيقا، الرقص ... جو المرح والنكات، الثلج يتساقط في الخارج، أقف خلف زجاج النافذة، أرقب اشجار الصنوبر وقد تكللت باللون الأبيض، الدفء داخل المنزل يحيطني ... أحس بالترف، وبنفس الوقت بالتعب، سرير وثير وأغطية ناعمة اللمس !!.
مستحيل ... غير ممكن في ظل هذا البرد أن تحلم بالدفء!. أزحت الغطاء قليلاً، حككت يدي ببعضهما، نفخت عليهما، فركت قدمي بقوة علّ الدماء تسري فيهما ! .
عند منتصف الليل سمعت اصواتاً في الساحة أمام مهجعنا، تغطيت بالبطانية ونظرت من الثقب، الساحة مضاءة كالعادة ، كل ساحات واسطح ومهاجع وسور السجن تبقى مضاءة ليلاً نهاراً، هناك في الساحة جمهرة كبيرة من الشرطة يصدرون ضجة كبيرة، ضحك .. صياح .. شتائم .. أمعنت النظر جيداً، المساعد في وسط الساحة تحيط به مجموعة من الرقباء.
أحسست بحركة داخل المهجع، نظرت من تحت البطانية كان الجميع قد استيقظ، البعض يبسمل ويحوقل، البعض يردد عبارات مثل : يا لطيف .. يا ستار .. اللهم مرر هذه الليلة على خير !!.
عدت للنظر إلى الساحة، كان المساعد وشلته قد اقتربوا قليلاً من مهجعنا الذي يعتبر من أكبر المهاجع في هذه الساحة، طلب من الشرطة فتح الباب وإخراج السجناء الى الساحة. وخرجنا .
خرجنا حفاة عراة، حتى السروال الداخلي أمرونا ان نخلعه، صفونا أرتالاً وأمروا أن يبتعد الواحد عن الاخر خطوتين .. وأن لا نستغل عرينا لنلوط بعضنا !.
" وردت رسالة قبل بضعة أيام عن طريق المورس من الساحة الثانية تقول إن الرقيب ( يا منيك ) قد أجبر سجيناً أن يلوط أخاه !!".
[ لماذا تركز الشرطة على هذه المسألة كثيراً ؟!] .
الشرطة والرقباء والمساعد جميعاً يرتدون المعاطف العسكرية وقد لفوا رؤوسهم باللفحات الصوفية، المساعد يتمشى جيئةً وذهاباً أمام الصف، الشرطة يضبطون الاصطفاف: وقف باستعداد ولا ... نزل راسك ..
الريح شمالية خفيفة ولكنها قارسة، أعتقد أن درجة الحرارة تحت الصفر ببضع درجات.
بللونا بالمياه من الرأس وحتى أخمص القدمين، أمرونا ألا نتحرك، عناصر الشرطة يمشون حولنا وخلال صفوفنا وبأيدهم الكرابيج والعصي.
بدأ المساعد خطبة طويلة، وقفته والكثير من عباراته وجمله وحركاته هي تقليد وتكرار لحركات واقوال مدير السجن، ثلاثة أرباع الخطبة شتائم مقذعة، وقد بدأها بتحميل السجناء مسؤولية بقائه بالسجن بينما العالم كله يحتفل، ولولا اننا موجودون هنا حالياً لكان هو أيضاً يحتفل، الضباط ذهبوا ليحتفلوا وتركوا كل المسؤولية على عاتقه.
" رجل ذو أهمية تاريخية !" .
أنهى خطبته وغادر الساحة وقد شد صدره الى الخلف ، دون أن يعطي اية تعليمات بشأننا .
صوت اصطكاك الاسنان مسموع بشكل واضح الجميع يرتجف برداً ، انا بالكاد أتماسك لأبقى واقفاً .
أظن أن هناك سؤالاً طاف بأذهان الجميع .
ـ ما نهاية كل هذا ؟... ماذا سيفعلون بنا ؟... هل هي مقدمة لمجزرة جديدة ؟... هل سنعود ثانية الى مهجعـ"نا" ؟!.
لا كلمة، لا صراخ، لا شتيمة، صمت مطبق لا يخدشه إلا صوت خطوات الشرطة وهي تتمشى حولنا، حتى أيديهم التي يحملون بها الكرابيج والعصي دسوها في جيوبهم وبرزت العصي وتدلت الكرابيج من هذه الجيوب .
الجسد ... الخدر يزداد وينتشر، الألم يتعمم ويتعمق، الأسنان تصطك، من اللسان وحتى المستقيم ارتجاف واحد، الأنف، الاذنان، الكفان، القدمان، كل هذا ليس من الجسد. تتساقط الدموع برداً وبكاءً فتتجمد على الخدين وزوايا الفم المرتجف، والسؤال :
متى سأسقط ارضاً ؟.
يسقط أحدهم قبلي، يوقف جميع عناصر الشرطة عن الحركة لدى سقوطه، تخرج الايدي من الجيوب، وينطلق بضعة عناصر، يجرون السجين الذي سقط إلى أمام الصف حيث يتجمع الرقباء، يقول أحد الرقباء:
ـ يالله ... دفّوه .
تنهال الكرابيج على جميع أنحاء جسده المتخشب، يحاول الوقوف ولكن وقع الكرابيج يمنعه ، يسقط آخر ... يجر الى حيث التدفئة، وآخر ... وآخر.
أجالد نفسي خوفاً من السقوط ، يحدث انفصال تام بين العقل والجسد، عقلي صافٍ تماماً وواعٍ كل ما يجري حولي، أما جسدي فينفصل عني شيئاً فشيئاً خدراً وتجمداً، تختلط الدموع مع المخاط السائل من الأنف واجد صعوبة بالتنفس، لا أجرؤ على رفع يدي إلى أنفي ... حتى لو استجابت يدي !.
وسقطت ... سقطت دون أن أفقد الوعي وجروني إلى أمام الصف .
لقد جربت وعاينت الكثير من صنوف الألم الجسدي ... لكن أن تساط في البرد وأنت مبلل ... أمر لا يمكن وصفه.
مع بزوغ ضوء الفجر وسقوط آخر شخص وتدفئته من قبل الشرطة انتهت الحفلة. دخلنا المهجع ركضاً على ايقاع الكرابيج ، ركضنا بخفة ورشاقة وكنت أظن أنني لن استطيع النهوض عن الأرض، لكن ما أن سمعت الأمر بالدخول ورأيت الكرابيج تهوي حتى قفزت ، " لطالما تساءلت بيني وبين نفسي عن منبع هذه القوة !... المقاومة ؟".
هذه المرة رأيت فرحاً حقيقياً على وجوه الناس بخلاصهم من مجهول كانوا يخشون وقوعه في دواخلهم كثيراً، وخلف هذا الفرح تراكمت طبقة جديدة من حقد اسود تزداد سماكتها بازدياد الالم والذل .
نهاية جزء 11
إعداد: ألف /
يتبع ...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |