ضفائر..
خاص ألف
2013-03-31
لم يكن خبراً ساراً بالنسبة إلى مها قرار أبيها برفع السور شبراً إضافياً..لم يكن يحجب فقط عيون الجيران عنها.. بل كان ..يسور زيتون عينيها..ويمنع أغصانهما من ملامسة الشمس..كانت تشعر أنها أميرة مسجونة في برج عال..لذلك كانت ترفض أن يمتد مقص إلى ضفائرها..لم تستطع أمها تحت أي ظرف أن تقنعها بقص سنتميتر واحد منه..وفي كل معركة بينهما تخرج أمها خاسرة ..متسائلة من أين ورثت ابنتها كل ذلك العناد..لم تبح مها لأحد بحلمها الذي كانت تتشبث به..سيأتي فارسها يوماً ما وستمد له ضفائرها كما في الحكاية.. لم يكن أحد يستطيع أن يلجم خيالها..أو يتعرف طريقتها الخاصة في جس نبض الحياة..تتذكر جيداً..كيف كانت تستيقظ على منبهها المعتاد: طرقات عكاز (الحزوري)..يتبصر بها طريقه إلى (مسجد الأنوار) لرفع أذان الفجر..كم كانت تطرب لصوته الرخيم..الذي كان يبدد كتل الصمت الثقيلة..وينزل على خافقها الذي يلهج كعصفور خوفاً من العتمة.. سكينة وسلاماً..وماإن يفرغ المؤذن من أذانه..حتى تبدأ (الطرنبة) بضخ مياهها لسقاية حقول الجزر الممتدة خلف سكة القطار..يتخللها صوت الفلاحات وقهقهاتهن..فتعبر رائحة الأعشاب العالقة بأحذيتهن إلى أنفها..لتوقظ ذاكرتها الفتية..تعرف هذه الرائحة جيداً..عندما كانت تمسك كف أبيها الضخمة..ويسير بها باتجاه البساتين لجمع (الخبيزة) المبعثرة على أطراف الساقية المتفرعة عن نهر العاصي..وفي طريق العودة..كانت تراقب تل (باباعمرو) وهو يبتلع الشمس في بطنه كالحوت..في طفولتها تلك..كانت( باباعمرو) بالنسبة إليها كالمحارة..تقربها من أذنها بشغف...لتصغي إلى خليط لانهائي من الأصوات..كانت (باباعمرو) تبدوكطفلة لاتكبر..تسير الحياة فيها بإيقاع متناغم..أشبه بتعاقب الليل والنهار.. لايتوقع له أن يختل إلا بمعجزة..أو بمشيئة إلهية..كلما كبرت مها شبراً..كانت الأسوار تزداد ارتفاعاً..بينما تصبح بعض الأصوات المبهمة أكثر وضوحاً...لم تكن تفهم سر تلك الصرخات التي كانت تشق جوف الليل.. أحياناً كانت تشبه عواء ذئب مكلوم..وتتراوح أحياناً بين اليأس واستجداء الشفقة أو الأنين....إلى أن مرت صدفة أمام ذلك المنزل الفقير في (حارة المجدرة)..ورأت مشهداً لم يفارقها بعد ذلك أبداً. (علي) المجنون.. مقيداً بسلسلة حديدية مربوطة بمقبض باب الدار..السلسة القصيرة لاتسمح له إلا بالدوران حول نفسه..رائحة كريهة تملأ الدائرة حوله.. حبات البرغل التي لم يحسن التقاطها بفمه..اختلطت ببوله وغائطه..التقت عينا المجنون بعيني مها..لن تنسى ماحييت تلك النظرة..ستظل تنهش من روحها طويلاً..كان يلهث متعباً بعد نوبة من الصراخ كحيوان جريح....جمد الدم في عروقها..وتيبس حلقها..وشعرت كأنما قدميها قد دقتا بمسامير في الأرض.. عندما هم المجنون بالاقتراب..جفلت. وهرولت مسرعة..وكأن أسوار العالم قد أطبقت على صدرها..مع كل فجر..كانت تطل عيناه بتلك النظرة..تهاجمها بلاهوادة..تحت اللحاف..في الزوايا المعتمة..في عتبة الدرج..في دهاليز المنزل..في الخزانة..بين الملابس...لم يمر وقت طويل..حتى اختفت صرخاته..وسمعت المؤذن ينادي:ياإخوان ..أخوكن علي ابن بدرية..انتقل إلى رحمة الله..وعلى روحه الفاااااتحة..
تمتمت مها بالفاتحة..ودموعها تنهمر بغزارة..حدثتها أمها في ذلك اليوم..كيف استطاع
(علي )أن يفك السلسة ويفرهارباً..
على سكة القطار..كان يرقص فرحاً بكل ماأوتي من جنون..حتى قيل إنها المرة الأولى التي رآه الناس فيها ضاحكاً..لكنها كانت الأخيرة..فقد دهس تحت عجلات القطار..حتى التصق لحمه بالسكة..هرب (علي )من أسره..لكنه ظل مستوطناً ذاكرة مها..مقيداً روحها بذات السلسة...وظلت ذكراه تهاجم مخيلتها في أغلب الأوقات ..إلى أن استيقظ أهل الحي ذات يوم.. على حدث غريب.. شجرة تجاوز طولها المترين نبتت على قبر (علي) مابين ليلة وضحاها..أصيب الناس بالذهول.. ونسجواعنها القصص والحكايا..وأقبل الناس للتبرك بها من كل حدب وصوب..وعلى جذعها علق اليائسون واليائسات رجاءهم وأمنياتهم..فماكان من الشيخ (معن)..إلا أن سارع إلى قطعها..قبل أن تتحول إلى فتنة..لكنه لم يستطع منع الناس من تناقل تلك القصة..معتبرين أن تلك الشجرة تحمل رسالة ما..لكن أحدا لم يتمكن من التنبؤ بها..ومابين الموت غرقاً في الساقية ..أو دهساً تحت عجلات القطار...مابين النبوءات والقصص الغريبة....ضاقت الشوارع..واتسعت المقبرة...وبدأت مها تشعر كما لو أن الزمن لايمر على باباعمرو.كما يمر على غيرها...لكنه ترك قطاره فقط..يزرع الموت في طريقه....باغتتها كل تلك الذكريات..وهي تقلب الجريدة المغمسة بدم أهلها ..صور البيوت المهدمةكانت تحول قلبها إلى فتات.أسماء الشوارع الضيقة التي تحفظها عن ظهر غيب..باتت عناوين عريضة في الصحف..لم تغير السنون الطويلة..تلك الوجوه البائسة التي عرفتها .لكنها لطالما كانت بانتظار تلك اللحظة...فمازال لديها حلمها...و مازالت تحتفظ بضفائرها..
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |