جمل هائج في جملة
خاص ألف
2013-03-24
خط وقف إطلاق النار عند الجزء الجنوبي من الحدود مع العدو الصهيوني خط وهمي يقع في منتصف وادي الرقاد الفاصل بين الجولان المحتل وحوران, وهو واد قد يصل في اتساعه وعرضه إلى ما يساوي الكيلومتر, وقد يصل عمق قاعه عدة مئات من الأمتار, وهو واد شديد العسر في عبوره, حتى على الرعاة الذين كانوا يتسللون إلى محمياته لرعي دوابهم مخاطرين بقطعانهم وأنفسهم أمام الألغام ووحوش البرية, وربما كان من حسن حظ الحياة الطبيعية جعل خط وقف إطلاق النار في هذا الوادي, فقد لجأ إليه آخر الضباع المطاردة والتي اختفت من الأراضي السورية, واختفت معها الذئاب والغزلان والخنازير البرية, بل أذكر أن هناك من حدثني عن رؤيته مرة في الوادي النمر السوري الذي لم يعد الصيادون يرونه منذ أكثر من نصف قرن, كما لجأ إلى هذه المحمية أنواع من الصقور والعقبان التي يمكن لك أن تراها تطير في الوادي وتحت مستوى النظر.
في وادي الرقاد كان يمكن لك أن ترى الحجل الذي سيحدثني أبو مرعي, وهو فلاح من الجولان قوي البنية بشكل مذهل يعرف في البستنة وزراعة الخضار ما لايعرفه كثير من المهندسين, هذا الرجل حدثني كيف احتال خبثاء الصيادين على صيد الحجل ليبيعوه في المدينة لهواة تربية الحجل مقصوص الجناح في البيوت, وذلك حين يمضون إلى البرك الصغيرة التي يباكرها الحجل قبل شروق الشمس الكامل.. قال: يعمدون إلى ثمر الخشخاش فيدقونه حتى السحق ثم يخلطونه بالماء ويمضون إلى البركة الضحلة فيسكبون الخليط في ماء البركة , حتى إذا ما باكرها الحجل وشرب سقط على مقربة من البركة مخدراً, وسارع الصياد إلى جمعه في كيس خيش أعده لهذا الغرض, وإذا لم يكن لديه خشخاش استعاض عنه بالعرق - أضاف وهو يكركر بالضحك.
جملة التي ربما سمع بها كثير من السوريين للمرة الأولى في حياتهم, فاحتلت نشرات الأخبار كانت مع حادث القبض على عاملين في قوات الأمم المتحدة, هذا العمل الذي لا أفهم له سبباً ولا مبرراً, ولا أوافق عليه, فهو لن يفعل إلا أن يتسبب للثورة النظيفة حتى الآن بلطخة هي في غنى عنها, صحيح أنها انتهت نهاية سعيدة.. وهذا ما أتمناه, ولكن العملية خاطئة من البداية وحتى النهاية.
المهم, وصلت إلى قرية "جملة" في سبعينيات القرن الماضي ضابطأ مجنداً, وكانت قرية منفية في آخر حوران, قريباً من ملتقى الحدود السورية الأردنية, وملتصقة تماماً بوادي الرقاد.... كانت حوران كلها مظلومة مثل معظم الريف السوري, بل ربما كانت حوران الأكثر ظلماً, وكانت "جملة " ظلم الظلم, فلقد تركوها للعتمة, فلا كهرباء تنيرها, وكنت إذا ما غامرت مرة وخرجت من براكيتي ليلاً فوجئت بالعتمة تغطي كل ما أرى من حوران, أما على الجانب الآخر, أي الجولان المحتل, فكانت القرى - المستعمرات منارة, وكانت مصابيح الشارع مضاءة, وكان هذا يمزقني, فكنت أتحاشى هذا الخروج ما أمكن, طبعاً لاضرورة للقول أن لاماء للشرب, ولاحاجة للقول أن لامجاري, ولا باصات منتظمة, والأنكى من هذا كله.. لاشجرة واحدة في كل القرية ماعدا حول بيت المخابرات.
كان المشهد المريع أنك ما إن تدخل إقليم حوران حتى تختفي الأشجار تماماً, وحين سأسأل أبو مرعي في إحدى ساعات الصفا سيجيب بكلمة موجزة: الغزو !! وحين أسأل عما يعني بالغزو؟ سيتنهد, ويحدثني عن مئات السنين التي عاشتها حوران, وكان يختصر العالم بحوران, حيث لم تنقطع الغزوات, تتار ومغول, انكشارية وبدو, تركمان وعرب, والكل لاهم له إلا النهب, وكان الشجر أسهل المنهوبات يقطعون ويحرقون, ويعيد الفلاح الزرع, ولكن الغزو أعجل من النمو, وييأس الفلاح, ويختصر الزرع بالمحاصيل, القمح للبرغل, والشعير للخبز, ثم الحمص والعدس, ومازاد عن حاجة البيت, والجامع باعوه في المدينة,أما الشجر فقد صار ترفاً لاضرورة له.
اكتفى الفلاح السوري بالمحاصيل, ولاتحتاج هذه المحاصيل إلا إلى سنة ممطرة, وبذار, ثم رجاء ودعاء لبضعة
شهورلتنضج, وتحصد, وتحمل إلى حيث الأمان في البيت... لكن زراعة المحاصيل ما كانت لتكفي كل الأولاد الشبان من
زواج, وبيت جديد, فكان لابد من هجرة وبحث عن عمل, وهكذا رأينا فائض العمالة من حوران في حيفا قبل قيام
الدولة العبرية, ورأيناهم في الجزيرة السورية أيام الثورة الزراعية في أربعينات, وخمسينات وستينات القرن الماضي, وقبل الإصلاح الزراعي المشؤوم الذي فتت الملكية, وجفف نهر الخابور العظيم.
المهم.. دأب فائض الشبان وشجعانهم على البحث عن رزقهم خارج حوران, فحوران بزراعتها الشحيحة لم تعد تكفي, و..أخيرا وجدوها في الخليج العربي, فمضوا إلى هناك بالآلاف, وعادوا بمدخراتهم, فحفروا الآبار الارتوازية, واستصلحوا الأراضي "انتزعوا منها الصخور البركانية العظيمة" وبدأوا زراعة الخضار لتسوق في درعا, ثم في دمشق ثم في كامل القطر, ثم زرعوا الأشجار حتى صار الزيتون والكرمة من أهم منتجات حوران, ولم تعد أراضي الجولان وقراه فقط ما يدعى بأم الزيتون, وأم التين, وأم الرمان, فقد صارت حوران أم الزراعة.
ولكن سأعود ثانية إلى سبعينات القرن الماضي حين التقيت بذلك الرجل الجولاني العجيب "أبو مرعي", و.. كان في القريةعين ماء قليلة العطاء, وزاد في قلتها توزعها بين الورثة, ثم بين ورثة الورثة حتى أصبحت لا تكفي حتى للخدمات المنزلية, فاستأجرها منهم, وكانت هذه خطوته الذكية الأولى, فقد اجتمعت العين لزارع واحد للمرة الأولى منذ زمن طويل, وبدأ الزراعة, وكانت أرضاً لم تزرع من قبل, فأثمرت خضاراً أشهد أني لم أذق مثيلاً لها في حياتي, البندورة والباميا والشمام, أكان الفضل للأرض لم تزرع من قبل أم كان الفضل للمعلم أبو مرعي؟.... لا أدري, ولكن المهم أني, وأهل الٌقرية طبعاً بدأنا أكل ألخضار.. عرفت الكثير في تلك الأيام عن المجتمعات الريفية, كنت أساهر أبو مرعي, وأساهر مساهريه, وأستمع إلى شكاواهم عن إهمال الدولة لهم, وإهمال المدينة لهم, كنت أسمع عن شهوتهم للكهرباء, والراديو, فلم يكونوا يطمحون إلى التلفزيون بعد, كنت أسمع شكاواهم عن ندرة مياه الشرب, هذه المشكلة التي سأسمع عنها في حوران كلها, وفي جبل العرب, وفي الجزيرة السورية, فلم تكن الدولة قد أولت عنايتها إلى مواطنية هؤلاء الناس وحاجاتهم إلى الخدمات المدينية, من كهرباء ومياه شرب وشبكة مجاري صحية, كانوا مايزالون يعيشون الظرف العثماني, ولم يقدم لهم الاستقلال ودولة البعث أي تغيير إلا الشعارات المعلقة على الجدران الطينية البائسة, وهتافات تلاميذ المدارس كل صباح : أمة عربية واحدة, ولم نكن قد وصلنا إلى سورية واحدة بعد, أو حتى حوران عربية واحدة, فقد كان السفر من "جملة " إلى "عابدين" أو "سحم الجولان" مشكلة في حد ذاتها, فأين الباص, أو حتى البيك أب لتحملهم إلى مركز الناحية لقضاء حوائجهم الإدارية, وما أكثرها.
لاحظ أبو مرعي, وهو يقدم لي الشاي أني أكثر من التحديق في البيت الذي سموه لي ببيت المخابرات, وكان بالفعل بيتاً جميلاً يختلف عن بيوت الضيعة اختلافاً واضحاً, فقد كان محاطاً من الخارج بأشجار السرو والكينا, أما من الداخل, فقد ارتفعت صقالة الدالية تحمل نوعين من العنب, وكنت أستغرب, من هو هذا المذوق الذي صنع مثل هذا الجمال في هذه الضيعة التي حرمها الفقر والعزلة من كل جمال, وكأن أبو مرعي أحس بحيرتي, أو ظن أني أعرف, فتنهد, وقال: الله يرحمه, نصحته, وكررت النصيحة: لا تتباه كثيراً , ففي بلدنا لايحبون الرأس التي تعلو فوق رأس المختار, فكيف إن علت فوق الناحية !!!
كان الأول ممن عادوا من الخليج, وربما كان العائد الأول من حوران كلها, كان قد عاش "من نتن فمه" كما يقولون, يأكل أقل القليل, ويوفر, يرضى بأقل الثياب ويوفر, كان مدفوعاً بشيء يشبه الحلم, أن يسكن أمه في بيت يشبه بيت الشيخ الذي يعمل لديه, لم يكن يفكر في الزوجة لماذا؟ ليس من يدري, ولكنها كانت الأم من يريد لها أن تنسى البيت الذي عاشت, وجعلته يعيش فيه السنين, كان السقف يكـِف شتاء, وكانت الشمس تتسرب إليهما في الصيف, وكانت العقارب رعبهما, ولم يكن يحميهما من البرد ولا من الحر شيء, كانت أرملاً تعيش لحلم واحد, أن ترى ابنها وقد أعاد إليها كرامتها التي خسرتها مع غياب زوجها وتخليه عن البيت والزوجة, والضيعة, فلقد سئم الفقر وسئم الليالي الطويلة الأرقة يفكر في حل للأزمة التي يعيشها, ولاحل, وأخيراً وجد الحل "الهجرة" دون أن يدير وجهه ثانية إلى قرية لم يشبع, ولم يـُشبع أهله فيها أبداً, ولكنه لم يترك وراءه حتى الحلم بعودته يوماً إذ ما كاد المساء يحل حتى جاؤوها بجثته قتيلاً, فلقد تصدى لثور هارب يريد إيقافه فنطحه, وكانت القاضية, القاضية على كل شيء حتى على الحلم بالعودة الغانمة, وانضمت إلى سرب اللقاطات والحصادات والغسالات يغسلن جزات الخرفان بعد جزها, وكان الصغيريراقب كل هذا, ويعدها بأنه سينهي كل هذا, وسيعوضها عن كل أيام البؤس هذه, لم يكن يملك الكثير من الكلام, ولكنه كان يملك الحلم, سيهاجر وسيعمل, وسيوفر, وسيبني لها, لأمه, البيت الأجمل في الضيعة, وسيعوضها عن كل هذه الأيام البائسة.
كبر الصبي, وهاجر رغم سيول الدموع التي حاصرته بها, وقضى السنين يعمل ويوفر... وأخيراً عاد, وعلى العكس من أبيه عاد ومعه المال الوفير, والكافي لبناء بيت هو الأجمل ليس في "جملة" فقط بل ربما في حوران كلها, البيت المطل على الوادي الذي لم يجرؤ واحد على تحديه والسكنى على حافته, ولكنه فعلها .
كنت أحدق في البيت, وأتمتم بيني وبين نفسي: يستحق .....أشار أبو مرعي إلى غرفة شبه منعزلة عن البيت, وقال: لقد حولوها إلى معتقل! ولما لم أفهم تابع: كان يجب أن يذبح أضحية للبيت, ولما كان البيت هو الأجمل لذا توجب للأضحية أن تكون الأسمن, فيجب للضيعة أن تظل تذكرها لزمن طويل.
مضينا, فقد طلب مني أن أكون دليله بين الدلالين, وكان هذا كله معقولاً إلى أن رآه ! ولم أملك إلا أن أسأله: من؟ ونظر إلي في دهشة: من؟... كان اسمه "غيمة", وكان مدهشاً بين الجمال, فقد كان أبيض, بل أشد بياضاً مما يحق لجمل أن يكون, حاولت صرفه عنه, فلم يكن قد صار جملاً بعد, كان قعوداً يحتاج إلى سنين حتى يكتسي بما يكفي من اللحم ليصلح أضحية, ولكنه رفض التحرك, هل افتتن به منذ اللحظة الأولى, أم أنه قدره الذي ارتبط به؟ لا جواب.. فقد ظل الأمر غموضاً حتى الآن.
أدرك البائع أنه قد تعلق به, فوضع سعراً يكفي لشراء خمسة جمال للأضاحي, حاولت إبعاده عن القعود, لكنه تسمر, لقد صار أسير الجمل, وكنت أسمع عن هذا, ولكنها المرة الأولى أراها: "أسير الجمال"..
اشترى القعود, وتخلى عن فكرة الأضحية, وكانت هذه هي غلطته الكبرى, فلا يحق للباني أن يبني ولايضحي, فستأكله العيون, وهذا ما سيتم!
بنى للقعود هذه الغرفة, وأشار إلى الغرفة المنعزلة, وأعلى بابها كما يقولون في المثل, لم يعد يكترث للزواج رغم تعرض الكثيرات له, وكان يقضي جل وقته في العناية به, نظافة, وترويضاً, ورعياً في الوادي المحظور, ولكنه كان الأغنى والأكثر عزلة يختلي به, ويحادثه, عم كان يحادثه, ليس من يعرف.
فجأة.. وصلت المخابرات, وكان النقيب شاباً مغروراً, لا يهتم بالسلام على الجيران, ولم يقم بزيارة واحدة للمختار. كان يريد خلق حاجز خوف ورعب بينه وبين الفلاحين, كان قد كلف المساعد بالبحث عن بيت مناسب للفرع, ولما كان البيت الأجمل والأكثر أمناً لعزلته هو بيته فقد مضى المساعد إليه يطلب إخلاءه للمصلحة العامة !
رفض بالطبع التخلي عن البيت وزريبة القعود الذي صار ثنياً, ولما سئل عن السبب, وهل هو ضد المصلحة العامة, أي ضد النظام تلعثم, فلم يكن هذا كله ما يخطر على باله, وتطوع أحدهم, فسرب للمساعد ما تعرفه الضيعة عن تعلقه بجمله "الغيمة", ضحك النقيب من سخافة الفلاحين: يغامر بإغضاب المخابرات من أجل جمل ! وأمر المساعد بقتل الجمل: أقتله؟ طبعاً.. ألا يتسلل إلى أملاك الدولة في الوادي! اقتله, وسيأكل أهل الضيعة اللحم, وسيرتاح من العناية المكلفة بهذا الحيوان !
أطلقوا النار على الجمل مع الغروب, ولكنهم لم يصيبوه في مقتل, ففر يرغي في ألم إلى الوادي, أما صاحبنا فقد هاجمهم في غضب, ولم يكونوا في حاجة إلى أكثر من هذا العذر ليردوه مخترقاً بعشرات الطلقات.
احتل النقيب البيت, وحول الغرفة المعزولة إلى سجن توقيف, وكان هذا آخر ما يحلم به مجنون الغيمة, اختفى القعود, وكان العض يقولون إنه مات, والبعض يزعم أنه رآه في الوادي يرعى, ويخور في حزن.. هل عرف بموت صديقه عاشق الجمال.
فجأة خرج القعود عن صمته الطويل, هل أهاجته صرخات الموقوفين في زريبته ؟ هل أغضبه أن لم يعد يرى صديقه في الوادي؟ ليس من جواب, ولكن كل ما يعرف أهالي "جملة" أنهم انتبهوا على "الغيمة" يهاجم المساعد فيعضه العضة القاتلة, ويهاجم النقيب وجلاديه في البيت مجبراً إياهم على القفز إلى الوادي حيث المجهول.....
خيري الذهبي
[email protected]
08-أيار-2021
06-شباط-2021 | |
28-تشرين الثاني-2020 | |
22-آب-2020 | |
15-آب-2020 | |
09-أيار-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |