"الكاهن والعمياء" لأندريه جيد ... حب ممنوع هيثم حسين
2013-02-26
يعالج الفرنسي أندريه جيد (1869–1951) الحائز جائزة نوبل للآداب سنة 1947، في روايته «الكاهن والعمياء» (ترجمة هلا فرحات، الحكايات- بيروت) مفارقات الحب الممنوع، المشتهَى، الذي يشكل مركز علاقة ثلاثية الأبعاد، يرسم فيها أب وابنه وفتاة عمياء محاورَها الثلاثة، وتدور أسرة في فلكها، وتسير نحو التداعي، حيث تنكشف العلاقات وتتجلى الحقائق. ولا يكون من الاعتراف بد، يثير الكثير من الأسئلة حول العفة والطهر والمحبة والحرص والسعادة.
أندريه جيد يكتب «الكاهن والعمياء» على شكل مذكرات ويوميات كاهنٍ يدون مذكراته، يؤرخها منذ تعرفه إلى الفتاة العمياء أول مرة، وذلك حين استدعي لكوخ امرأة عجوز كانت تنازع ليحضر اللحظات الأخيرة لها ويستمع لاعترافها إن أمكن. يصادف في الكوخ فتاة عمياء متكورة على نفسها، يتفاجأ بمقدار الإهمال الذي تحياه في كوخ قريبتها العجوز، وتكون هي الوريثة الوحيدة لها، وتكمن مأساتها، بالإضافة إلى عماها، أنها لم تتعلم أي شيء، بل ظلت منسية مهملَة بعيدة من أي اهتمام أو رعاية أو توجيه أو تعليم.
يحار الكاهن في ما يفعله مع الفتاة العمياء، لم يطاوعه قلبه بإبقائها وحيدة في كوخ قريبتها المتوفاة، اصطحبها معه إلى بيته، كان مرآها مفاجئاً لزوجته إميلي، التي لم تعارض بشدة، بل اكتفت بتأنيبه وتنبيهه إلى مشقة النهوض بأعبائها وواجباتها، ولاسيما أن الظروف لم تكن يسيرة، لكنه أقنع إميلي بضرورة الاهتمام بها ورعايتها إلى حين إيجاد طريقة أو رعاية لها. رضخت إميلي مكرهة، وبدأت العناية بالفتاة التي سمَّوْها جرتريد.
أخذ الكاهن على عاتقه مسؤولية تعليم جرتريد، وذلك بعد مناقشة حالتها مع صديقه الدكتور ترومان، الذي أكد له أن الفتاة تحتاج إلى اهتمام وتعليم وستتطور نحو الأفضل، لأنها تعيش في حالة فوضوية، فإن تقدمها قد يكون بطيئاً، لكنه سيتدرج بشكل تصاعدي مؤكد. كانت تلك النصيحة من الدكتور كفيلة بدفع الكاهن للانكباب على تعليم جرتريد، التي عانت بدايةً، وتقوقعت على نفسها كعادتها، لكنها ما لبثت أن استجابت للتعليم، وبدأت التطور بشكل لافت، وأدهشت الكاهن، الذي كان يوليها الكثير من عنايته واهتمامه. ولاحظت إميلي أن زوجها بدأ يؤثر العمياء عليها وعلى أولادهما، وأنه يمضي معها أوقاتاً طويلة على حساب بيته وأسرته، ما دفعها إلى الاحتجاج بطريقتها المعتادة، بالانعزال والاكتفاء بالصمت، الذي يكون سبيلها للمطالبة ببعض حقوقها. وبعد مداولة في الموضوع بين الزوجين، استدلا على طريقة للاهتمام بجرتريد، بحيث لا تشكل عبئاً عليهما ولا تتسبب في إحداث شروخ في علاقتهما الأسرية، وقاما بتأمينها عند سيدة طيبة محبة للخير لتهتم بها وترعاها.
كانت جرتريد في عمر ابنة الكاهن تقريباً، لكنه كان يجد فارقاً كبيراً بين اهتمامات ابنته التي لا تتجاوز القشور، واهتمامات جرتريد التي بدأ وعيها يزداد بمحيطها، وبدأت تتلقف ما يتفوه به الكاهن من عبَر وأحاديث، وتستلهم منه الأفكار وتبني عالماً متخيلاً انطلاقاً من تصوراتها وأحاديث الكاهن، وتشربت أفكار الكاهن وأفادت من ثقافته وسعة اطلاعه، بدأت تتعلم العزف على آلة موسيقية، وتسأله في الكثير من المواضيع، وتشتاق إلى وجوده برفقتها وعنايته بها.
النقطة التي شكلت منعطفاً فاصلاً في علاقة الكاهن والعمياء كانت في رؤية الكاهن لابنه الكبير جاك بصحبة جرتريد، رآها وهو يلمس يدها بيده، وإن بدت تلك اللمسة بريئة عفوية، إلا أنها أنذرت الكاهن بالكثير من المخاطر المحتملة، فتداول الأمر مع زوجته وابنه، وطالب ابنه بضرورة الابتعاد عن جرتريد وعدم الإساءة إليها، ولم يقتنع بدفاع جاك عن نفسه، واعترافه بأنه يقدر جرتريد أعظم تقدير وأنه يحبها حباً صافياً غير مدنس.
واجه الكاهن جرتريد بالموضوع، أسرَّ لها ببعض الشذرات، استطلع رأيها، فتوافقت معه، وأبدت رغبتها به وحبها له، وكان ذلك شرارة لإشعال نيران الحب في قلبه، وكان ذاك الحب يعذبه عذاباً شديداً، ويسعى بدوره إلى كبته وتجاهله وتوصيفه على أنه شفقة أو أي شعور آخر، لكن قلبه لم يكن يطاوعه، ووجد نفسه متعلقاً بها ومشتاقاً لها باطراد.
أفلح الكاهن في إبعاد ابنه جاك عن جرتريد بزعم أنه لا يريد الإساءة للفتاة، وأن ابنه يحتاج لامرأة كاملة تشاركه حياته ومستقبله، لكن ذاك الادعاء كان غطاء لا غير، يعتم به على الحب الذي ينهش قلبه وروحه للفتاة التي جعلته يبصر جوانب خفية معتمة في حياته وروحه كان يغفل عنها، اكتشف معها جمال العالم وبهجته، كان العمى سبيلاً إلى التمعن في نور الأشياء المحيطة به، والتي كان يصورها للفتاة فيتنبه إلى جمالها ويكتشف فرادتها.
ابتعد جاك لفترة، وتردت علاقة الكاهن بإميلي، شعرت جرتريد بذاك، لأنها كانت حساسة للغاية، وتستطيع استشفاف المشاعر والوصول إلى الدواخل وتبصُّر المشاعر عبرها، كانت بصيرتها سلاحها في اكتشاف العالم والتعرف إلى المحيطين بها، وقلما تخطئ في أحكامها وتخميناتها.
تبادلت جرتريد مع الكاهن الأحاديث، صارحته بحبها له، فحاول التملص أو التبرير، لكنها كشفت عن تأثيرها فيه، وأنه يعيش داخلها والسبب في تكوين وعيها وبلورة شخصيتها وجعلها ما هي عليه، وتساءلت إن كان يقول لها الحقائق أم ما يريد لها أن تشعر به وتتعرف إليه فقط. دفعته إلى إعادة التفكير في ما يجب أن يتم بتحليلها لواقعها والأشياء المحيطة بها.
اللحظة الحاسمة كانت في إخبار الدكتور ترومان الكاهن بأن هناك احتمالاً لإجراء عملية لجرتريد، وربما تنجح في جعلها تبصر. كان للخبر وقع مفرح وغريب على الكاهن، من جهة انتابته الخشية مِن فَقْد الفتاة، ومن جهة أخرى أراد لها التمتع برؤية العالم.
تمكنت جرتريد قبل ذلك من تطوير كفاءتها، استطاعت تكوين فكرة عما حولها، وعن القيم والأفكار التي بدأت تعيها، وتعرفت إليها من أطراف مختلفة، كان جاك أحدها، ولم تظل أسيرة ما أراد لها الكاهن التعرف إليه ومعايشته، لم تبقَ رهينة أحادية الفكر والتفكير، بل بدأت تعي بشكل أكثر إلماماً وسعة بما يدور من حولها. اكتشفت العلاقات والخيوط اللامرئية التي تربط بين البشر.
شكل إبصار جرتريد نقطة تحول قاهرة في حياتها. في اللقاء الأول بأسرة الكاهن، تركت نفسها تسقط في النهر، وتم إنقاذها بصعوبة وإسعافها، لكنها كانت قد حسمت أمرها وقررت نهايتها. الحب الذي حلمت به كان متمثلاً في جاك، الذي جمع في صورته وصوته النموذج والمثال، لكن الكاهن بأنانيته حرمهما أحدهما الآخر، وكانت أنانيته مغلفة بمزاعم الحرص والحذر على مستقبل الفتاة وجاك.
فقدت جرتريد رغبتها في الحياة، أفسحت المجال لنفسها بالسقوط في هاوية اليأس القاتل، قبل السقوط في النهر، وكان ذلك إيذاناً بموتها الوشيك. عتبت على الكاهن لأنه حرمها بحبه من حبها وجاك، اعترفت بين يديه أنها عشقت صورة جاك فيه، وأن جاك كان حلمها ولم يجدِ تفريقه بينهما، بل أسكنه في قلبها وروحها أكثر.
يركز أندريه جيد على إبراز المرارة التي تكمن في المفارقة بين حالتي العمى والإبصار، بين العفة المزعومة وما تخفيه وتضمره من أنانية منبوذة، ذلك أن عودة البصر لم تنقذ الفتاة، بل كانت سبباً في دفعها إلى الهلاك، أي ليس بالضرورة أن يكون العمى مانعاً للسعادة والحياة، ولا البصر دافعاً للبهجة والمتعة.
عن جريدة الحياة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |