فصل من رواية الإصبع السادسة لخيري الذهبي
خاص ألف
2013-02-23
أروى تراه معلقاً في السماء
لم يستطع الطوفان الدخول إلى بيتها فقد كان البيت مبنياً أعلى من البيوت المجاورة جميعاً، ولم يستطع الدخول إلى غرفتها فقد كان المعمار والطيان اللذان عملا على غرفتها ماهرين فلم يتأثر سطح الغرفة ولا جدرانها، ولم يستطع إرعابها أو تخويفها كما فعل بالكثيرين والكثيرات. نظرت إلى وجهها في المرآة الكبيرة المؤطرة بالموزاييك كان فيه شيء من جنون كما كانت نفيسة خانم تعلن دائماً، ولم يكن الآغا يوافق على ذلك وإن شكَّ فيه بين الحين و الآخر. وربما كان هذا الشك ما جعله يغفر لها كثيراً من الشطط الذي كانت تفعله وما كان أكثره.
هذا الجنون هو الذي جعلها تقف على المشرقة عارية تماماً تعرض جسمها الغلامي للمطر الحاد ولحبَّات البرد التي كانت تداعب جسدها الفتي في دغدغة لا تنتهي. كانت قد أشعلت المنقل وتركته يدفئ غرفتها وخلعت ثيابها كاملة، قالت أريد الطهارة من حماقات هذه البلاد، أنا أعرف أن هذا المطر بلا حدود هو محاولة من الأرض للتطهر من إثم الفاسدين الذين اعتلوها... قالت: وأنا واحدة من هؤلاء الأبناء الفاسدين.
وقفت تحت المزراب مباشرة تحس انهمار الماء القاسي على صدرها الأمسح وتصرخ: طهريني. طهريني يا أمي. - ولم تكن تعني نفيسة خانم – طهريني يا أم الطهر. طهريني. ثم انقلب الصراخ إلى: طهرني.. طهرني يا روح النقاء ووهج النور والنار. طهرني يا ضوء الليل. طهرني يا رعب القحط. طهرني.. وانتبهت إلى أنها تخاطب مذكراً، فتراجعت والتفتت، فجعلت قفاها للعالم ووجهها لجدار الغرفة تاركة ماء المزراب يلطم ظهرها: طهريني يا أم الطهر. طهريني يا فجر ما قبل الفجر. طهريني.. والتفتت ثانية جاعلة قفاها للجدار ووجهها للعالم لترى البرق يملأ السماء وترى ظلها وقد أطاله البرق عشرات الأذرع، فأفزعها الطول، وكادت تسأل من أنت؟ ولكنها على عادتها لم تكترث للسؤال، فقد أخذت تغسل شعرها القصير، قصرته لحضور الكوميضا، وقصرته لتظهر أمام الناس الصبي الذي لا يخشى شيئاً.
أغمضت عينيها ولم يكن البرد ما يعنيها رغم أنّ ماء المزراب كان بارداً، ولم تعبأ باحمرار جسدها تحت وقع سياط المزراب فقد كانت مشغولة. بم...؟ لا تعرف، ولكنها كانت مشغولة، وكانت تعرف أنّ هذه فرصة ربما لن تتكرر، أن تغتسل بمطر لا ينقطع لساعات وربما لأيام، فقد أطلَّت في الصباح على الحارة ورأت السيول تحيل الحارة إلى نهر حدوده جدران البيوت المحيطة، ثم اتجهت إلى الجانب الآخر للبيت، ورأت الحارة الأخرى وهي تحمل رؤوس القرنبيط والملفوف وتؤرجحهما لاعبة بهما كما يلعب الصبي بالكرة....
أغمضت عينيها لترى إن كان بإمكانها أن ترى البرق عبر جفونها المغلقة واندفق البرق، فامتلأ رأسها بالبياض. لا.. لم يكن البرق البارق فقط، فقد كانت عيناها مليئتين بالنور الأبيض الدائم. ارتعبت، ففتحت عينيها ورأته... نعم.. رأته ببساطة. كان يقف معلقاً في الهواء وقد نبت له جناحان نشرهما وإن لم يرفَّ بهما. أنزلت كفها بسرعة تستتر، وسمعت قهقهته: أروى.. أروى. أمِنّي تستترين؟ أروى.. أروى.. أنا صبي أحلامك حتى قبل أن يكون لك أحلام. أفتذكرين؟ وهزَّت رأسها في إيجاب لم تسأله عن هويته، فقد كانت تعرفها، ولم تسأله عمَّا جاء به إلى هنا فقد كانت تعرف الجواب قبل أن تسأل.
كان جناحاه مشدودين لا يرفان، وكان المطر ينزلق عنه كما ينزلق عن الزجاج...كانت تعرف أنه سيمضي ويختفي كما تفعل كل شخوص الأحلام. كانت تعرف ذلك بكامل وعيها، ولكنها كانت تأمل أن يكون مختلفاً بعض الشيء هذه المرة، وأخيراً فتحت عينيها على سعتهما ولدهشتها لم تطرف، ولم يدخل إليهما ماء المطر على غزارته. فتحت عينيها وواجهته: كم أنت جميل، قالت في سرها، ولكنه صرخ من موقفه بصوت عال: أعرف. أعرف كم أنا جميل، وأعذرك إن فتنت بي وإن كنت لا أشتهي ذلك.. قالت: ألا تنزل إليَّ؟ قال: ولم أنزل إليك؟ قالت: لأراك عن قرب.. قال: ولكنك رأيتني وعرفتني، ورسمتني أنسيت؟
لم تكن واثقة أنها سمعت ما سمعته، ولم تكن ترغب في استعادته، فصمتت وعند صمتها. أخذ الجناحان يرفان في نعومة. فعرفت أنه ماض، فصرخت: ولكن... ما الذي يعجلك... قال: عالم كبير يحتاج إليَّ.. عالم يضج بالشهوات، ويضج بالرغبات، ويضج بالأحلام... لا تصدقي ما يقولون، فأنا المحبوب والمرغوب والمشتهى. أنا باعث الأحلام ومحرك الشهوات والإرادات. أنا من يجعل هذا العالم يخرج من نعاسه ويبدأ رحلة الصعود إلى غده... أنا من.. كان يبتعد والبرق يبرق. كان يبتعد والجناحان يرفان في انسياب هادئ، انسياب لا يشبه رفرفة الطير القلق يخاف السقوط إن لم يرفرف.. فهو لم يكن يخاف!
أحست بالبرد وتساءلت: أتراه من كان يدفئ المكان فلم تشعر بالبرد. برق البرق ولكنه كان قد اختفى تماماً فلم تر له أثراً، وأرعد الرعد فلم تسمع آخر نداءاته، وازداد البرد حتى بدأ الرعش، فانثنت إلى غرفتها وكان المنقل قد أدفأ جدرانها فتدحرجت على الفراش الممدود تتجفف وتبلله، وما إن جفت حتى لبست وأكملت دفئها، ونظرت إلى الجدار حيث الرسمة، فرأته يحدق فيها... تأملته طويلاً، ثم همست: لا. بل هو أجمل.
أمسكت الريشة وبدأت تعدل فيه، في الجبين، في بريق العينين، ومكر العينين وذكاء العينين.
كانت ترسم ولا يعجبها ما ترسم، فقد كانت في رسماتها الأولى تنسخ ما يرسم برناردو، وكانت من الذكاء بحيث ترى الاختلاف، فتعدل، ولكن النموذج الأمثل كان موجوداً، إنه ما أنتج برناردو، وكان برناردو يرسم من الذاكرة شيئاً لم يره، ولم يعرفه، ولم يؤمن بوجوده، بل كان شيئاً ربما مادة للتهريج. تماماً كما فعل لوسيان وهو يسخر من الدعوات الأفلاطونية لنبذ المرأة المخلوق الناقص، والذي لن يكتمل أبداً، وبما أنّ لوسيان كان عاشقاً كبيراً لكل أولئك الهلنستيين الظرفاء من الشوام والمشارقة والذين لم تضغط اليهودية المتشددة عليهم، فتشوِّه دنيويتهم الجميلة، ثم كانت المسيحية عدوة الفلاسفة والآلهة الأرضيين الذي يستجيبون لكل دعاء فهم ليسوا مفارقين، وليسوا متعالين، بل كان كثير منهم يحب بنات البشر فينزل إليهن ويغازلهن ويحبِّلهن، وكثير من الإلاهات كن ينزلن إلى الأرض يطاردون الأبطال من الرجال، أو من أنصاف الآلهة. كان هنالك شيء حميمي في العلاقة بين السماء والأرض حتى جاءت الطهرانية في الدين الجديد، فكرهت العناية بالجسد، وكرهت عبادة الجسد، وكرهت الجنس ككل فهو لهو عن التعبد للسماء الكبرى...
كان برناردو الابن المتأخر للهيلينية والمعجب بها حتى الذوبان يقوم في رسمه بالدور نفسه الذي قام به لوسيان، فسخر من الأفلاطونية وازدرائها للمرأة. وكان لوسيان حين صور قلمياً ذلك المخلوق الكامل حامل الذكر والأنثى في جسد واحد يعرف أنَّ هذا مستحيل فجعل منه سخريته، وكان هذا هدفه الأساسي من رسمته التي أيقظت الشيطان في أروى، فلم تر السخرية فيه، ولما كانت ناقصة الأثداء، ناقصة الخصب إذ لم تحض قط، فقد كانت تعرف أنها قد رأته، ربما في أحلامها مرة، وربما في تشهيها لمثيلها مرة، ولكنها في هذه المرة رأته. رأته وهو يحوم في العاصفة، ويضيء في البرق، ويحلِّق دون رفرفة فوق بيتها، ورغم أنه لم يعلن لها هويته إلا أنها عرفته.
وهنا بدأت أزمتها إذ أنها ما إن طلع الصباح وصار بإمكانها أن ترى رسماتها السابقة التي كان معلمها فيها المخشخش حتى رفضتها جميعاً. أحسَّت بسخفها وضعفها وعجزها عن التعبير عنه. فأدارتها إلى الجدار، ونصبت أقمشة جديدة وبدأت رسمها.
كانت المعضلة أمامها أنها رأته متحركاً، ورأته طائراً بلا أجنحة، ورأته يشعُّ دون نور. كانت تعرف ما رأته، ولكنها حين بدأت الرسم عرفت كم كانت أصابعها ضئيلة وعاجزة، ولكنها كانت مضطرة لتخليص روحها إلى أن ترسمه، كانت ترسم وتدير إلى الجدار وترسم ثم تغطي ما رسمت بالأبيض، ترسم وتعرف أنها لم تحظ بتثبيت ما رأت في تلك الليلة العجيبة.
فجأة تذكرت. تذكرت ذلك المجنون الذي رأته في التياترو والخرقة المقواة يحملها ويهزها ويهدِّد بها والناس تسخر وتضحك وتداعب، قالت: لابد أنَّه رآه، ويجب أن أسأله كي أرى، كيف يرون ما رأيت، وهل كان ما رأيت مصدره هو، أم كان المصدر أنا؟
انتظرت الغروب ولم تحاول التلصص على المخشخش ولا على ما يفعل فقد عرفت أنه صار خارج اهتماماتها، لم تحاول معرفة المشاكل التي يجابهها، وكان يجابه الكثير، ولكنها لم تكن ما يهمها. ولم تحاول التجسس على الآغا ومغامراته مع المخشخش فقد عرفت الطريق إلى التياترو.
مع العتمة الأولى وضعت الكوفية وثياب الصبي، وانسلت إلى السوق الطويل، ثم انقلبت إلى حارة النصارى، ثم إلى المدرسة العازارية، كانت قد حفظت العنوان تماماً لكثرة ما كررته منذ مغامرة مطاردة الآغا والمخشخش. بحثت عن الإعلان والرسمة يعلنان عن الكوميضا الجديدة ولكنها لم تره. بحثت عن المهرج يقرع الجرس ويصرخ: شوف. شوف. ويشير إلى باب التياترو، ولكنها لم تجده.
وأخيراً اتجهت إلى مقهى قريب فسألت الخادم عن الكوميضا وأين تعرض اليوم، ولكن خادم المقهى نظر إليها جانبياً، وقال: بح.
- ماذا تعني بح؟
- سافروا. هربوا..
- لماذا؟
- هربوا فالفيضان، وغرق الأجهزة والثياب، وتهديد الحياة بالفيضان... تركوا كل شيء، وهربوا إلى بيروت.
قالها هو يستدير لمتابعة شغله غير مكترث بمزيد من الحديث عن الكوميضا ورجال الكوميضا ومهرج الكوميضا.
أحنت ظهرها مستسلمة وعادت، وعلى الطريق اكتشفت أنها لم تضع وقتها عبثاً، فلقد عرفت من خادم المقهى وإن لم يقصد أنَّ خمسة عشر يوماً انقضت عليها منذ محاولاتها لرسمه التي لم تنجح، وكانت تظن أنها قد بدأت بالأمس أو ما قبل الأمس فقط.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |