دولة الأمن الجميلة
خاص ألف
2013-04-15
اصطدامه الأول مع الدولة الأمنية كان بالصدفة, ولكن لا, لم يكن بالصدفة فسيكتشف فيما بعد أنه كان مهيئاً ومعداً له بإحكام , فلابد أنهم أحسوا بأنه متمرد يتطاول على النظام في مذكراته السرية التي يخلو إليها آخر الليل كل يوم, فيحدثها عن إحساسه بالظلم الذي جعله يتخلى عن أسوأ عادة عودوها له في خدمته العسكرية "التدخين", ولم يكن ممكناً له ألا يتخلى عن التدخين خاصة منذ صاروا يبيعون السجائر محمولة على الشاحنات الصغيرة, وعامل صغير يجلس مدلياً ساقيه من السيارة يقبض من الراغبين الكثيرين أثمان سجائرهم, وبعد أن يقبض النقود من الواقفين يخطر لسائق الشاحنة أن يبتعد مشحطاً بسيارته, وعلى دافعي ثمن السجائر أن يركضوا خلف السيارة مطالبين بسجائرهم, حتى إذا ما بدأوا باللهاث والتساقط أشفق عليهم, فأخذ برمي علب السجائر في الهواء, وعلى كهول المدخنين هؤلاء التحول السريع إلى حراس مرمى مهرة يقفزون في الهواء, ويحاولون التقاط العلبة الحلم.. في ذلك اليوم السعيد والذي يدين بفضله إلى معلم كرة القدم الذي لم يحسن تعليمه, فسقط وداسته الأقدام, ومزقت قميصه الصالح للبس في الوظيفة, و.. تخلى عن التدخين.. أليس هذا من فضائل النظام التي لم نحسن تقديرها.
اصطدامه الأول مع الدولة الأمنية كان بالصدفة, فبعد سنوات قضاها في واحدة من دول النفط يجمع فائض قيمة عمله عما أكله وأطعم أهله منه, وبعد سنوات تحملت زوجه فيه رائحة فمه الكريهة لقلة ما يأكلون, أو لرداءة ما يأكلون أملاً في دفع الأقساط المطلوبة للجمعية السكنية وهي الاختراع الرائع الذي استطاع النظام فيه جعله ينسى أحلى سنوات شبابه وشباب زوجته وطفولة أطفاله, يحرمون أنفسهم من أحلى ما في الحياة "الشباب" كي يدفعوا أقساط الجمعية, ويصبحوا من البورجوازيين! مالكي السقف الذي يغطيهم من حر الصيف وقر الشتاء, وحاول التذاكي على الأيام وعدم مناطحة الصخرة التي لن يوهنها رأسه الضعيف, فماله وللسياسة والرياسة, وهو معلم الابتدائي المحاط بالموجهين, والمفتشين, والاجتماعات الحزبية التي لابد من اجتياز امتحاناتها اليومية, ولابد من رفع الصوت فيها عالياً يحيي الحزب القائد ووعوده بتحقيق الوحدة الكبرى, الوحدة التي ستحمله إلى مجتمع الرفاهية والراحة والاطمئنان على قادم الأيام, وكان الأول دائماً في الحضور, والأول في ترديد الشعار, والأول في إبداء الفرح لكل مناسبة من مناسبات الحزب, وانتصارات الرفيق القائد, وأخيراً كانت المكافأة, فقد منح المكافأة الكبرى التي حسده عليها أهل القرية وزملاء المدرسة جميعاً, فهاهو يحصل على فرصة العمر, على الإعارة.
جنة الإعا رة
كانت قرية غريبة, بيوت من جريد النخيل, ومدرسة مبنية من اللبن المجفف, أما البيت فلم يكن يزيد عن عشة.. وكان عليه أن يسكن فيه, ويعانق زوجته, عروسه التي لم يمض على زواجه منها إلا بضعة شهور والتي لم توافق على الزواج منه إلا لأنها طمعت في الخروج من القرية وحياة القرية, وانسداد المستقبل الذي كانت تقرأه في حياة الأخريات اللواتي سبقنها..... من مؤخرة ضخمة, وبطن مسترخ, ونصف دستة أطفال يسعون وراءها حتى المدرسة, أو ينتظرونها ليساعدوها في حمل الدفاتر, وخضار البيت, وربطتي الخبز, قالت: عدني أنًا لن ننجب حتى يكتمل بيت الجمعية, ووعدها, وزاد في الوعود, فحدثها عن أصص الورود التي "سننشرها" في الشرفة , حدثها عن العصافير الملونة في الأقفاص التي "سنعلقها "على الجدران في الشرفة, كان يظن أنه يفرش لها الأرض قشر موز حتى تقبل به, ولم يكن يريد أن يفهم أنه بما هو عليه مرغوب لشخصه, فلم يكن بالقزم بين الرجال, ولم يكن بالدميم, ولكنه لم يكن بالمرغوب في البيت, ولماذا يكون المرغوب, وهو السابع بين الأولاد لأب لم يسع وراء إنجابه أصلاً, فلقد وصل إلى الدنيا كعادته دون دعوة, ودون ترحيب .
لم يكن في القرية خبز, وكان في السوق دقيق, فجاء بالدقيق, وهو يظن أنها تعرف العجن والخبز كمعظم نساء القرية, وفوجئ بها تصرخ: وهل تظن أني استقتلت للنجاح في المدرسة حتى أصحو قبل الجميع لأعد لهم الخبز! ولما لم يكن مستعداً للشجار مع امرأة حامل للمرة الأولى, فقد أخذ يفكر لإيجاد حل, وكان الحل في إعداد العجين وهي على استعداد لقليه "زنكل", ووافق حيث لم يكن لديه من خيار, وبعد بضعة شهور, وقبل ولادتها ابنته الأولى بفترة قصيرة, وبعد رحلة استغرقت يوماً كاملاً للوصول إلى المركز الطبي لفحصها والاطمئنان على وضعها ووضع الطفل, انتبه الطبيب إلى تلويًه متألماً, فسأله إن كان يعاني من مرض ما, ولكنه وهو الفلاح الذي لافخر لديه إلا صحته الريفية أجاب بالنفي, وبلطف طلب منه طبيب النسائية زيارة لطبيب الأمراض الهضمية, وأعجبتها الفكرة فهي تذكر أرقه وألم بطنه, فأصرت على زيارة طبيب المعدة, ثم همست تشجعه: ببلاش !!
كانت المفاجأة أن طبيب المعدة نشر ذراعيه وهو يحني رأسه في تسليم: قرحة حادة, وتابع: ألم يرعبك الدم الذي تنزفه معدتك, واكتشف أثناء تساؤلهما عما تسبب بهذه القرحة أن السبب الأساسي ليس القلق من "حادثة" تل الزعتر, بل إدمان أكل الزنكل المقلي بالزيت نفسه مرات ومرات, غيروا طريقة الأكل واستغنوا عن الخبز والزنكل معاً, وصار عليهما الاستعداد للولادة.
منذ "حادثة" تل الزعتر, أخذ يلاحظ نفور الزملاء الفلسطينيين منه , لم يعودوا يقولون: صباح الخير كلما رأوه على عادتهم , لم يعودوا إلى الحديث عن أيامهم الحلوة التي قضوها في الشام, لم يعودوا إلى تذكر أقربائهم في سورية, بل صاروا يتحدثون بصوت عال أكثر من مرة عن السفاح السوري الذي تجاوز الإسرائيلي في الإجرام, لم يردً, فلم يوافق, ولم يعترض, فقد كان يحسب حساب كتُاب التقارير, ورغم عدم وجود سوريين فقد كان الحذر ضرورياً , فما يدريك !!
لم يكن في العشة التي سكناها خزانة, أي شكل من أشكال الخزائن, وكان الباب نفسه لايستطيع صد دفعة, ولم يكن في القرية ما يمكن شراؤه, وهكذا أخذت الرواتب تتراكم في جيوبه, ولما آن أوان ولادتها, وصار من المتوجب عليهما المضي إلى مشفى الولادة في المركز اتضحت المشكلة, فكيف يفعلان مع مدخراتهما التي صارت أكبر مما رقد في جيوبهما منذ عرفا الحياة, ولما لم يكن ممكناً إيداعها لدى واحد من الزملاء الفلسطينيين الذين لم يعودا يتبادلان معهم السلام, فقد فكرا في حل ثبت فيما بعد أنه كان الأكثر حمقاً.
كان اقتراحها بسيطاً, أن يدفنها في أرض العشة الرملية, ثم يضع فوق الدفينة الفرش والألحفة كما يصًفانها يومياً عند كل استيقاظ, فلا ينتبهون إلى خبيئتنا, وأعجبته الفكرة, فلم يكن لديه اقتراح آخر, وهكذا دفناها وحملا معهما ما يمكن أن يحتاجا إليه في رحلتهما هذه.... بعد أسبوع وكانت فرحتهما بالطفلة الجديدة قد أنستهما القرحة والحمية الاضطرارية و.. الدفينة التي أودعا فيها عرق, وقرحة عام دراسي, وحرمانا من الطعام الذي اعتاداه عمرهما, واستبدلا به الكبسة اليومية, كبسة مع نصف فروج, وكبسة مع علبة مارتيديلا, وكبسة مع علبة سردين, إلى آخر ما يمكن لمعلمين أن يخترعوا من طعام في قرية لا تعرف الخضار, ولا تعرف الفواكه, إلا ما يمكن له الصمود دون حاجة إلى ثلاجات كالتمر, أما اللحم الطازج فلم يكن متاحاً إلا لمن عاد من المدينة ببعض منه, أو إذا وقعت مصيبة اضطرت المصاب إلى التضحية بذبيحة لايجب أن يتبقى منها شيء يمكن أن يفسد خارج ثلاجة لاوجود لها.
عادا إلى القرية وقد عاهدا نفسيهما على استعادة الود مع الزملاء والجيران, وأن يشرحا للجميع ألا علاقة لهما بما يجري هناك , في بيروت, فنحن مجرد معلمي ابتدائي ولسنا أصحاب القرار السياسي, ورغم معرفته بأنهم سيجيبونه بلؤم: كيف! ألست بعثياً ؟ ولن يستطيع التنكر لبعثيته, فهي ما أتاحت له هذه الفرصة في البعثة والإثراء, ودفع أقساط البيت, ومع ذلك, فقد أصراعلى ابتلاع ألسنتهما, وعصر بصلة فوق بعثيتهما التي كانت لسنوات أداة فخرهما وإحساسهما بالتفوق على من حولهما.
نزلا من السيارة مثقلين بالفرح, متوقعين مشاركتهما بهذا الفرح من كل من حولهما, لم يكن ممكناً للسيارة أن تقف أمام البيت كما كانت زوجته تتمنى كي "تتشاوف" قليلاً أمام الجيران, ولكن السيارة لم تستطع الدخول في الحارة الضيقة, فاضطرا إلى النزول والمشي لما تبقى من الطريق يحملان كنزهما الجديد, توقفا فجأة حائرين, فلم يتعرفا إلى البيت, عاد إلى بداية الحارة يتأكد أنٌهما في الحارة الصحيحة, ولكنها كانت الحارة الصحيحة ! وكل ما في الأمر أن العشة التي كانا يسكنانها قد احترقت حتى الترمد, وحتى الأرض, وعرف أنه قد دفع أخيراً ثمن بعثيته, فقد أحرقوا العشة انتقاماً لحرائق تل الزعتر.. كان أول ما فعل في الصباح التالي ومع أول ضوء هو اتجاهه إلى ما كان عشتهما ليحفر مكان الدفينة ويبحث عن الدفينة التي لم يتبق منها إلا.. أوراق مسودة سريعة التحول إلى فتات حالما تلمس.
المكافأة
اصطدامه الأول مع الدولة الأمنية كان على غير رغبة منه, فقد كانت الفرحة بالبيت الجديد الذي لم يسكن في مثله أحد من أهلها أو أهله, كان بيتاً كبيراً وله شرفة كبيرة تطل على الشارع النظيف, وعلى الحديقة التي كانا يريانها لدى بيوت الأكابر فقط, ولكنها كانت لهما, أعني للحارة, وسيكتشف فيما بعد أنها لم تكن لهما بل كانت لسيد الحارة الحقيقي "ضابط المخابرات" الذي لم يكن قد أثرى بعد, فرضي بالسكنى في حارة واحدة مع أمثاله, وهكذا فما إن لم يجد مرة مكاناً لصف سيارته حتى أمر بإعادة الحق إلى نصابه, وهكذا استيقظوا ليجدوا الجرافات وهي تقتلع الحديقة وترابها وكل ما يدل على حديقيتها تمهيداً لتحويلها إلى كراج كبير لسياراته التي ستبدأ بالتوالد منذ ذلك اليوم.
لم يحرك أحد من الجيران إصبعاً, ولم يستطع الصمت, خاصة وأن زوجته الصامتة عادة أخذت في التحديق فيه في لوم طويل, وكان لابد من صنع شيء.
في اليوم التالي بدأت رحلة تمرده, فلقد عاد إلى البيت في شاحنة هوندا محملة بأصص الورد وأصص المعرشات, وكانت فرحته الحقيقية في السعادة الكبيرة على وجهها, وفي قضاء ما تبقى من اليوم في رصف الأصص, ورفعها عن الأرض, وفي ربط المعرشات بالخيوط إلى الجدران, وكانت ليلة سعيدة استعادا فيها ذكريات الآمال التي أملاها, وهاهي تتحقق. انتهاء الإعارة, واكتمال البيت, وفرش البيت, وهاهما يزينان حديقتهما الصغيرة "الشرفة" بالورود والمعرشات التي طالما كتباها مفردة مفردة.
في الصباح التالي, وكان يوم جمعة قرر مفاجأة زوجته والأطفال, فاستيقظ مبكراً, ومضى إلى الفرن, فاشترى الخبز والفول والمسبحة "الحمص المطحون", ورجع إلى البيت سعيداً, فها هو المخطط بحذافيره "مخطط السعادة" يتحقق, وضع طعام الإفطار بالمطبخ, ثم وضع دولة القهوة على البوتوغاز, تمطى طويلاً في الشرفة وكان يعرف أن ما ينقصه حتى يصل إلى كمال السعادة هو قفص لحسون وقفص لكناري ولكنه سيستدرك الأمر سريعاً !! فها كل ما حلم به العمر قد تحقق ولم يصل الخمسين !! أطفال أصحاء ناجحون في المدرسة, زوجة رضية, وبيت لم يسكن في مثله أحد من آبائه أو آبائها من قبل, وغمره حس بالسعادة الهادئة, وتنهد في امتنان: إنها بعض من وعود القائد تتحقق.. فجأة تذكر دولة القهوة, لابد أن الماء فيها قد غلا, اتجه إلى المطبخ يكاد يرقص في سعادة: سيوقظها حالما تجهز القهوة, وصل إلى الدهليز المؤدي إلى المطبخ, وفجأة قرع الجرس, وتوقف حائراً, فمن يقرع عليه الباب, وليس من يعرف بسكنه الجديد, ومن يقرع الباب في هذا الوقت المبكر, تكرر قرع الباب في إلحاح, فمضى لفتح الباب, كان في الباب عملاق عابس في بدلة عمل عسكرية, لم يقل صباح الخير, بل اكتفى بالقول في جفاء: المعلم يقول لك "والمعلم مصطلح سوري دخل قاموسنا منذ الثورة المباركة".. لم يفهم ماقال, فقال: عفواً لم أفهم, فكرر بصوت عال: يقول ادخل إلى بيتك ولاتخرج إلى الشرفة حتى الظهر, فاليوم سيتناول المعلم قهوته مع عائلته في الشرفة !!!
خيري الذهبي
[email protected]
08-أيار-2021
06-شباط-2021 | |
28-تشرين الثاني-2020 | |
22-آب-2020 | |
15-آب-2020 | |
09-أيار-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |