أنطون مقدسي من رحابة الثقافة إلى قلق السياسة
خاص ألف
2006-05-10
مر أكثر من عام على رحيل المفكر السوري الكبير أنطون مقدسي؛ وما يزال مكانه على المشهدين الثقافي والسياسي فارغا حتى اليوم. المقلق أن هذا المكان يمكن ألا يملأه أحد.
في الواحدة والتسعين، كان أنطون مقدسي أكثر شبابا منا جميعا. ولكنه فضل أن يمضي، قبل أن يشهد انحدار المشهد السياسي إلى درك المؤامرات والاغتيالات. رحل، ولم يدرك مقتل الرئيس رفيق الحريري وشلال الاغتيالات التي تلته. لم يدرك القرار 1595 ولجنة تقصي الحقائق ولجنة التحقيق والتقرير الأول والقرار 1636 والتقرير الثاني والقرار 1644.
سيذكره السوريون عموما، باعتباره القادم من فسحة الفلسفة الإغريقية والأدب الجاهلي والعمارة القوطية إلى قحط الفعل السياسي في الجرد السوري. سيذكرونه خاصة، لأنه كان أول من حول القحط إلى ربيع، ولن يكون من المبالغة القول إن ربيع دمشق ارتبط باسم أنطون مقدسي بشكل لا انفكاك منه.
سيذكره السوريون باعتبار أنه أول من تجرأ على مس المقدس، عندما كتب في رسالة موجهة إلى رئيس الجمهورية، يقول فيها: "لقد كفانا يا سيدي من الكلام الفضفاض: مكاسب الشعب، إنجازات الشعب، إرادة الشعب." والجرأة ليس لأنه خاطب الرئيس، وإنما ربما لأنه مس بتابو الشعب. وهو سوف يصل إلى القول: "الشعب غائب يا سيدي منذ زمن طويل. إرادته مشلولة، تقوم اليوم على تحقيق هدفين: (الأول أن )يعمل ليلا ونهارا كي يضمن قوت أولاده، (والثاني) أن يتبنى السلوك الذي يطلب منه."
لم يكن قد صدر بيان التسعة وتسعين بعد. وهو لعب دورا كبيرا في صدوره. كان هاجسه المجتمع المدني الذي يسميه "الحياة،" في مقابل "مجتمع الرعية،" الذي يسميه "الموت." في مقالة تبسيطية سماها "إلى حفيدي،" يفرق المقدسي بين المواطنين والرعايا. فالأولون لهم حقوق وعليهم واجبات أما الآخرون فعليهم حقوق، أما يكسبونه فمنحة من الحاكم في معظم الأحيان. المواطنون يَنتخبون أما الرعية فتُستفتى. ومع ذلك فهو يعتبر أن معركة قد بدأت مع الحكم للانتقال من وضع الرعية إلى وضع المواطنة. ويحدد بداية هذه المعركة ببيان التسعة وتسعين. وفي مكان آخر،(4) يصف المقدسي مطالب المثقفين في هذا البيان بأنها "لا أكثر ولا أقل من إبدال الحكم الشمولي بحكم ديموقراطي." وللوصول إلى ذلك لا بد من "فك الحصار عن الشعب (...) وإزاحة ثقل الأجهزة السرية."
على أن هذا لا يعني أن المقدسي جاء إلى السياسة من العماء. فهو من مؤسسي الحزب الاشتراكي العربي، مع الزعيم السياسي البارز أكرم الحوراني، ولعب دورا في وحدة الحزب الاشتراكي مع حزب البعث العربي وتشكيل حزب البعث العربي الاشتراكي. غير أنه ترك الحزب بعد وصوله بانقلاب عسكري إلى السلطة في 1963. ولئن انسحب من ساح السياسة، فإنما إلى ساح أرحب وأوسع هي ساح المعرفة والثقافة. كثير من الفلاسفة والمفكرين السوريين يعتبرونه أستاذا لهم، إما بالمعنى الحرفي، عندما كانوا تلامذته في قسم الفلسفة بجامعة دمشق، أو بمعنى التتلمذ على أفكاره ومعارفه. ورغم أن اختصاصه كان في الفلسفة الإغريقية، فقد كان متعمقا بالأدب والفنون والقانون والمجتمع والاقتصاد. واحد من المثقفين الشموليين الذين قضى عليهم عصر الاختصاص. وهو في ذلك كله يجسد مثالا نادرا للمثقف المستقل والنقدي، الذي لم يهادن سلطة في حياته وإنما كان سلطة بذاته. وهو يعبر عن ذلك بكلماته حين يقول: " منذ البداية قررت أن أكون مثقفا وأن أبقى مثقفا. وبما أن المثقف لا يمكن أن يكون حياديا، قرت أن أتخذ موقفا نقديا وألا أنتظر أي وظيفة سياسية و تكريما زائفا."
وفي عمله كمدير لمديرية التأليف والترجمة والنشر في وزارة الثقافة على امتداد عقود، ترجم هذه السلطة بما يخدم المجتمع والقارئ السوريين. وكان محط احترام الوزراء، وربما مصدر قلق لهم، إلى أن جاءت إلى الوزارة سيدة جميلة أقالته دون أن تجرؤ بإخطاره. وحين جاء إلى مكتبه كالعادة، وجد مكانه "بديله،" فسطر كتاب استقالته وانسحب إلى بيته وأصدقائه وتلامذته. لا أحد يعرف حق المعرفة ما إذا كانت تلك نزوة من الوزيرة الجميلة، أم أنها عقوبة لانخراطه في العمل المدني.
بيد أن المقدسي، الذي لم يستخدم منصبه في حياته، بل كان يخدمه على طول الخط، لم يحن هامته، وطفق يقرأ ويكتب ويتحدث ويعلم. وحين مات، أوصى أن تخلو جنازته من أي تمثيل رسمي للسلطتين الدينية والسياسية، وأنه في حال مشاركة أي من ممثلي هاتين السلطتين، فهم يشاركون بصفتهم الشخصية. كان رد السلطة تجاهلا للحدث الكبير. وخلت الجنازة تقريبا من كبار المسؤولين، باستثناء وزير الثقافة الذي حضر بصفته الشخصية، والسيدتين نجاح العطار ونجوى قصاب حسن، وزيرتين سابقتين للثقافة. أما الوزيرة التي فصلته من عمله فلم يعنها بالطبع هذا الحدث.
ولد أنطون مقدسي في بلدة يبرود في عام 1914. وتوفي في العام 2005. لم يكن يخاف الموت، ولم يفكر فيه كثيرا. وكان يقول دائما إنه لا يملك وقتا للتفكير فيه. بين هذين التاريخين كرس المقدسي نفسه للمعرفة. ولكنه لم يترك كتابا مطبوعا واحدا. ولذلك وصفته جريدة السفير بأنه سقراط. فالأخير، كما هو معروف، ترك أثرا هائلا على الفلسفة العالمية ولكنه لم يترك حرفا مكتوبا.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |