ديموقراطية، علمانية، أم عقلنة الدولة؟
2007-04-10
الحياة 8/4/2007
المثقفون والنشطاء السوريون الذين يتمحور تفكيرهم ونشاطهم العام حول شعار الديموقراطية، يحجمون عادة عن الانشغال بمسألة العلمانية أو ينزعون إلى التقليل من شأنها. وبالعكس، يميل من يتمحور تفكيرهم ونشاطهم حول شعار العلمانية إلى إهمال قضية الديموقراطية أو منحها موقعا ثانويا في تفكيرهم. تمثل هذه الملاحظة خاصية دالة من خصائص الحقل السياسي الإيديولوجي السوري، الذي يتميز بأن له مركزين: السلطة والدين. من يجذبهم أحد المركزين قلما يبالون بما يجري في المركز الآخر. ومن يشغلون أنفسهم بموقع الدين في الحياة العامة لا يظهرون اهتماما يذكر بطبيعة النظام السياسي، والعكس بالعكس.
وقد يبدو أن الخاصية هذه تتصل بدورها بالتركيب الاجتماعي الثقافي للمجتمع السوري، أعني
بتمايزاته الدينية والمذهبية، لولا أن قلة اهتمام العلمانيين بمسألة السلطة وقضايا الحريات (حين لا ينحازون علانية إلى نظم الاستبداد) من جهة، وضعف اهتمام الديموقراطيين بمخاطر هيمنة دينية محتملة من جهة أخرى، شأن عربي مشترك. وبشيء من التبسيط يبدو أن عداء العلمانيين العرب للإسلاميين دفعهم إلى الاصطفاف إلى جانب النظم الحاكمة، فيما دفع عداء الديموقراطيين للنظم هذه إلى الوقوف في صف الإسلاميين.
وفي السياق السوري، تستجيب العلمانية بصورة تفضيلية للقلق الوجودي لأقليات دينية ومذهبية تخشى الاضمحلال أو الانقراض، وتستجيب الديموقراطية بصورة تفضيلية للقلق السياسي لأكثريات أهلية تهجس بالتهميش. ويتكفل التجاذب السياسي والإيديولوجي بين النخب المتعددة الأصول بتوظيف الفكرتين، الديموقراطية والعلمانية، في خدمة تثبيت التمايزات الأهلية، الدينية والمذهبية، أعني تزويدها بوعي ذاتي حديث، لا تستطيع هي تزويد ذاتها به.
يتوسط عملية التثبيت تعريف الديموقراطية بأنها حكم الأكثرية، وتعريف العلمانية بفصل الدين عن الدولة. أية أكثرية؟ وأي دين؟ لا نجد إجابات عن هذين السؤالين، رغم أنها واضحة للجميع ضمن حقلنا السياسي الإيديولوجي. الدين الذي يتعين فصله عن الدولة هو الإسلام (السني)، و»الأكثرية» التي يتعين أن تحكم هي المنسوبة إليه. وهكذا يجري اجتذاب مدركي الديموقراطية والعلمانية نحو دلالات أوثق صلة بخصائص الحقل هذا وتركيب المجتمع السوري وأبعد عن مراميها الأصلية في سياقات اجتماعية أكثر اندماجا. لا ريب أن أكثر العلمانيين والديموقراطيين سيرفضون هذه القراءة. لكن ما نتحدث عنه ليس خططهم ونياتهم، بل التوظيف المحتوم الذي يخضع له المفهومان/ الشعاران في شروط سياسية واجتماعية وتاريخية عيانية. وهو توظيف لا يستطيع الديموقراطيون والعلمانيون تحديه دون وعيه، ودون إدراك أن مفاهيمنا لا تحوز منهما حصانة ذاتية تمنع توظيفها ضد «مقاصدها الأصلية»، وبما يتوافق مع أوضاع وآفاق تتميز بالاستبداد أو بالطائفية أو بهما معا.
أوضاعنا الراهنة لا تسمح بتوظيف الشعارين والمفهومين باتجاه قيم الحرية والمساواة المكنونة في تجاربهما المكونة. التخلي عنهما غير ممكن بالمقابل. فلا سبيل في الأفق المنظور للاستغناء عن مدركين أساسيين هما في الوقت ذاته مفهومان نظريان لهما تاريخ، وقيمتان مركبتان موجهتان للعمل العام، وشعاران جذابان ومعبّئان. أي مخرج ممكن من هذه المعضلة؟ نقترح التحول نحو مستوى مختلف: عقلنة الدولة.
نعني بعقلنة الدولة عملية بناء الدولة كسلطة سيادية ممأسسة متعالية على حيثيات الحاكمين وعصبياتهم، ومضادة للامتيازات والاستثناءات التي تنخر الدولة وتجوف الوطنية وتفرغها من مضامينها التحررية والمساواتية. من شأن قيام الدولة هذه أن يجعل منها إطارا جذابا للتماهي العام بين متحدرين من أديان وجماعات مذهبية وإثنية مختلفة. نشوء الدولة، كمقر لوطنية عقلانية تضمن المساواة بين الإفراد وتلغي تجزؤ المجتمع وتناثره الأهلي، يؤهل مستوى للتشارك والتعارف والتعاطف بين الأفراد أرقى مما يمكن أن يقوم على أرضية الدين أو المذهب أو الإثنية أو العشيرة. أرقى بالمعاني الثلاثة التاريخي (أكثر تقدما) والأخلاقي (أوفق للمساواة) والاجتماعي (يلبي مصالح أكثرية أكبر). وبروز المستوى الأرقى هذا هو أكبر خطوة ممكنة نحو انفصال الدولة عن الدين الذي لا يضمن، بطبيعة الحال، إلا مستويات تماهٍ أضيق نطاقا، بشريا وثقافيا وتاريخيا. فإذا كنا نتحدث اليوم كثيرا عن فصل الدين عن الدولة، فلأن عملية انبثاق الدولة كمستوى مستقل عن الانتماءات الدينية والأهلية، أي انفصالها عن العصبيات وسيادتها عليها، قد أخفقت. ويتراءى لنا أن وراء الإخفاق التقاء عمليات ثلاث مترابطة: تعثر قيام اقتصاديات منتجة تكون قاعدة نهوض طبقة وسطى مستقلة (إن الارتباط بين اقتصاديات الريع والاستبداد العصبوي يبدو أكيدا، وإن لم يكن سببيا؛ وكذلك الارتباط بين الاقتصاد المنتج وعقلنة الدولة)؛ الحضور الكثيف والعدواني للمحور الأميركي الإسرائيلي وتسببه عبر سلسلة وقائع مشهودة في تقزيم الدولة لدينا وإضعاف شخصيتها وزعزعة كيانها ذاته؛ والتكوين الاعتقادي وغير النقدي لقطاعات واسعة من النخب المثقفة العربية. فشل عملية انفصال الدولة، وعجزها عن تأمين إطار تماهٍ إيجابي منافس للأطر العصبوية والدينية ومتفوق عليها، هو ما ينعكس إيديولوجيا بطلب إرادوي للفصل، ما يعني طلب الاستبداد. بهذا المعنى، العلمانية الرائجة شعار إيديولوجي يعكس تعثر عملية عقلنة الدولة العقلانية كأساس لاستقلالها بأمر الأمة، أمة المواطنين.
من ناحية أخرى، يقلل تكون الدولة كإطار أعلى للتماهي العام الوطني من القيمة السياسية للتمايزات الدينية والمذهبية والإثنية، ويؤسس تاليا «بنية تحتية» للديموقراطية، شعبا، تتمايز منه أكثريات وأقليات عصرية متجاوزة للأطر الأهلية. في غياب الشعب تجنح الديموقراطية لأن تكون «توافقية» في أحسن الأحوال، وبابا لتفكك الدول المعتلة القائمة في أسوئها.
والدولة الوطنية العقلانية كأساس صلب للديموقراطية والعلمانية هو ما يضمن أن تتقدما معا، بينما يبدو حاليا أن إحداهما لا تتقدم إلا ضد الأخرى (في ورشة نقاش التأمت مؤخرا في دمشق، لاحظ ريجيس دوبريه أن العلمانية والديموقراطية تراجعتا معا في فرنسا في العهد الفيشي، وأن تقدم العلمانية كان على حساب الديموقراطية في تركيا المعاصرة. العراق الحالي يعرض احتمالا ثالثا: لا علمانية ولا ديموقراطية و... لا دولة).
لكن كيف تتكون دولة وطنية عقلانية؟ من المؤهل لتولي عملية عقلنة الدولة ومطابقتها للوطنية؟ من أين له العقلانية؟ هل يمكن أن تجري العقلنة وإلغاء الامتيازات الفئوية والاستثناءات دون عنف؟ من هي القوة الاجتماعية القادرة على الهيمنة، أي على دمج ممارسة القوة بتأسيس القانون؟ من يملك القوة والشرعية على اتخاذ القرار بشان توحيد السلطات الدينية المتناثرة وعقلنتها وإخضاعها للقانون؟ هذا أسئلة معرفية وتاريخية تذكر بأسئلة مشابهة طرحها عبد الله العروي قبل خمسة وثلاثين عاماً. الفرق أن اللاعقلانية التي شكا منها العروي كانت تجد ترجمتها الأبرز في إخفاقاتنا القومية في مواجهة إسرائيل. أما اللاعقلانية التي نشكو منها اليوم فتتمثل في مخاطر انهيار الدول القائمة لمصلحة تكوينات عصبوية لطالما رعتها هذه الدول ذاتها. على أننا قد نكون اليوم أميل إلى التفكير بالعقلنة من زاوية شروطها أكثر مما من زاوية فاعليها. ونخمن أن من شأن التقاء تراجع الهيمنة الخارجية مع تنامي التفكير النقدي في أوساط الانتلجنسيا (مثقفون ونشطاء...) ومع نهوض الطبقة الوسطى أن يحرض عملية العقلنة ويدشن القطيعة مع الاستبداد العصبوي.
08-أيار-2021
04-شباط-2017 | |
02-تشرين الثاني-2015 | |
22-تموز-2015 | |
في الذكرى الثالثة للثورة السورية نهاية جيل من التفكير السياسي السوري وبداية جيل |
20-آذار-2014 |
04-كانون الأول-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |