عن الرحلة في شعر المتنبي أ.د. إبراهيم خليل
2013-03-26
المتنبّي شاعر العربيّة الكبير الذي عاش، وتوفّي، في القرن الرابع الهجري، وطافَ في أرْجاء الوطن العربي، والعالم الإسْلاميّ: من الأهواز، وجرجان، شرقًا إلى مصْر غربًا، مرورًا بحمْص، وحلب، والرملة ،وسائر فلسطين، واستقر ردحًا من الزمن في حلبَ، نزيلا ببلاط سيف الدولة الذي جمع الكثير من علماء اللغة، من أمثال: ابن خالوية، وابن جني، والفلاسفة من أمثال الفارابي، فضلا عن الشعراء الذين نبغوا في ذلك العصر، وعلى رأسهم بالطبع أبو فراس الحمداني، ابن عم سيف الدولة، وأحد منافسي المتنبي في ذلك البلاط. هذا الشاعر الذي عُرف بكثرة التجوال، والترحال، وكأنه يبحث عن غاية منشودة، أوْ ضالة مفقودة.
جذب أنظار المعاصرين الذين اتخذوا من شعره مصدر إلهام، وَوَحْي، ومن رحلاته المتكرّرة رمزا للبحث عن الذي يأتي ولا يأتي، ولا سيما رحلته إلى مصر التي جرى توَظيفها في قصائد مشهورة كقصيدة أمل دنقل الموسومة بعنوان ' من مذكرات المتنبي في مصر ' وهي في ديوانه ' البكاء بين يدي زرقاء اليمامة '(1968) وقصيدة محمود درويش ' رحلة المتنبي إلى مصر ' وهي في ديوانه ' حصار لمدائح البحر ' (1986) هذا الرحيل جذبَ انتباه د. منتصر الغضنفري من جامعة الموصل، ولفت نظره إلى أهمية هذه الرحلات، فأراد الوقوف عندها وقفة الباحث المتأني، والدارس الرصين المُسْتقصي، فكانت ثمرة هذا الوقوف كتابًا صدر حديثا عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع بعنوان ' الرحلة في شعر المتنبي ' 2012.
يستوقفُ الباحثَ سؤالٌ، وهو ما الذي يدعو المتنبي، الشاعر الكبير، للارتحال المستمرّ، والتجوال الدائِب، وهلْ ثمة دوافع محددة دفعت به لذلك، وإن كانت ثمة دوافع فما هي؟ وهل هي دوافع موجودة حقًا ولها جذور في حياته، وشخصيته، أم أنها فرضيّات تنطق بها ألسنة الباحثين، وتتناوبُ عليها أقلام الدارسين والمؤرخين؟
في تمهيده للكتاب يجيب عن هذا السؤال القديم، المتجدّد، بادئا بالإشارة للغموض الذي يكتنف شخصية الشاعر الكبير. فنحنُ لا نعرف عن أبيه شيئا يُذكر، فبعض الإخباريين ذكروا أنه أحمد بن الحسين، وذكر بعضهم أن أباه كان سقاءً في جوامع الكوفة، وهذا ضربٌ باطلٌ من الظن؛ فلم نجد في من هجوه منْ عابَ عليه النسب الوضيع، وأن أباه هو عبدان السقاء. وأمه لا نعرف عنها إلا أنها توفيت وهو رضيع، أو في أثناء الولادة. والجدة التي كفلته هي الأخرى معلوماتنا عنها لا تتخطى ما ذكره من صفاتها في قصيدة الرثاء المشهورة، التي خالف فيها قواعد الشعر، والنظم، فافتخرَ بنفسِهِ بدلا من البكاءِ على الجدَّة المتوفاة:
لئن لذَّ يومُ الشامتين بيومها فقد ولدتْ منّي لأنْفسِهمْ رغمًا
هذا الغموضُ في أخبار المتنبي، ربّما كان أحدَ الأسباب التي أحاطت شاعريته بضرب من السحر الذي يحاول الدارسون، على مرّ الزمن، حلّ لغزه. فمنهم من ادعى أنه ينحدر من أحد الأئمة الإثنى عشْرية، ولكنَّ مثل هذا الافتراض لا يؤيده أي دليل تاريخي، على الرغم من أنّ بعض الإشارات في شعره توحي بهذا. ولهذا يجد المؤلف الغضنفري مسوّغا لاستبعاد الغوص في سيرة المتنبي، منتقلا - مباشرة - للحديث عن دوافع الارتحال، وهي ، عنده، لا تعدو الدوافع المعهودة لدى بني الناس: كالاغتراب، والتطلع للمَجْد، والولاية، والإمارة (الاستشراف) والمرأة، بما يعهد عنها من استقرار يلزم الرجل- الزوج بالإقامة في مكان معيّن، والاستكانة فيه، وفي حياة المتنبي ثلاثُ من النساء لا يبدو أنّ لهن تأثيرًا كبيرًا، وهنَّ: الأمُّ التي فقدها صغيرًا، والجدّة التي فقدها بأُخَرَةٍ منْ عمره، والحبيبة التي لا يظن أنّ للمتنبي حكايات غرامية مشبوبة كتلك التي عرفت عن عمر بن أبي ربيعة مثلا، أو أبي نواس، أو شعراء الغزل الصريح والعذري. ذكر بعضهم أنه عشق خولة، شقيقة سيف الدولة، واستشهدوا لتأكيد ذلك بأبيات من شعره، وبأخرى في رثائه لها، وجل ذلك لا يقنع القارئ بأن المتنبي عاشق أضْناه الهَوى، وأنطقه الحبّ بالرقيق من الغزل والنسيب. ومع هذا فإنّ مثل هذه الفرضية تسوغ لنا، وللباحث، الاعتقاد بأنّ خلوَّ حياته من شوق المحبّين هو أحدُ البواعث المهمة التي تكمن في حرصه الدائب على الرحيل، والسفر، والتنقل من مكان لآخر، ومن بلاط أمير لبلاط أميرٍ ثانٍ. وأخيرًا لا يفوتُ الباحثَ أن يشير لموْقع المال، ودوره في كثرة سعي الشاعر الكبير للغنى، فضلا عن كثرة الحاسدين، والوشاة، فلولاهم لاستقرَّ في مصر، أو في حلب،فهو يعبر عن ذلك ببيت من قصيدة له مشهورة:
لا أقتري بلدًا إلا على غَرَرٍ ولا أمُرُّ بخلْقٍ غيْر مُضْطغِنِ
أي أنه لا يتخذ بلدًا مُسْتقرًا حتى يُغادره، ولا يمرّ بأحدٍ من الناس إلا وجدَهُ له حاسدا، وعليه حاقدًا، لذا فهو لا يقرّ في مكان. وهذا كله لا يُقللُ منْ أثر نزعة الفروسيّة التي اتصف بها وهي من الخِصال الراسِخة في شخصية المتنبي، والشيم التي طبعت عليها شخصيَّتهُ وفطرت، وهيَ نزْعة جعلتْ منه فارسًا يعشق الحرب، مثلما يعْشق الطرَدَ، والصيد؛ والأمْران: الحرب والصيد، كلاهما، يتطلب الحركة، والأسفار، بدلا من الثبات والاستقرار.
فرضَ الرحيلُ على المتنبي إذًاً أنْ يلتفت في شعْره لعناصر معينة يسميها الباحث عناصر الرحلة، كالخيْل التي برع في وصفها براعة قل نظيرها في الشعر العربي، قديمه، ومتأخره، إلا من شاعر واحد جاهليّ هو طفيل الغنوي. والتفت أيضًا للإبل، فلم يترك فيها شيئا إلا وصفه وصفًا يغالب فيه شعراءَ الجاهلية، ولا عجب في هذا؛ فالمتنبي الذي نشأ في ربوع بني كلب طبع على البداوة، وموضوع الإبل، ووصفها، ليس غريبًا على شعره، أو مستهجنا أن يبدع فيه، ويتفوق على غيره. ولهذا يجد الدارسون في قصائده الكثير جدًا من الألفاظ، والنعوت، البدوية، التي تغيب عن شعر أبناء الحضر، والمدن، كذكره: النسوع، والمشفر، والكور، والزمام، والمقود، والمهمه، والعرمس، والعذافرة، والضفور، ومشي الخيزلى، والناجية، والنواجي، والجاوية، والعَنْتريس، وغير ذلك من ألفاظ تعَدُّ من غريب الإبل، وحوشيّ البداوة. والرحلة أيضًا تتطلبُ الالتفات للطبيعة من صَحْراء، ورمال حارة في القيظ، ومنْ أوْديَةٍ، وشِعاب، قال في شعب بوان:
مغاني الشعب طيبا بالمغاني بمنزلة الربيع من الزمان
والتفت أيضًا لوعورة الطّرُق، ولثلوج لبنان التي فاجأته في أثناء توجّهه من حلب إلى مصر:
لبَسَ الثلوجُ بها عليَّ مسالكي فكأنّـــها ببياضِها ســــــــــوداءُ
ولا ينسى المتنبي أنْ يذكر في أثناء القصيدة من رافقه في السفر، كالخدم، والعبيد، والفرسان، الذين كانوا يصاحبونه في التنقل من بلد لبلد، ومن قطر لقطر. وتلفّت كذلك للظروف التي تحيط بالرحلة، نفسيّة، وماديّة. وبمختصر القول يتتبع الغضنفري بصبر، وَجَلَدٍ، عناصر الرحلة، تتبُّعًا يقظاً ذاكرًا الكثير من شواهد الشعر التي تعطي القارئ فكرة أوضح، وصورةً أبلغَ من أيّ تحليل نقدي، أو رصْدٍ معرفي.
وإذا كانَ الشيءُ بالشيء يُذكر، فإن القصيدة العربية عرفت موضوع الرحلة منذ الجاهلية. وقد صنفت في ذلك كتب من أكثرها وفرة بالشواهد، ونفاذا في الموضوع، كتاب ' الرحلة في القصيدة الجاهلية ' لوهب رومية. والمعروف أن الرحلة في القصيدة الجاهلية نشأت لأسباب معروفة جدا، قد لا يكون المتنبي ممن يأخذون بها أخذًا مباشرًا. فقد كان الشعراء يشدون الرحال على ظهور الإبل من البادية إلى حاضرة الممدوح، فيطنبون في وَصْف الطريق، ويُسْهبونَ في الحديث عما لاقوه في الرحْلة من مَشقةٍ، والهدف من هذا كله واضحٌ، بالطبع، وهو أن تستثار أرْيحيّة الممدوح، فيجزل للشاعر عطاءه، ويزيد من حجْم المكافأة. والمتنبي، على الرغم من تباين أهدافه عن أهداف الشاعر الجاهلي، فإنّ المرء لا يستطيع تبرئته تمامًا من هذا الغرض. فقد خاطب سيف الدولة قائلا:
أجزني إذا أنشدتَ شعْرًا فإنــــــــــما بشعري أتاك المادِحــــــونَ مردَّدا
وهو الذي يخاطـبُ كافـــــــــورًا :
أبا المسْك هل في الكأس فضل أنالهُ فإنـــّي أغنّـي منذُ حيـنٍ وَتشْــرَبُ
كانَ المتنبي يطمَعُ أن يقتطعه ممْدوحوهُ ولاية، أو إمارة، وقد ظنَّ أنّ من حقه أن يكون واليًا، ولهذا يخاطبُ كافورًا بصراحة، موضّحًا مطلبه من قدومِه لمِصْر في قوله:
وغيْر كثيرٍ أنْ يزورَك راجلٌ فيرجعَ مَلْـكًا للعـراقين والــيًا
وإذا تجاوزنا أبعاد الرحلة من زمان، ومكان، خلصنا إلى الموضوع الرئيس في هذا الكتاب، وهو ما يسميه المؤلف كعادة المدرّسين- ' الخصائص ' الفنية لقصيدة الرحلة عند المتنبي. ومن هذه الخصائص التي توقف عندها الغضنفري ما في شعره من اللفظ الغريب. والأمثلة على هذا كثيرة أورد المؤلف ما يكفي منها لتوضيح رأيه، وتأكيده. ويتتبَّعُ، أسوة بتتبعه الألفاظ ، التراكيبَ، فيرى أنه يراوح بين نوعين من الجمل؛ الاسمي والفعلي، مثلما يراوح بين الإنشاء والخبر. وهذه المزيّة- في رأينا - مما يتصف به شعر المتنبي، سواءٌ أكان في الرحلة، أم في غيرها. وفي هذا جانبَ المؤلفَ التوفيقُ، وتجاوزه التدقيقُ والتحقيق. أما الصورة التي أحالنا حديثه عنها إلى كتاب الرباعي عن أبي تمام والصورة، فأقربُ إلى التحليل الذي يختصُّ بالمتنبي، فهو من الشعراء الذين برعوا في اختراع الصورة الحيوية، الجديدة، المبتكرة، التي تبعث الشعور بالدهشة، كقوله في رثاء شقيقة سيف الدولة:
حتى إذا لم يدعْ تصديقُهُ أمــــــــــلا شرقتُ بالدمْع حتى كاد يشرَقُ بي
وقوله في مطاردة سيف الدولة لبني كلاب:
وتسْـــــــألُ عنْـهُمُ الأمــــواهَ حتّــى تخــــــــــــــوّف أنْ تفـتــشَهُ السّــــــــــــــراب ُ
وقد أفاضَ المؤلف في تحليل الصور الجديدة التي تمتلئ بها قصيدته في شعب بوان، مبيّنا ما فيها من تصوير مبتكر، يضفي على الاستعارة، والتشبيه، معنىً جديدًا، فهي تشبيهاتٌ، واستعاراتٌ، تلتفّ وتتشابك في الصورة كتشابك النسيج في الديباج الخسْروانيّ، وفي هذا منتهى الإبْداع، الذي تشرئب نحوهُ الأسماع، وتهفو له القلوب والأرواح:
غدونا تنفض الأغصانُ فيـــــــــــــــــه على أعرافــــها مثلَ الجمــــــــــــــــــانِ
فسرت وقد حجبْن الشمس عنّــــي وجئنَ من الضــــياء بمـا كفاني
وألقى الشـــرق منها في ثيابــــــــــــي دنانيــــــــــــــــــــرًا تفـــــــــرّ مـن البـــنانِ
صفوة القوْل أنّ في هذا الكتاب صورةً جديدَةً للمتنبي تضافُ لهاتيك الصور التي نجدها في مصنفات أخرى عن هذا الشاعر الكبير، فهو كتابٌ يستبعدُ الأفكار المَكْرورَة ، ويتجنَّب الوقوع في فلك الروايات المتناقضة عن أخبار الشاعر، والاجتهادات التي لا تتصلُ بالشعر إلا من بعيد، فهو يولي النصوص أهمية تضارع أهميّة الحواشي، إنْ لم تكنْ أكْبر، وأحرى بالانتباه، وأجْدَر. وإذا كانَ لا بُدَّ منْ بعض الملاحظ على هذا الكتاب، فإن ذلك يقتصرُ على التنبيه لبعض الأخطاء التي نتجتْ- بلا ريب- عن السهو، أو التسرع، فقد ذكر شرح اليازجي لديوان المتنبي، وَسَمّاهُ: ' ديوان المتنبي بشرح العرف الطيب' وقد اسْتغربْنا منْه هذا، لأنّ العنوان غيرُ مُسْتقيم، فضلا عن أنه غيْرُ دقيق، فالصّحيحُ هوَ ' العَرْفُ الطيب في شرح ديوان أبي الطيب ' وقد خلط المؤلفُ في بعض المواقع بين الغربة، والاغتراب، ولكنه في مواقع أخرى ميّز بيّنهما، وفرَّق بين دلالتيهما، وأصابَ عندما وصف المتنبي بالشاعر الذي يعاني الاغتراب لا الغربة.
عن القدس العربي.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |