"من يخاف فرجينيا وولف" لإدوارد آلبي: ذلك الحلم وأوهامه / إبراهيم العريس
2013-03-24
كان أمراً يحمل كل دلالاته، بالتأكيد، أن يكون إدوارد آلبي كتب معظم مسرحياته الكبرى، خلال النصف الأول من ستينات القرن العشرين. ذلك أن معظم تلك المسرحيات كان يتعامل مع قضية الحلم الأميركي وخواء ذلك الحلم إن لم يكن مع قضية اكتشاف أنه كان في الأصل أكذوبة تتراوح بين الوهم والكابوس. ونعرف أن تلك السنوات عرفت انبعاث واقع وعي أميركي جديد، بعد انقضاء آخر الآثار الإيجابية للحقبة الروزفلتية واستشراء الحرب الباردة. ففي ذلك الحين اكتشف الأميركيون أن هيمنتهم «الأخلاقية» على العالم كانت خرافة، وأن بلدهم يعج بالمشكلات الداخلية وسط عار الماكارثية وصعود أخطار التسلح النووي. وفي ذلك الحين أيضاً بدأ أميركيون كثر يتساءلون لماذا يكرههم العالم. وكان من آثار ذلك أن راحت الفنون والآداب تمعن في سوداويتها وفي تصوير المجتمع الأميركي في شكل يختلف عن الصورة الزاهية التي كانت استشرت بعد انقضاء مرحلة الشح الاقتصادي، وزهو الانتصار على العالم، وقهر النازية في الحرب العالمية الثانية. وفي تلك الأثناء كان شعراء البيتنكس (والبيت جينرايشن) بدأوا يطرحون أسئلتهم. من هنا، كان من الطبيعي أن تعود إلى الواجهة أعمال مسرحيين من طينة آرثر ميلر وتنيسي ويليامز، طارحة أسئلة شاقة وحارقة حول الإنسان الأميركي، لا سيما حول الطبقة الوسطى التي كانت هي المروّج الأول للحلم الأميركي وصاحبته. ولم يكن إدوارد آلبي سوى المكمل الطبيعي لمسيرة ميلر وويليامز، خصوصاً في مسرحياته التي كتبها خلال النصف الأول من سنوات الستين.
> إذا كان آلبي توج توجهه ذلك بكتابة المسرحية التي تعتبر اليوم من أشهر أعماله، ومن أهم ما أنتجه الفكر المسرحي الأميركي في ذلك الحين، «من يخاف فيرجينيا وولف؟»، فإنه في الحقيقة كان بدأها بكتابة أعمال مسرحية قصيرة عدة مثل «حكاية حديقة الحيوان» (1959) و «الحلم الأميركي» (1961). ما جعل «من يخاف فرجينيا وولف؟» تأتي في سياق طبيعي في عام 1962، لتفجر شيئاً ما في المسرح الأميركي، ولتكشف خواء شيء ما في الحياة الأميركية نفسها. في «حكاية حديقة الحيوان» التي كانت أول مسرحية له، عالج آلبي مسألة الفرد الأميركي وإحباطاته. ثم في «الحلم الأميركي» وسّع نطاق اهتمامه ليشمل التصدي إلى ما آل إليه وضع بعض أكثر المؤسسات الأميركية مدعاة للاحترام: العائلة، الأمومة، الحب الزوجي. وكشف آلبي هنا عن أنه لا يرى أميركا إلا بصفتها ثقافة منهارة تساندها، بيأس، مؤسسات عقيمة. وهو إذا كان حاول «فضح» البورجوازية الأميركية المتوسطة في «الحلم الأميركي»، فإنه في عمله التالي «من يخاف فرجينيا وولف؟» وسّع من جديد دائرة معركته لتشمل هذه المرة الشريحة المثقفة في أميركا. وكان من الأمور الدلالة ذاتها أن يجعل من هذه المسرحية أول مسرحية طويلة له. والحقيقة أن هذه المسرحية وصلت إلى جمهورها بسرعة وصدمت كل الناس من خلال التركيز على زوجين لا يرتكز استمرار زواجهما إلا على الكذب المتبادل من ناحية، والتشابه في ما بينهما في مجال الرغبة في التدمير الذاتي، عبر الصراع اللفظي ولكن، أيضاً عبر الصراع الجسدي. والحقيقة أن هذا العنف الخاص الذي خيض على خشبة المسرح، كان هو الذي أوحى لمبدعين أميركيين آخرين بأعمال تمحورت جميعها حول تحويل الصراع الصامت والحميم، عادة، بين الزوجين، إلى لعبة استعراضية يصل العنف فيها إلى أقصاه. وفي هذا الإطار يمكن القول إن آلبي كان رائداً، في شكل أو في آخر.
> منذ البداية عرّف إدوارد آلبي مسرحيته بأنها «دراما واقعية في ثلاثة فصول»، محدداً أنها لعبة مرح وصراع حول مسألة الحياة الزوجية وطقوسها، بين جورج أستاذ التاريخ في جامعة مدينة «نيوكارتاج»، ومارتا زوجته وابنة عميد الكلية. تبدأ المسرحية مع عودة جورج متأخراً إلى البيت بعد حفل حضره في الكلية ليفاجأ بأن مارتا قد دعت إلى العشاء زوجين من أصدقائهما هما نيك، أستاذ العلوم في الكلية نفسها وزوجته هاني. وعلى الفور يبدو على جورج أنه غير سعيد بتلك الدعوة. وهو سرعان ما يبدأ التعبير عن غيظه عبر تبادل العبارات الغامزة اللامزة مع زوجته، في قالب يبدو أول الأمر طريفاً، ومألوفاً بينهما... ولكن، مع تقدم الوقت تتحول العبارات المتبادلة إلى ألفاظ جارحة عنيفة، ويتحول ما كان يبدو أول الأمر مرحاً ومزاحاً، إلى شتائم وعبارات نابية... في الوقت الذي ينخرط الزوجان الآخران في اللعبة نفسها. وإذ يبدأ الضرب اللفظي بالتحول إلى ضرب تحت الحزام، يلوح على مارتا أنها باتت راغبة في قول ما لا يمكن قوله، على رغم تحذيرات جورج الغاضبة والمهددة... ثم تبوح بالسر، الذي لم يكن أي منهما قد كشفه من قبل: تقول إن لهما ولداً... وتقول إن وجود هذا الولد هو الذي عزز دائماً وجودهما معاً. وإذ «تكشف» مارتا هذا «السر» يتصاعد الصراع الكلامي ليتحول إلى فضح متبادل لا تحدّه حدود، وخصوصاً حين تحدث مارتا جورج عن روايته التي لم تنشر، وتبدأ بمحاولة إغواء نيك. هنا، يبدي جورج اللامبالاة بها وبإغرائها للضيف، ما يدفعها فعلاً إلى اصطحاب نيك إلى فراشها، لكن نيك يعجز عن أن يفعل... ما يشعر جورج بزهو الانتصار ويدفعه إلى مواصلة هجومه: يخترع برقية يقول إنه كان يخفيها عن مارتا... وفي البرقية خبر بأن ابنهما قد مات. وأمام هذا «الخبر» تنهار مارتا كلياً، خصوصاً أن جورج كان قبل «كشف هذا السر الجديد» قد دفع مارتا إلى سيل من الكلام العنيف والفاضح حول حياة ذلك الابن. هكذا، تتحول البرقية لتصبح ضربة قاضية لمارتا وما يكشف بالتالي لنيك المصدوم إزاء هذا كله، أن حكاية الابن أصلاً حكاية وهمية صنعها خيال الزوجين من أجل إيجاد دعامة لوجودهما معاً. هذا الابن إذاً، لا وجود له، وهو بالتالي لم يمت. ومع هذا ها هي مارتا منهارة تماماً تنعى الابن وتبكيه. وأمام هذا التطور لا يعود أمام نيك وهاني، إلا أن يغادرا بيت مضيفيهما وقد عرّاهما ما حدث وما عاشاه خلال الساعات السابقة. أما مارتا وجورج فإنهما يبقيان وحدهما ينعيان الابن ويبكيانه... ثم وبالتدريج يبدآن القبول بموت الابن الوهمي الذي خلقاه من عدم، ليجد الجمهور نفسه أمام إمكان أن يعود الزوجان لبدء حياة جديدة، وقد قتلا الوهم الذي كان جعل حياتهما كذباً مشتركاً قائماً على حلم مستحيل.
> الحقيقة أن هذه النهاية التي بدت بالنسبة إلى بعض النقاد سوداوية متشائمة حين عرضت «من يخاف فرجينيا وولف؟» للمرة الأولى في عام 1962، سرعان ما بدت بالنسبة إلى كثر منهم إيجابية، على ضوء تلقي الجمهور لها... هذا الجمهور الذي نظر إلى زوال الوهم وبقاء الزوجين معاً بعد «موت» الابن علامة على نضوجهما وتوجههما، منذ الآن، إلى حياة واقعية لا تقوم على أوهام.
> وإدوارد آلبي قبِل يومها هذا التفسير من دون أن يعزّزه كثيراً، هو الذي ما كانت تهمّه النهاية بمقدار ما كان يهمه تصوير ذلك الوهم وتأثيره في حياة زوجين ينتميان إلى شريحة شديدة الخصوصية من الطبقة الوسطى الأميركية. وكان آلبي في ذلك الحين يميل إلى توزيع القضايا الشائكة على مسرحياته. فمثلاً في مسرحية «موت بيسي سميث» (1960) نراه يتحدث عن التمييز العنصري الذي يجعل مغنية زنجية كبيرة تموت على باب مستشفى رفض استقبالها لمجرد أنها سوداء. كما أنه في مسرحية لاحقة له هي «كل شيء في الحديقة» صوّر السقوط الأخلاقي لزوجات من الضواحي وجدن في قضاء بعض الوقت في مواخير المدينة، فرصة لتحسين أوضاعهن الاقتصادية لا أكثر. وإدوارد آلبي المولود عام 1928 تمكن بمثل هذه الأعمال من أن يجعل نفسه منذ الستينات أحد أعمدة الكتابة المسرحية الأميركية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مع العلم أن «من يخاف فرجينيا وولف؟» حققت شعبية عالمية أيضاً إذ حُوّلت إلى فيلم سينمائي قام بالدورين الرئيسيين فيه إليزابيث تايلور وريتشارد بورتون.
عن جريدة الحياة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |