يذوب الجليد و يبقى الجسد / ديالكتيك الجسد و الجليد
2008-05-12
الجسد الأنثوي "منتج للشهوة" الجسد ألذكوري "يشتهي أكثر مما يفكر"
أن الجسد الأنثوي مسكون بالشيطان والجسد ألذكوري يتسلح بقوة ميتافيزيقية
هواجس كثيرة يضعها كتاب "إنما أجسادنا...الخ" ديالكتيك الجسد والجليد نصب أعيننا أو ربما يجعل من معرفتنا هاجسا تلاصقه إشارات استفهام تجعلنا نقف في زاوية أخرى لنراقب و نشاهد و نشعر بجسدنا بعيدا عن كل الوصفيات و الوعظيات و بعيدا عن الإطار الديني.
إبراهيم محمود الذي يعمل في مجال الكتابة الانثربولوجية و قدم أكثر من ثلاثين كتاب نذكر منها: "نقد وحشي" "الفتنة المقدسة" "الباحثون عن ظلالهم" اليوم يضع بين يدينا دراسة مقاربة لموضوع الجسد الذي شغله بأطيافه و أيديولوجياته المتداخلة والمتشابكة
البداية وبقلم عريض يكتب "ساعة غرائزنا الحكيمة" وكأنه ينزع صفة الحكمة عن العقل ويعيدها إلى أرضها البكر الغريزة بعد أن قام العلماء الحكماء وهواة التحليل النفسي بربط
الغريزة بالليل والظلام وصوروا العقل شمسا تنير الكون الإنساني و منحوه سلطة لا محدودة لضبط الغريزة،رغم أن الغريزة أقدر على ضبطها من تدخلات العقل، فحين تمت عقلنة الغريزة ارتكبت فظائع وابتدعت غرائز مصطنعة ومروعة.
إبراهيم محمود هنا يقول :" ولست من أتباع الغريزة الواعية المبصرة لآلية عملها بقدر ما أشفق على مقدار هتك حرمتها حيث لم تفهم حق فهمها، دعوا الغريزة في تنوع مسمياتها.. جوعا، عطشا، تعبا، جنسا، تقوم بعملها و سترون نتائج مدهشة " فالغريزة هي التي دشنت تاريخ الكائن الحي و الإنسان تعلم من سلفه الحيوان فالغدر في العقرب والثقة بالذات في الأسد والخيلاء في الحصان والتضحية في البجعة، وغالبا ما تكون الغريزة في إطارها و مفهومها الحيواني منظمة وحارسة وضابطة لسلوكه أكثر من الإنسان الذي يتعالى على سلفه الحيوان وهو يدرك تماما مدى الضرر الذي حصل ويحصل عن سلوكه المعقلن و الإجحاف الممارس بحق غريزته، ولو كانت للقردة لسان ينطق لحاكمت داروين عندما حاول التأكيد على الأصل القرداني للإنسان وهو يمارس الدمار ضد بني جنسه فالقردة أكثر تنظيما لمجتمعاتهم، والغريزة عند الحيوان لا تهدف لتدمير الآخر بقدر ما هي مجالا من اجل البقاء وهي تردع الحيوان عندما يتجاوز حده وتضبط حركته، فالأرنب كثير الإنجاب كما الثعلب لأنهما أكثر عرضة للافتراس بينما الأسد والنمر اقل إنجابا لقدرتهما على البقاء أكثر.
بينما شرور الغريزة الجنسية عند الإنسان هي نتيجة لذلك التفكير العقلي الأناني الذي لا سبب له حيث الإنجاب لديه ضربا من الخيلاء، والآية القرآنية :" ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر" دقيقة في مضمونها، فالتفجر السكاني هو نتيجة لإعطائه شهوته الفرصة و باسم العقل ان تمتد هنا وهناك من خلال علاقات جنسية مشروعة و غير مشروعة باسم سيادة الذكورة و قدسية الرجولة.
و بين الشفاهة والكتابة يحاول الكاتب أن يقارب تقنيات الجسد بين تلك الصيغتين، كما يحاول رفع الستار عن أهم الرموز التي تستنطق الجسد و على أكثر من صعيد، يدفعه الفضول لطرح أسئلة وصوغ إجابات لا تنسب إلى ذاتها ريادية معينة بل مجرد نشر الرؤية على مساحات شاسعة، فضول لاستشفاف الإجابة يذكرني بعبارة لأنسي الحاج :"لا اسأل لأجاب بل لأصرخ في سجون المعرفة " فيعود للدين وللإسلام على وجه الخصوص ليستسقي شرحا لمواضيع مثل الاسم والرسم الوشم العطر اللبس في اللباس ما يغطي الرأس و يتضمنه و تقنية النكاح، بزاوية حادة و نظرة تعسفية مفرطة الإجحاف بحق المرأة باعتبار الجسد الأنثوي "منتج للشهوة" الجسد ألذكوري "يشتهي أكثر مما يفكر" دون أن يدخل نفسه في إطار تلك النظرة وإنما بشكل موضوعي وسردي.
فمثلا في حديثه عن الرأس وما يتضمنه يورد أن الشعر الطويل يغدو متعة للرجل،شهوة لمسية، وفضاء تأملاته فعلى الشعر إلا يشاهد، انه حرام ما دام يخفي حياة هي ذاتها نابعة للآخر (الرجل) فالشعر يربط بالعرش والعرس والعشر، والعين تعري حقيقة الجسد وتوقظه فثمة شهوة فاضحة تتقدمه لذا أمرت المرأة أن تغض النظر قبل كل شيء، والأنوثة تعبر عن توقها الشهوي عبر الفم الذي يعلن عن هشاشة الجسد وكحل طبيعي يؤمر الجسد بان يفتح كي لا يغري وأن فما يتكلم يعني جسدا يصبح جوعا. ولا تزال هناك الكثير من الأخبار السارة ففي تقنية النكاح يذكر الكاتب أن الجسد الأنثوي مسكون بالشيطان والجسد ألذكوري يتسلح بقوة ميتافيزيقية ويحمل معه جسدا مطهرا مباركا يواجه جسدا لا تخفى أبعاده الشيطانية فهناك حديث الرسول(ص) :" لو أن أحدكم إذا جاء آتى أهله ) اللهم جنبني الشيطان و جنب الشيطان ما رزقنا ) فان كان بينهما ولد لم يضره الشيطان "
إبراهيم محمود يرمي الطعم ليصطاد به فيذكر لاحقا في حديثه عن الجسد الفردي و الجسد الاجتماعي بان المجتمعات المحافظة و الموسومة بالكبت هي أكثر استعدادا للتفاعل مع مثيرات الجسد وتأثرا بها واستهلاكاً لها و هي هنا تؤكد حقيقة العنف الغريزي الصامت و المكبوت، فالجسد في المجتمع المحافظ ذو بعد واحد حيث الغرائز لا تروى و لا تعرف و لهذا تظل في العمق تمارس تخريبا فيه و تأثيرا مروعا في الإبداع والجسد المشبع غريزيا هو المتوازن و الذي تقمع غرائزه هو أشبه بمستودع بارود قيد الانفجار، مجتمع الأجساد المكبوتة هو مجتمع اللا فعل مجتمع انعدام التوازن الاجتماعي و خاصة للمرأة التي يغلّف جسدها بأكثر من حجاب مادي و معنوي مرئي و غير مرئي بتأثير من تصورات مرجعية محافظة، بينما نجد مجتمعات أخرى متحررة من المحرمات الجنسية تعتبر الجسد حقيقة موضوعية فتعطيه المجال الكافي لتصريف طبيعته و لهذا يكون إبداع الأفراد لا يقوم على مسرح التحرر من الضوابط الجنسية و إنما يرتبط بشروط أخرى يجب تحقيقها.
أظن أن الكاتب هنا صوّر الوجع الحقيقي للجسد الفردي و الاجتماعي فكلا منهما يؤثر بالآخر و لا يسعني سوى أن ارفع الشاّبو لكل ما ذكره إبراهيم محمود هنا.
كامتداد لهذه الأفكار يطل الكاتب على فضاء اكبر يبحث فيه عن علاقة الجسد بالزمن و كيف يمكن أن تكون علاقة متوازنة و مخصبة بدراسة تاريخ هذه العلاقة و النبش بين صفحات الذاكرة، ليجد أن هناك انفصام تاريخي آو نوعا من الانزلاق في تاريخ مجمد توقفت به و عليه الذاكرة في إطارها العربي _الإسلامي_ كنموذج للدراسة هنا، فبالمقارنة مع الذاكرة التيولوجية الأوروبية وجد أنها تحتفظ بصورة دراماتيكية للإنسان صورة الرجل الذي طرد من الجنة بسبب حواء الضلع القاصر و لكنها في مسارها التاريخي التصاعدي لم تبق أسيرة هذا التصور فعلاقة الرجل بالمرأة بقية ذكرى منزلقة في زمن غامض و يمكننا أن نشهد قدرة الذاكرة الأوروبية بالعموم على صناعة أزمانها بأبعادها المختلفة فهناك زمن يرجع اليه لخدمة ما يعاش و هناك حاضر ديناميكي يبرز فيه الجسد بكل عنفوانيته حيث يتنفس بعمق الزمن المجاور له.
أما في إطار ما هو متداول في الساحة الثقافية العربية والإسلامية فليس هناك حضور إلا للزمن الذي يشد الذاكرة إلى الوراء، ثمة زمن امبريالي معكوس يستنزف الذاكرة الجماعية ليحرمها من متعة التاريخ، فصورة الرجل الذي كانت المرأة سبب مصائبه و خروجه من الجنة لا تزال موديلا عنفوا نيا يستعاد و لا تزال تختزل التاريخ و تحيل الزمن إلى بعد واحد (ذكوري سلطوي) تؤكد على هذه الفكرة فاطمة المرسيني في كتابه "الحريم السياسي (النبي و النساء)" فتقول: "انه زمن موجه بشكل سيء صوب الأموات، الزمن ألعلقي الذي يقودنا نحو وليمة الأجداد وليمة جنائزية لحاضرنا البائس "
وبهذا نكون خارج التاريخ الحي نعيش اغترابا عن كل ما يشغلنا و يمنحنا القوة.
من التاريخ من الزمان والمكان ينتقل الكاتب إلى فصل يضج بالإثارة ليحدثنا عن الرقص المقدس حيث الفكرة القديمة للرقص كتعبير عن عبادة اله ما ولا تزال هذه الفكرة حتى الآن فثمة قوة تفترض و تلزم الراقص بقيام بحركات تؤكد طواعية الجسد لهذه القوة والجسد الأكثر تحركا وقابلية للرقص و انخراطا وأداء في قداسته هو الأكثر انسلاخا عن ذاته البشرية واغترابا عنها فالرقص المقدس يكاد يكون تراجيديا الجسد الصارخة والراقص لا يهز جسده انما يضغط على قواه يسخرها لمهارة الرقص التي لا تستهدف تحقيق رغبة شهوية عابرة أو مشاركة في طقس جماعي انما تسعى إلى قهر البعد المادي للجسد و تجاوز محدوديته المادية، ولعل زوربا قد مثل هذه الفكرة "حتى لو كان الموت يجب أن نحوله إلى رقصة " فالرقص يلهب الروح و يوقظ القوى الكامنة فيها و من خلالها تكتسب الحياة بعدا احتفاليا في عنفوان معانياها و تألقها، هو توسيع قاعدة المادي لصالح الروحي كما في حالة الرقص المولوي " يبحث عن الله عن الحقيقة عن اللا شيطان عن المطلق عن التعبد الروحي و المجرد"
من "أين الجسد " إلى "كيف يكون الجسد" ينتقل الكاتب للحديث عن الجسد الاستعراضي بعد أن تتطرق للجسد الكلاسيكي الذي يملك الاسم و نسب ومكان وتاريخ و علامة فارقة، ليحدثنا عن جسد حدثوي بكل ما تعنيه كلمة حداثة من قدرة على الانتقال و إحداث التغيير و التأثير و إمكانية في تجديد ذاته وامتلاكه التقانة في تكوين خطابه المرافق لقوته الجسدية، انه باختصار علامة من علامات القوة وهنا يتطرق الكاتب للحديث عن الصراع بين الجسد الاشتراكي البروليتاري الذي يعلن عن كونه صانع للتاريخ ومالكه و يحاول مرارا إثبات طهرانيته الجسدية والجمع بين ما هو مادي ومثالي، والجسد الرأسمالي الإنتاجي الذي شكل قوته من رأس المال و بتعاظمه اكتسب القوة و الهيمنة، هذه القوة في بعديها المادي و المعنوي جعلته مفتونا بذاته ساعيا لاستعراض قواه في كل مكان يحل فيه.
في حين يميل الكاتب إلى الجسد الرأسمالي باعتباره استطاع التحرر من قيوده التي تمنعه من إثبات ذاته المتوازنة كجسد تتمازج فيه الطبيعة و الثقافة بشكل هرموني رائع، وذلك بعد دراسة الكاتب لأفكار وفلاسفة حول الجسد حيث استطاعوا التأثير بالإنسانية و تدعيم نظرته نذكر منهم :
كارل ماركس أو الجسد الماركسي الذي يقوم على ادعاء تاريخي بان إنسانية الجسد تنهض الى تحريره من تفاوت قيمي و تكوين مجتمع لا طبقي يكون عبر خلق جسد واحد خال من الفوارق و التناقضات لكن هذا التصور لم يستطع إيجاد مقدمات قادرة على خلق هذا الجسد المثالي و بخاصة بعد وفاة ماركس وانجلز والايدولوجيا التي كان البيان الشيوعي ينبذها لم يتطهر منها والجسد الماركسي نفسه مارس حضورا ماديا من منظور مثالي.
أما نيتشه فيعتبر الجسد الهرقلي السوبرماني هو الشعار الأوحد لفكره في حياته بارتكازه على أن الجسد الرأسمالي هو الذي ينضح قوة وهو حامل التاريخ ويعيد إنتاج نفسه بشكل دوري أقوى فأقوى.
أما هربرت ماركوز ينطلق من مبدأ السعادة التي تحقق استمرار الجسد في الوجود حيث يتم إرواء الحاجات و إشباع الرغبات و الجسد الذي ينتقده في مداه الرأسمالي مسكون بقمعين: حيوي طبيعي كالكبت الجنسي وهيمنة الرموز الأبوية، وتاريخي بفعل سيطرة الرأسمال و تسلطها الأمر الذي يؤدي إلى قمع شمولي ينخر الجسد.
من الضفة الأخرى يجد الكاتب ان الجسد الاشتراكي أو الستاليني (إذا جاز القول) قام باحتكار التاريخ من خلال القوى المتمركزة (البروليتاريا) وأوقفه على حدود الشعارات التي تبجل اسمه ومن هنا كان انهيار الاشتراكية في نموذجها الستاليني نتيجة تفسخ الجسد الذي ضيق الخناق على روحه.
قبل وصول الكاتب إلى نهاية طريق بحثه واستكشافه للجسد يعود للجسد العربي ليراه مجروحا داميا ليس بسبب الدماء التي تقطر في العراق، فلسطين ولبنان بل بسبب القروح المتعفنة التي يعاني منها الجسد العربي والتي يردها الكاتب إلى عدة أسباب منها تقليص حدود الجسمي لصالح النفسي الدنيوي لصالح الأخروي، إضفاء طابع ذكوري على الجسد العربي، تغليف الجس بالكثير من الحجب سياسية اجتماعية دينية، اغتراب شبه مطلق للجسد.
عن جريدة شرفات / الكتاب صادر عن وزارة الثقافة
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |