عن المساكين الذين خدعوا بالشعارات!!
خاص ألف
2013-05-06
أحزاب البعث, أحزاب الناصريين, وأحزاب القوميين العرب, إلى آخر التجليات الرافضة للتجزئة والحدود السياسية الجديدة التي رسمها لنا الغرب وجعل منها أوطاناَ رسم حدودها "لنا", ووضع أعلامها "لنا", ونشيدها الوطني "لنا", ووزارات داخلية تمنع غير المرغوب فيهم "عنا", وتفتح سجوناً فيها "لنا", ومخافر على الحدود تحصي الداخلين والخارجين "إلينا".
هذه الأوطان المستحدثة كانت دائماً واحداً من اثنين: وطن مستقر في حدوده الجغرافية, فكان تاريخه ملتصقاً بجغرافيته, وقبول المواطنين به وطناً واقعياً لاجدال حوله, أوطان تاريخية بحيث أصبح وجودها الجغرافي خارج النقاش, مثل "مصر" التي احتلتها بعد سقوط آخر الأسر الفرعونية فيها معظم الأمم, منها المنتمية إلى الإقليم كالهكسوس, وفارس, أو البعيدة عن الإقليم, كروما, وبريطانيا, ومع ذلك لم تستطع هذه الدول, أو حتى لم تحاول العبث بجغرافيتها و"وطنيتها", فظلت مصر هي مصرالجغرافية كائناً من كان الغازي أو الحاكم, وبالتالي ظل المغرب الأقصى الذي حافظ على الدولة فيه هو "المغرب" تاريخ مرتبط بالجغرافيا, وهذه الأوطان قد تتوسع أو تتضيق حسب القوة السياسية للحكومة, ولكن الوطن المصري, أوالمغربي لا يغيب.
ووطن... غير محدد الشكل الجغرافي, فهو المائع بين دويلات المدن, وبين استدعاء الاحتلال الأجنبي, أوالمشاركة في امبراطوريات قد تمتد لتصبح امبراطوريات عالمية كبرى ك"روما" أو"سلوقيا " أو" الدولة الإسلامية الأموية أو "العثمانية", هذه الأوطان تتضمن الشام والعرا ق العربي, وعلينا ألا ننسى أن إيران والعراق كانا يدعيان في الأدبيات الإسلامية "العراقين" عراق العرب وعراق العجم, أي أن الحدود الجغرافية, والحدود الديموغرافية بينهما كانت مائعة متداخلة, ولطالما احتل أحد البلدين الآخر..... آشور, بابل, العباسيين, من جانب عراق العرب, والإخمينية والساسانية, من جانب عراق العجم, إلخ, والميوعة الحدودية تتضمن دولاً في المغرب الكبير كالجزائر وليبيا, فالدولة الجزائرية المعاصرة بعيداً عن دول الجوار هي دولة حديثة, ولطالما كانت جزءاً من الدول المجاورة, حتى كان الاحتلال الفرنسي, فحدد لها الحدود, وفصلها عن ميوعة العلاقة مع الجوار, أما ليبيا التي اصطنعت بتجميع ولايات برقة, وطرابلس, وفزان في دولة استدعوا لها اسماً ذاع أيام روما, فصنعوا منه اسماً لها ــ ليبيا ـ..
في زمن الامبراطريات الإسلامية والمتأخرة منها أخذت الهويات المذهبية تتخذ شكلاً سياسياً, فأخذت التشققات المذهبية تتحول إلى هويات للسكان, ولنتخذ من التشيع نموذجاً, فالتشيع كان في الأصل مذهباً عربياً يتزيا العرب فيه ليستطيعوا إعلان اختلافهم عن الحاكم الامبراطوري الآسيوي, وإصرارهم على أن الحكم حق لورثة النبي العربي, وهكذا رأينا دويلات المدن الشامية التي ظهرت في القرن العاشر الميلادي وقد غلب عليها التشيع الذي يتضمن احتجاجاً على الحكم الآسيوي الذي اختصر الإسلام العالمي وريث الهيلنستية عالمية الرؤى, والذي كانت معجزته الأهم في رأيي هي في امتصاص ما تبقى من الهيلينستية العالمية, وتبنيها ثقافياً, فأنجز معجزة الحضارة ممتصة الحضارات, وصانعة الحضارة الإسلامية, أما الحكم الآسيوي, الغارق في بدويته الرعوية, فلم يستطع تمثل كل هذه الوجبة العالمية الدسمة, فاختصرها في أحادية الدين الواحد, والرؤية الواحدة للعالم, والكون, ومابعد الحياة, فصغًر الإسلام إلى "دوغما" تشبه الدوغما الطالبانية ذات الرأي الواحد, والقراءة الواحدة للعالم, قراءة لاتقبل الحوار, الأمر الذي أدى إلى رفض الرؤى الأخرى والقراءات الاخرى للدين الكوني أصلاً "إنما بعثت للناس كافة".
في القرن السادس عشر وصل إلى الحكم في استانبول السلطان الدموي سليم الأول, هذا الرجل الذي يمكن للمؤرخين أن يصفوه بكل الصفات, من فاتح منتصرعلى أعدائه, ومن صانع للامبراطورية, ومن مزيل للإمبراطورية "المملوكية", ولكنه أبداً لن يستطيع وصفه بالتقي, أو حتى ب: حسن الإسلام, فلقد "عجًل" سليم على أبيه المريض, حسب رواية المؤرخين المعاصرين له, أي قتله حتى يرث الملك الذي طال انتظاره له منه, وكان هناك قانون تركي سلطاني يفرض على السلطان حال تسلمه العرش قتل إخوته حتى لايثوروا عليه, فيمزقوا المملكة, فالمملكة أهم من الملك, ولكنه ما إن "عجًل" على أبيه حتى هرب إخوته من المملكة العثمانية إلى مصر المملوكية, وإلى إيران الصفوية, وهنا بدأت صناعة العداوات المذهبية حين تحولت من خلاف مذهبي خاص بمعتنقه, إلى إلغاء سياسي للآخر, فإصرار من كلا الطرفين على: "أنا أملك الحقيقة كاملة, ومن خالفها فهو الخارج على الدين", وبهدوء بدأت صناعة البروباغانده الناشرة لهذه الفكرة, وصناعة السير الشعبية من الجانب العثماني التي سمًت الجانب الصفوي بالأرفاض, إلى المسرحيات الجماهيرية والمسيرات الجماهيرية على الجانب الصفوي الشيعي التي لاهمً لها إلا تأكيد وتسخين رجل الشارع في الدفاع عن الحقيقة المثلى التي يملكها "أنا, وأنا فقط!!".
طارد السلطان سليم إخوته وأبناء أخيه حتى غالديران الإيرانية والتي هزم فيها السلطان العثماني التركي الشاه الصفوي الأذربيجاني, وكان من شروط المنتصر قتل ابني أخي العثماني الفارين يحتميان بالسلطان الصفوي, فاضطر الصفوي إلى إعدام الطفلين الملكيين, وإرسال جثتي الضحيتين إلى المنتصر !.
إلى معركة.. مرج دابق قرب حلب المملوكية, التي سيكون من نتائجها قتل أخوي المنتصر سليم الأول بعد قتل السلطان المملوكي وزوال المماليك سياسياً ليخلو عرش الشرق الذي كان بيزنطياً قبل ألف سنة أخيراً لسليم العثماني, فانتصرت الجغرافيا به, وعادت بيزنطة إلى حكم كل الجغرافيا التي كانت بيزنطية, وإن بدين آخر, وثقافة أخرى, وأسماء لحكام آخرين.
منذ معركة غالديران أخذ الخلاف السياسي بين العثماني والصفوي يتحول شعبياً, وتبعاً للبروباغانده لدى كلا الطرفين إلى صراع مذهبي مرير, وما لبث هذا الصراع أن تحول إلى هوية سحقت الهويات القومية, والهويات الجغرافية, والهويات التاريخية لكلا الطرفين, والغريب أن هذا الصراع الذي هيئت له كل الشروط ليكون الصراع الذي لن يتوقف قبل أن يلغي أحدهما الآخر قد تجاهل التثاقف الإيراني والتركي في الموسيقى, وفي الرسم "المنمنمات", وفي الشعر, والعمارة, بل, وفي انتقال الشعراء المتصوفين الكبار من الأناضول إلى فارس وبالعكس, وكانت الدولتان تستعينان كل بفناني الجانب الآخر, فرأينا الشعراء يتنقلون بين كلا البلدين, بل فيما بعد بينهما وبين الإمبراطورية الإسلامية المغولية في الهند, ورأينا المهندسين ورسامي المنمنمات, ومزيني الكتب, وفناني تجليد الكتب, والمعماريين, أي كل مظاهر الحضارة الإسلامية التي لم تستطع أن تكون حكراً على هذا الحاكم دون ذاك.
و... كان القرن العشرون والحرب العالمية الأولى, قرن اختفاء الامبراطوريات الإقطاعية, كالنمسوية والعثمانية... اختفت الإمبراطوريات الإقطاعية ليحل محلها امبراطوريات عصرية هي الامبراطوريات الباحثة عن الأسواق, فرنسا وبريطانيا, والتي لم تدًع انتماء دينياً تريد نشره وشيطنة خصمه, كما فعل الصفوي والعثماني, بل قدموا وأتوا معهم بشيء جديد: الديموقراطية, والأحزاب, والحريات.
كان الدين الجديد ديناً لم يتعرض للأديان التاريخية, بل قدّم دولة الحدود الجديدة الصارمة, والعلم الجديد, والبرلمانات الجديدة, والحريات الجديدة... فبدا الدين الجديد لرجل الشارع شيئاً طريفاً, وبدا للقادمين الجدد لعالم السياسة مغرياً كلعبة جديدة, أما لمخضرمي السياسة ممن عمل في "المبعوثان" البرلمان العثماني, فقد بدا لهم لعبة قديمة يستطيعون التعامل معها, وهكذا وجد على أرض الواقع شريحتان من السكان, شريحة استطاعت التعامل مع الموضة الجديدة, البرلمان, والأحزاب السيا سية, وما ينتج عنهما, وشريحة لم تخرج عن شرط الدين على الطريقة العثمو صفوية, وإن استفادت من الرداء الأوربي الجديد و... ظلت محتفظة باللحن القديم تغنيه, وإن بعيداً عن العيون .
قامت الدول الجديدة, العراق العربي, تركيا, سوريا, لبنان, الأردن, وفلسطين المتهودة, قامت وهي غير راضية عن حدودها الجديدة, فلم يكن لها بها سابقة, ولم تقم في التاريخ دولة اسمها سورية بحدودها هذه, والسابقتان الوحيدتان, أعني النبطية في البتراء, والتدمرية في تدمر لم تعيشا ما يكفي لصنع تاريخ, إذ سرعان ما بطش بهما الأوروبي "روما", وماعدا ذلك فالأموية كانت دولة للفاتح الحجازي, ولم تكن دولة من صنع أهلها, وكذا يمكن القول نفسه عن الأردن ولبنان, والعراق العربي الذي كان دائماً أمام واحد من خيارين, التمدد لصنع امبراطوريته الخاصة كما اعتاد لمرات, أو أن يكون إقليماً من أقاليم جاره النهم لصنع امبراطورية "إيران" كما اعتاد أيضا لمرات, وربما كانت تركيا الاستثناء الوحيد, فقد كانت هي من صنع حدوده الدولية الجديدة بأيدي أبنائه تحت قيادة أتاتورك .
الدول الجديدة "المشرق العربي" والتي ورثت الدين الجديد "الديموقراطية" عن الغرب, كانت مأساتها أنً تدينًها بالديموقراطية كان قشرة للنخب فقط, أما كتلة الشعب الأساسية, فقد كان الدين القديم "العثمو صفوي" مايزال فاعلاً لديها, وهكذا ما إن وصل تعليم أبناء الريف فيها إلى البكالوريا التي تبيح لأحدهم دخول الكلية الحربية حتى فعلوها وبكثرة, وبعد سنتين فقط وجد هؤلاء الشبان أنفسهم المجموعة الأكثر تنظيماً, والأقدرعلى القفز إلى الحكم, فكان أول ما فعلوا بعد اكتشافهم قدرتهم على التأثيرعلى الحكم رفضهم للرموز الدينية الغربية الجديدة التي زرعت في بلادهم قبل وبعد الاستقلال بسنوات, والتي رأوا فيها تمغرباً رفضوه وجدانياً بعد رفض آبائهم للاستعمار حين دعوا للاستقلال, وكان شعارهم الأثير "لاشرقية ولاغربية ".. وإذن؟ .
في ذلك الحين ظهر الحزبان التوأمان "الإخوان المسلمون" وتوأمه "البعث", ولما كان خريجو الكليات العسكرية أو الضباط المعجبون بخروجهم من عبودية الأرض التاريخية يبحثون عن دور, فقد شدتهم هذه الأحزاب بإيديولوجيتها التي ترضي أنصاف المتعلمين, والحلم بأتاتورك مخلوط بغاندي, وبونابرت, أو عمر بن الخظاب حسب الرؤية الداخلية للحزب, وبتجاوز علماني للمرض العثمو صفوي لدى الأحزاب القومية, وبتغلل برداء عمري للإخوان, واتفق الحزبان على العودة إلى الزمن الجميل, زمن الصحابة والفاتحين, فالماضي كان عهد العدل الديني, أو حكم العرب وعزهم, واتفق الحزبان على الدعوة إلى وحدة لم توجد على أرض الواقع إلا زمن الدولة "الأموية" المكروهة من متديني الدين العثمو صفوي بشقيه.
أما الحدود التي صنعت الدول الجديدة المكروهة لدى كلا الحزبين, والتي كانت ربما نقطة الاتفاق الوحيدة بينهما في رفضها. هذا الرفض الذي سيتحول إلى النقطة الأكثر اشتعالاً في المشرق العربي, سوريا, والعراق, ولبنان, و.. كانت المحاولات المتكررة متتالية لإسقاطها على الطريقة العثمو صفوية, أي بالغزو, وفرض الواقع الجديد, متجاهلين الوضع العالمي الجديد, والذي لم يكونوا من صنعه.
والسؤال الذي يلح عليً الآن وأنا أرى الحالة الدموية التي يعيشها المشرق العربي الآن.. العراق , سورية, لبنان, لابد للمرء من السؤال. هل كانت الرغبة في الوحدة العربية عابرة الأديان والمذاهب لدى الأحزاب الداعية إلى وحدة عربية بشروط علمانية رغبة أصيلة لم يدرك الداعون إليها من أبناء الأقليات أنها ربما عادت بهم إلى وضع الأقلية الديموقراطية ــ التي أخرجتهم منها حين أمسكوا بالسلطة ــــ ثورة على الدين الغربي" الديموقراطية", في لحظة ضعف من الأكثرية التائقة المستميتة إلى الوحدة بأي ثمن, فخسرت الأكثرية الوحدة والديموقراطية بالإنقلابين البعثيين, أم أنّ ... هذا التوق إلى الوحدة كان شكلاً من أشكال التقية التي أتقنوها زمن القهر العثمو صفوي ليصلوا إلى الحكم, فلما وصلوا إليه التصقوا به كما فعل بعثيو العراق وسوريا لخمسين سنة ماضية, وكانوا في الآن نفسه يهددون الحالمين بالديموقراطية دائماً بالإخوان المسلمين, فهم "الإخوان" إن وصلوا إلى الحكم بالديموقراطية يوماً, فسيكون ذلك آخرعهدنا بالديموقراطية, وهانحن نرى اليوم تضحيتهم العجيبة و.. المستميتة, بالديموقراطية, وبتعايش الطوائف, وبتعايش الأديان, والأعراق, وبالدولة وبالتقا ليد الليبرالية التي تركتها لنا فرنسا وإنكلتره في العراق و سورية ولبنان, فأحيوا المملوكية دون انتصارات المملوكية, وتخلوا عن كل ما هو غير مملوكي في اللحظة نفسها التي طالبت الأكثرية بالاحتكام إلى الصندوق الحر, بدون إرهاب بالأمن, وإرهاب بالتزوير, ورأينا سعيهم الحثيث إلى استبدال الدولة والحدود الوطنية التي تجمع مواطنين, لا طوائف, واستبدال هذا كله بدولة المذهب "أو الطائفة" في دولة تعبر الحدود من إيران إلى العراق إلى سورية ولبنان, وربما إلى تركية غير عابئين بالحدود والديموقراطية, والمواطنة التي صنعها لنا الغرب, فهذه الحدود وهذه الخزعبلات عارضة أمام الجوهر الدائم .. الدين العثمو صفوي.
خيري الذهبي
[email protected]
08-أيار-2021
06-شباط-2021 | |
28-تشرين الثاني-2020 | |
22-آب-2020 | |
15-آب-2020 | |
09-أيار-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |