مساء يصعد الدرج فصل من رواية للكاتب السعودي عادل حوشان
خاص ألف
2013-02-24
نبّهتني المرأة التي لم نحِك عنها وهي تفتح الباب وتقف بجانبي ولها صورة لم نستِطع نسيانها التقطتها صديقتها في مظاهرة ضّد العدوان الإسرائيلي واجتياح جينين وهي ترتدي زياً أسوداً وشالاً فلسطينياً وأرسلتها لنا عبر الـ Email بينما كنّا الاثنين نعيش في بيتنا المستأجر وهي بعيدة عن وجودنا وتحضر شهادات على الزمن حين وقَفت على رؤوسنا قالت "مرحبا" وأبعدتني عنه وهي تشّد على أكتافي. كانت نحيفة إلى درجة التمرد.
لفت انتباهي احمرار عينيها. كانت تلبس لباس المستشفى المعتاد لإجراء العمليات الجراحية. وتضع بطاقتها التعريفية على الجانب الأيسر من الـ " Lab Coat" كثيراً ما ُتحرك أنفها الأسمر نسبياً بسبابتها وإبهامها ويفوح منها عطر كاليفورنيا. تبدو للوهلة الأولى امرأة قلَِقة ولكن سرعان ما يتبّدد هذا الشعور خصوصاً بعد أن تنهي كأسها الرابعة من النبيذ الذي اعتادت صنعه في بيتنا قبل أن نأتي إلى المدن التي تتفاخر بتاريخه وتضعه في "قنينات" داكنة عليها تواريخ قديمة وصَور بلونين عادًة. صارت بعد ذلك تكتفي بشراء كرتونتين جاهزتين، في الغالب، تضعهما في مستودع بجدران خشبية في بيتها على البحيرة. أراقبها أحياناً وهي ترّج بفمها جرعتها الأولى كمن يتأمل الست سموات في لحظة واحدة؛ بعدها تهدأ وتميل إلى الصمت بدلاً من "مرحباا" الكثيرة التي تشتكي منها وهي تعيد ضحكتها المعتادة التي لا يمكن وصفها ُمطلقاً. قالت بأّن كل الأمور تمام. هناك طبيبا سيمّر ليتابع الحالة وسألتني: ـ نمشي؟ وأجبتها بـ "OK" وأنا أستعيد بصري من الحذاء القماشّي الذي لم يُستخَدم بجانب السرير.
لم أعرف أقوى ولا ألعن منها وأحب للنّاس. ولم نعرف أبقى منها في المواقف الصعبة وضّد كل ما هو بشع ويهّدد الحياة أو يصادرها من الأفواه.
المـّركما تسّميه. ُ
أعدت وضع السرير واستمعت لها وهي تحكي في الهاتف مع أحد الأطباء لتؤكد له ضرورة أن يمّر على الغرفة ويتصل بها على هاتفها الخلوي.
ودعـْتهُ وأغلقنا الباب.
**
لم أبــك طــوال الطريــق لكنــني بكيــت في البيــت أكثــر ممــا يجــب ووقفـــت أمــام البحـــيرة لأسجل شهادتي بأني مدين لهذا الرجل الذي لم أذكر اسمه بحياة شبه كاملة. راقبـت الأسمـاك وجمعـت بـذور أشـجار الصـنوبر الــبري وكتبـت ُجمـلاً شـعريّة في رأسـي وأنـا علـى حافة البحيرة بعد أن أفرغت ما في معدتي من المرارة.
في الطريق كنت أعـرف مـن عينيهـا البسـيطتين أنهـا سـتحكي، أعـرف ابتسـامتها وحركـة أصابعها النحيلة وهـي تسـند رأسـها علـى كّفهـا وتعـّدل خصـالها، أصـابعها الـتي كـأقلام رصـاص وغمازتي ارتباكها. لم نبتعد عن المستشفى كثيراً حين سألتني: ـ تريد أن تعرف؟ سكت وخنقني طائر يغمض عينيه. فتحت نافذة السيارة وأنا أستمع إلى أغنية في الراديو قبل أن تغلقه. ـ "أبوك" مريض بسرطان في الدماغ. أغلَقــت الراديــو وتــركتني أتبّخــر في حــزن لــزج لــه آلاف الوجــوه والأيــدي والأقنعــة بينمــا أحنَــت رأسها على يدها ورفعت خصلتها وكان المشهد مائياً من أثر الطهِر والصلوات. ماذا سأتذّكر ومتى سأنسى بعد ذلك؟
أعتقـد أّنهـا أخـَذت طريقـاً أطـول مـن المعتـاد، يمــّر علـى بيـوت متفرقـة ذات طـابع ريفـّي نعرف أحد ملاكها بفناء بيته المستطيل. ُّ
رجل عجوز نـُوم في المستشفى لشهرين ثم صار صديقاً في أوقات متباعدة. الطريــق يوِصـــُل إلى تقـــاطع بـــأربع اتجاهـــات أحــدها يعـــود عنـــد محطـــة للمحروقـــات إلى الاتجـــاه المُعــاكس، وآخـــر يأخــذ مســـافة أبعــد، يوصــل بمنطقــة مفتوحــة لســباق الخيــول وكـــلاب الصــيد ومحـــلات لبيــع الأجهـــزة المســـتخدمة ومحـــلات للتحـــف الكبـــيرة والمســابح الجـــاهزة. ســـرعان مـــا تشـــتبك الطرقـــات مـــع أطـــراف المجمعـــات الســـكنيّة بينمـــا تقـــود في اتجاههـــا الآخـــر إلى منـــاطق غابات ومدن أخرى تقع على مسافات مختلفة.
توقفت عند سوبر ماركت وسألَتني إن كنت أريد النزول معها؟ قلت لها "سأبقى هنا" وذهبَت بينما كنت أراقبها بعينين غارقتين وهي تأخذ عربة التسّوق وتدخل. حــين عــادت كانــت تحمــل كيســين أحــدهما بــه ثــلاث زجاجــات "Wine" مــن النــوع الــذي تفضـله "WOOD BRIDGE" واتصـفه بأنـه مـن ِعنَـب الجنّـة، وكـيس آخـر لمسـتلزمات عشاء لشخصين كاملين. ِ ِ رأيت في عينيها غابة إجابات ولم تستطع إخفاء حزنها حتى وهي تبتسم حين اقتربت مـّني وأنـا أجلس ُمقرفصاً على الجزء الأمامي من السيارة في انتظارها. أشارت لي بحركة مـن رأسـها بـأن أركـب و...ركبنـا؛ لاحظـت أن شـعرها طـال نسـبياً عّمـا كنـت أظن. مــع مــرور الــزمن في عشــرتنا الــتي فصــلتها ســنوات بــين الريـــاض وبــالتيمور صــرنا نعــرف بعضـــنا بــالكثير مــن الحــب والاحــترام للحيــاة الــتي كــادت أن تفــر مــن قبضــاتنا مثلمــا فــّرت مــن النّــاس البعيدين. قالت لي حين قطعنا نصف المسافة واقتربنا من مدخل المجمع السكني: ـ نواف...لا تعتقد بأّن الأمر هّين علّي، وعليك أن تقف معي. قلت لها "أعرف"، وأخفيت وجهي ناحية النافذة الجانبية. حين دخلنا البيـت عـن طريـق بـاب الــ "كـراج" حضـنتني وسـقطت منهـا دمعتـان خائفتـان وهـي تلمس فمي بإبهامها لتمسح عنه أثَر يوم قاتل ببراعة. أخرجنـا طاولــة البحــيرة ووقفنـا أمـام المـاء الهـادئ طـويلاً دون أن نتحـدث. ولا معـنى لأن أكتــب عن حزن شخصين صامتين تمضغ دماغيهما الذكريات. كان صدى أصوات طيور البحيرة أشبه بصـافرات بـواخر مسـافرين وكـان لابـّد أن ننهـي مقطـع الحزن أيضاً، هكذا اتفقنا دون أن نحكي.
* شاعر و روائي من السعودية، و مدير دار نشر طوى. المقتطفات من مطلع الفصل الرابع.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |