"أغنية الأرض" لغوستاف ماهلر: كآبة ذات منبع صينيّ / إبراهيم العريس
2013-04-12
هل في أية حال من الأحوال على من يستمع الى «أغنية الأرض» للموسيقي النمسوي غوستاف ماهلر، أن يدرك أنها مستقاة تلحينياً وفي شكل مباشر من قصيدتين صينيتين تعودان الى القرن الثامن الميلادي. وهما كما يقول لنا الخبراء الدارسون، قصيدتان تنتميان الى مجموعة تعرف باسم «الناي الصيني» تنسب، عادة الى الشاعرين ليتاي - بو وتشانغ - سي. إذ، وإن كان ماهلر بدا متأثراً بالفنون الصينية خلال المرحلة الأخيرة من حياته، فإن - خارج اطار الجزءين الثالث والرابع من «أغنية الأرض»، حيث يحسّ الخبير شرط ان يدقّق السمع بأن ماهلر يستخدم سلّماً موسيقياً صينياً - من الصعب العثور على أية ملامح غرائبية أو استشراقية في ذلك العمل. ومع هذا، اذا وثقنا في كلام المايسترو برونو والتر، الذي كان أول من قدم هذا العمل في عام 1911 في فيينا، بعد ستة أشهر من رحيل ماهلر عن عالمنا، ربما ندرك ان هذا السلّم، ذا الموضوعة الهابطة «لا - سول - مي»، يهيمن على العمل ككل، ولكن في شكل مخفّف، بالكاد يظهر واضحاً وتظهر، بالتالي جذوره.
> مهما يكن من أمر هنا، لا بد من ان نشير منذ البداية الى ان هذا الاقتراب الموسيقي من عالم الشرق الأقصى، ليس، على أية حال، أهم ما في هذا العمل، الذي يعتبر آخر عمل مكتمل تركه ماهلر. الأهم هنا هو ذلك المزج الخلاق الذي اعتمده الموسيقي بين البعد السيمفوني والأغنية. لقد كان المزج من الحضور، الى درجة ان بعض الباحثين في موسيقى غوستاف ماهلر، يرى أن «أغنية الأرض» يصح ان تعتبر بمثابة «سيمفونية ماهلر الحادية عشرة». والحقيقة ان هذا الكلام قد يبدو للوهلة الأولى، حاملاً شيئاً من المغالاة، ولا سيما بالنسبة الى خبراء يفرّقون تماماً بين السيمفونية والأغنية... لكن العارفين جيداً بموسيقى ماهلر، يدركون ان الرجل عرف على الدوام كيف يقارب بين الفنين، هو الذي لم يجرب حظه في غيرهما طوال حياته الابداعية القصيرة، حيث ان عمله الموسيقي في مجمله، لم ينقسم إلا الى سيمفونيات وأغنيات.
> إذاً، لا بد من الإقرار بسرعة هنا بأن «أغنية الأرض» قطعة ابداعية استقاها ماهلر أصلاً من الشعر الصيني، وجعل مناخاً موسيقياً صينياً خفيّاً يهيمن عليها. غير ان العمل ينتمي في الوقت نفسه الى عالم الحداثة الغربية كما عبّر عنه ماهلر بقوة، ولا سيما خلال السنوات الأخيرة من حياته. ونعرف طبعاً انطلاقاً من سيرة ماهلر ان الفنان كتب هذا العمل خلال العامين 1908 - 1909، حتى وإن كان لم يقدّمه أحد في حفل عام إلا بعد رحيل صاحبه. ومن الناحية الأدائية نعرف ان العمل كتب أصلاً لصوتين، أحدهما «كونترالتو» (أو باريتون في بعض الأحيان) والثاني «تينور»، وللأوركسترا. ويؤكد لنا برونو والتر، ان الطابع الاوركسترالي للعمل لا ينبع من اسلوبه وتوزيعه، بقدر ما ينبع من ضخامة الاهتمام الذي خصّه ماهلر فيه بالجانب الأوركسترالي، وبالطريقة التي يتطور بها التصعيد (الكريشندو المتدرج) حتى النهاية.
> لقد أكد والتر نفسه كذلك، أن هذا العمل انما أتى في نهاية حياة ماهلر كخلاصة لأسلوبه الذي وحّد دائماً بين النيوكلاسيكية والنيورومنطيقية، معبّراً عن توجهه الدائم متأرجحاً بين أقصى درجات العاطفة وأقصى درجات البعد الميتافيزيقي. وهذا ما جعل نوعاً من القلق يسيطر، في رأي والتر على العمل ككل. وهو على اية حال قلق نعرف تماماً انه يبدو مسيطراً على مجمل المتن الموسيقي لهذا الفنان الذي لم يكن، في هذا المعنى، من قبيل المصادفة ان يستعين بموسيقاه في سينما القرن العشرين بعض كبار «القلقين» من مبدعي الفن السابع وعلى رأسهم لوكينو فيسكونتي في «الموت في البندقية» المأخوذ عن رواية شديدة القلق لتوماس مان، بيد ان هذه حكاية أخرى بالطبع... أما هنا فنعود الى «أغنية الأرض».
> تتألف «أغنية الأرض» التي يستغرق أداؤها عادة أكثر من ساعة، من ستة أقسام، تحمل عناوين تشي بموضوعاتها، وكذلك بالمناخ الروحي الذي يسيطر عليها. ومن الأمور ذات الدلالة ان يستغرق أداء القسم الأخير وعنوانه «الوداع» نحو نصف ساعة، أي انه يشغل وحده ما تشغله الأقسام الخمسة الأولى مجتمعة.
> ويحمل القسم الأول من الأغنية عنوان «أغنية الثمالة، معبّرة عن بؤس الأرض»، وفيها يتضافر صوت التينور مع الأوركسترا، الخاضعة لهيمنة آلة «الكور» في تعبير عن أقصى درجات الحزن واليأس، بالتمازج مع موضوعة السلّم الصيني الصاعدة. وفي القسم الثاني المعنون «الرجل الوحيد في الخريف» (وهو قسم يذكّر بأغنية لشوبرت لم يُخف ماهلر تأثره بها كثيراً وليس في هذا العمل فقط)، تزداد حدة الكتابة عبر صوت «الكونترآلتو» المعبّر عن الروتينية والضجر، في حركة دائرية (روندو) يتأرجح فيها صوت الكمانات مع صوت «الأوبرا»، متقاطعاً مع ناي يعبر عن السلّم الصيني مرة أخرى. غير أن القسم الثالث وعنوانه «من عهد الشباب» يأتي مفاجئاً ذا دينامية، ويبدو فيه واضحاً أن ماهلر، عبر حركة «سكيرزو» واضحة، يحاول أن يعبّر عن مقدار من غرابة تشي بالأصل الصيني للعمل، لا سيما أن صوت «الكونترآلتو» يخلي المكان ذات لحظة لصوت «التينور». وفي شكل طبيعي يقود هذا الى القسم الرابع المعنون «عن الجمال»، وفيه تزداد حدة «السكيرزو» الى درجة نجد معها أنفسنا وسط جو راقص احتفالي، سرعان ما يقطعه تدخل صوت «الكونترآلتو» من جديد معلناً نهاية مرحلة السرور والفرح.
> وهكذا ننتقل مباشرة الى القسم الخامس وعنوانه «الرجل الثمل في الربيع»، وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام موسيقى وصوت يعبّران عن اليأس والكآبة، حتى وإن كان مغني «التينور» هنا ينشد داعياً الى نسيان آلام الحياة عبر إغراقها في الشراب، وحتى إن كان ذلك الصوت نفسه لا يكفّ عن ذكر الربيع وأفراحه. إذ هنا وفي لحظة ما يبدو ذلك كله واهياً، لأن انبعاث السرور والعزاء من طريق الشراب ليس هو الحل المثالي كما نعرف، وهكذا يحضّرنا الموسيقي لدخول القسم السادس، والأطول، القسم الذي حسبنا ان ندرك أن عنوانه هو «الوداع» حتى نجد أنفسنا وسط كل ضروب الكآبة والحزن. لأن الرجل الوحيد يتوقف هنا متأملاً ماضيه وهو على وشك الرحيل، من دون أي حنين ومن دون أية اشارة الى أية لحظة حلوة في الحياة. ان اقصى درجات الكآبة هي المهيمنة ها هنا... كآبة تدفعنا الى الاستسلام النهائي، الى الاحساس في نهاية الأمر بأن اليأس داء لا دواء له.
> على رغم أن غوستاف ماهلر كان بالكاد يقترب من الخمسين من عمره، حين لحن «أغنية الأرض»، كان من الواضح انه في ذلك الحين كان قد بات يشعر بدنو نهايته، هو الذي رحل فعلاً بعدما أنجز هذا العمل الكبير، بأقل من عامين. ولد غوستاف ماهلر في عام 1860 لأبوين يهوديين ثريين من بوهيميا، وهو تلقى علومه الموسيقية في كونسرفاتوار فيينا، متأثراً خصوصاً بفاغنر وبروكنر. بدأ حياته العملية قائداً للأوركسترا في مدن ريفية، ثم تولى ادارة «أوبرا بودابست الملكية» وبعدها «أوبرا هامبورغ». وفي عام 1897 بدفع من براهمز، أصبح مديراً لأوبرا فيينا. وخلال ذلك كتب أعماله السيمفونية والغنائية، (وكان من أبرزها السيمفونيتان الثانية والرابعة)، ولا سيما أعماله التي كتبها، من منطلق روحي، بعد أن تخلى عن ديانته اليهودية واعتنق الكاثوليكية. وفي عام 1907 بدا على ماهلر السأم من الوظائف التي يشغلها، فاتجه الى الولايات المتحدة حيث تولى ادارة «متروبوليتان أوبرا». وهناك استكمل عمليه الكبيرين: «السيمفونية التاسعة» و «أغنية الأرض». وماهلر مات في عام 1911 بعدما حقق شهرة كبيرة كموسيقي، هو الذي يردّ يأسه عادة الى فشله في أن يكون - كما أراد دائماً أن يكون - مفكراً كبيراً.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |