راشد عيسى يحاور مخرج مسرحية ' خمسون ' فاضل الجعايبي في دمشق
2008-04-25
بمناسبة عرض " خمسون " ضمن فعاليات دمشق عاصمة للثقافة العربية قام الناقد المسرحي راشد عيسى بالحوار التالي مع مخرجها ونشرت في جريدة السفير
عرض المسرحي التونسي فاضل الجعايبي أول عروض مسرحيته «خمسون» في دمشق، بعد أن عرض في مسرح الأوديون في باريس كأول عربي يقتحم المسرح الفرنسي الأكثر عراقة. كما عرض في العديد من بلدان العالم، قبل أن يصل اليوم إلى دمشق، وغداً الخميس إلى بيروت (مسرح دوار الشمس)، اللتين لم يعرض فيهما منذ «عشاق المقهى المهجور» التي تركت أثراً طيباً لا ينساه عشاق المسرح في كلا البلدين. واعُتبر العرض حينذاك حدثاً مسرحياً بامتياز. فهل يكون «خمسون» حدثاً يهز خشبات المسارح، بعد هزة عنيفة أحدثها في بلده تونس على المستويات.
ولكن كيف يقدر المسرح على ذلك فيما يراه الجعايبي، في هذا الحوار، فناً متقهقراً بالياً أتت عليه السنون؟
لافت أنكم تعملون الآن على تعديلات في لغة العرض أمام الجمهور السوري.
} تعوّدنا أن نفعل ذلك في كل المناسبات السابقة، لأن غايتنا أن يصل عملنا إلى الناس، بنفس الطريقة التي نعمل فيها ترجمة إلى الفرنسية أو الإنكليزية. ولما كان من غير المعقول أن نقوم بالترجمة من التونسية إلى السورية، حاولنا تقريب بعض المعاني أو المفاهيم التونسية المحلية إلى جمهور سورية، مع أن الأمر ليس سهلاً للممثل. ولكنها ليست تغييرات كبيرة على أي حال. فعموماً لهجتنا مفهومة عربياً، باستثناء المصريين المنغلقين على ذاتهم، فهم يقولون إنهم لا يفهمون شيئاً، وهذا انغلاق وراءه إرادة مبيتة. مع أننا حينما قدمنا «فاميليا» اندهشنا من ردة فعل الجمهور المصري، وكأن الجمهور كذّب التحفظات المزعومة والأفكار المسبقة عند الاختصاصيين والمنظمين. وفي كل مناسبة توضع مسألة دعوتنا إلى مصر أمام حاجز اللغة. أربعة وثلاثون عاماً في مسيرتي الفنية ولم أرحل إلى مصر، لم أحظ باستقبال في مصر إلا في مرة واحدة. اقترفت عشرات المسرحيات جبتُ بها العالم مراراً، ولم أحظ باعتراف إخواننا المصريين، وهذه نقطة سوداء في التعامل الثقافي، وكأن هناك نكرانا واستنكارا لما نقدمه للمسرح العربي منذ ثلاثة عقود، لا يرفضه إلا المصريون لأن مصر أم الدنيا ولا يستطيع أي فنان عربي أن يتطاول على صولة الفن المصري.
أليس غريبا أن النقاش الأوسع مسرحياً حول الإرهاب يأتي من منطقة بعيدة نسبياً عن المناطق المشتعلة؟ من تونس؟
} بعيدة، ولكنها قريبة لأن الروابط الثقافية العربية كبيرة، فالمسألة ليست جغرافية فقط، فما يطرأ في العالم يهم الجميع. ليس هناك عالم عربي مغاربي وعالم عربي مشرقي. أصبحنا في المشاكل المصيرية نفسها. لكن ما نقوله في «خمسون» ليس من الخيال بل مستمد من الواقع الحقيقي. مشكلة الإرهاب، التي أضعها بين ظفرين، مشكلة حقيقية في تونس، طريقة العيش، ما يفكر فيه الإنسان وخاصة الشاب التونسي للتصالح مع ذاته. كيف اغترّ بالأبواق الدعائية المتطرفة في تسييس الدين الإسلامي الحقيقي. المسرحية افتراض حقيقي وخيالي. هذه البنت التي ترعرت بين والديها في ظل ماركسية تناضل لفرض حلم طوباوي في تونس، جمهورية ديموقراطية تعددية.. كيف اضمحل هذا الحلم وأخذ مكانه حلم آخر لاسترجاع عزّ الأمة المفقود! رحلتْ إلى فرنسا لأنها طردت من الجامعة التونسية، فاكتشفتْ الإسلام هناك، فتحجبت وتصوفت ورجعت إلى تونس، وتعرفت على شبان وشابات اعتنقوا الإسلام السياسي اعتناقاً جديداً وغريباً في تونس، وهذا يكاد يكون واقعاً ملموساً حولناه إلى افتراض مسرحي خيالي بعملية تفجير ومطاردة من البوليس السياسي، وبعملية تقييم ذاتي لنا نحن اليساريين الديموقراطيين الطوباويين، ليضع النقاط على الحروف. فما هي مسؤولياتنا نحن؟ إنها مسؤولية الأنظمة والأفراد. هذه الجدلية بين مسؤولية الفرد والمجموعة هي أساس طرحنا في «خمسون». إنهم يطاردون ما تسببوا فيه، ما صنعوه على حساب التعددية وحرية التعبير، مطاردة اليسار ثمنها بروز المتطرفين، الغرب مسؤول عن ذلك أيضاً، ليس هناك من بريء، المسؤولية متعددة. كان قرارنا في «خمسون» أن نحاور الجميع ونفهم الجميع. حينما مُنع العرض فلأننا اتُهمنا بإعطاء الكلمة لليسار بمختلف مستوياته والتطرف بكامل مستوياته. كان يجب برأيهم أن نحكم على الجميع بالإعدام. أن نقرر أن النظام أبيض والآخرين سود. اتهمنا بأننا أعطيناهم الكلمة حين رحنا نحاول فهم مآربهم. نحن كمواطنين فنانين حتميٌّ بالنسبة لنا فهم الواقع واختزاله واقتراحه بطريقة شعرية فنية نصبو أن تكون عالية، لأن المسرح لذة، متعة، والتفكير فيه متعة ولذة أخرى. لا نحب المسرح الاستهلاكي الترفيهي، فلنا انشغالات فكرية وسياسية وأساساً انشغالات فنية. نتمنى أن يكون عملاً مسرحياً متكاملاً يلقى القبول الذي لقيه في مختلف أنحاء العالم، في مسرح الأوديون الذي لم يسبق أن أعطى الكلمة لفنانين عرب أو أفارقة أو آسيويين، كنا، مع جليلة بكار، أول من اعترف بهم مسرح الأوديون، وأعطاهم هذه البطاقة البيضاء ليندّدوا حتى بالغرب إذا شاؤوا، وبأنظمتهم إذا شاؤوا. بعد الأوديون، وأزمة المنع في تونس، تمكّنا من التوجه إلى جمهور مختلف. واليوم نحن مشتاقون للقاء أشقائنا في سورية، وغداً في بيروت.
لا نقبل أن نحذف
كيف انتهت مشكلة العرض مع الرقابة؟
} بالمواجهة والتصدي والاستمرارية، وبالحجج. وقد كان من المفارقات، أن لجنة الرقابة صفقت للمسرحية، فيما كان الرقيب الأكبر وزير الثقافة الذي عبث عبثاً مبرحاً وطلب حذف مئتين وثمانين كلمة وجملة ومقطعا ولوحة. تصدينا له بكل ما أوتينا من شجاعة وصرامة. قلنا له لن نقبل أن تحذف ولو كلمة واحدة من العمل، واستعملنا كل شبكات معارفنا، واتصلنا بالمثقفين الأحرار، والمجتمع المدني، والمتفرجين الذين يقدرون أعمالنا، فكانت ردود الفعل في تونس وفي الخارج في غاية من التضامن والمساندة، أتتنا مئات الإمضاءات على عريضة مفتوحة إلى وزير الثقافة التونسية، فاضطر أن يجيب صحفياً، واضطررت أن أواجهه صحفياً. ثم في أيام قرطاج السينمائية استغللت هذه الفرصة لأندد به وأطالب بحذف لجنة الرقابة، إذ آن الأوان أن لا تبقى أي وصاية على الفن والفكر في تونس. مساهمتنا هذه حركت عدة سواكن وزعزت عدة حتميات في علاقة المفكر والفنان مع الرقابة. رفضنا مقاييسها ورفضنا حتى كيانها. وصلت القضية إلى مجلس النواب ومجلس المستشارين، وصادف في الفترة نفسها مداولات على ميزانية الثقافة. ولم نفاجأ أن يهتف لنا مدير ديوان وزارة الثقافة ليطلب مني أن أتقابل مع هذا الوزير، فاستقبلني بحرارة غير منتظرة، لكنه طلب مني أن أحذف في نهاية المطاف ست جمل بعدما كانت مئتين وثمانين. قرّر بمعجزة، لا أعرف ما وراءها، أو تَقرّر في أعلى هرم في السلطة السياسية التي طلبت من وزير الثقافة أن لا يواصل تعنته، وأن لا يمس منارتين تضيئان على الفن العربي والفكر التونسي حسب ما وصل إلينا. رفضتُ الحذوفات الست، وقبلنا حذف كلمة واحدة هي العلم، حيث الأستاذة الشابة تفجر نفسها تحت العلم. قال لي الوزير أنا كمواطن وصديق أزعج من احتراق العلم، فعوّضنا العلم بالقرنفل، تفجر الأستاذة نفسها تحت القرنفل. منذ حصلنا على التأشيرة قدمنا هذا العمل أكثر من سبعين عرضاً في تونس وخارجها. كان هذا الإقصاء والمنع دعاية كبيرة جداً لهذا العمل. ونحن ماضون في مواصلة تقديمه، شرقاً وغرباً، ونعتبره هاماً جداً لفهم هذا المشكل العضال؛ القمع والتعذيب والإقصاء وقطع الألسنة وقطع الرؤوس قبل فهم ما تفكر فيه. ولأننا نريد أن يتصالح الإنسان التونسي مع ذاته وذاكرته وواقعه، أو أن يفهمه.
سينمائي مكبوت
من أين بدأ «خمسون»؟ من فكرة، صورة، حادثة؟ ماذا عن مسيرته؟
} كأنك تعلم أننا لم ننطلق من نص. النص ليس نقطة انطلاق بل وصول. كل أعمالنا تنطلق من صورة، لقاء، صعقة أن
حب، رغبة حقيقية في طرح تلك القضية الراهنة أو تلك. لكن أعمالنا ليست ذهنية فقط، ولا أدبية فقط، هي تنطلق من انشغالات الإنسان التونسي في وعيه أو لا وعيه. كما ننطلق نحن، أنا وجليلة ومن معنا، من وعينا ولا وعينا. لقد عشنا قبل بداية المشروع، وقبل اقتراح مسرح الأوديون أن ننتج عملاً جديداً، رحيل رفاق درب، أو حتى أناس أتوا قبلنا كانوا ينتمون إلى الحزب الشيوعي التونسي، أو إلى تيارات أخرى. رحلوا دون أن يسمع بهم أحد. هما أحمد بن عثمان الذي قضى في حادث سير في المغرب بعد أن كان طرد من تونس. ونور الدين بن خضر الذي قضى بالسرطان. رحل الاثنان وكأنهما لم يكونا. الاثنان تقاسما سجون بورقيبة والتعذيب الذي هتك جسديهما. هذا كان الشرارة الأولى. قالت جليلة لا أقبل أن يرحل الرجلان، ومن سيرحل بعدهما، من دون أن نقصّ قصتهما، فاليسار التونسي لا يدرّس في كتب التاريخ ووسائل الإعلام. هناك حصار إعلامي تربوي سياسي متواصل في تونس، وتغييب لكل الذين لا يفكرون بالخط الرسمي. كانت هذه الفكرة الأولى التي ساقتنا إلى أن نتحدث عن تاريخ تونس المعاصر منذ الاستقلال. فاليسار التونسي وليد الاستقلال. ساقنا هذا لنتحدث عن الذاكرة الحية، وتاريخ تونس الحديث وتاريخ اليسار، الذي إن تحدثنا عنه تحدثنا عن النظام الأول والثاني، والقمع والتعذيب والواقع الراهن. كيف قضي على أفكارنا الديموقراطية وحلّ محلها التطرف الإسلامي. لماذا تحجبت المرأة التونسية. لماذا تطرّف الرجل التونسي. لماذا يفجر التونسي نفسه في العراق وأفغانستان. لماذا زج النظام الحالي بالإسلاميين في سجون تونس أو دفعهم للهروب منها. لكل هذه الأسباب مضينا في كتابة نص متشبع بمتطلبات الركح طبعاً، لأننا لا نكتب في خلوة مكاتبنا.
سبق أن حوّلت بعض العروض إلى السينما، لماذا؟ وهل تنوي تحويل «خمسون» كذلك إلى السينما؟
} ليس هناك نية لتحويله إلى سينما. ولم أحوّل كل أعمالي، هنالك فقط ثلاثة أعمال: أنجزت عملاً سينمائياً لا علاقة له بالمسرح هو «شيشخان». العمل الوحيد الذي وقعتُه أنا هو «جنون» كاقتباس حرّ للمسرحية، كما في مسرحية «عرب» و»العرس«. ذلك لأنني سينمائي قبل أن أكون مسرحياً. عملت في التلفزة التونسية في أوائلها، وكدت أسافر إلى يوغوسلافيا لأتعلم الإخراج السينمائي. ثم إنني متفرج مريض مولع بالسينما ربما أكثر من المسرح، لأنني أعتقد أن السينما متقدمة كثيراً على المسرح. وكأن المسرح أمسى فناً متقهقراً بالياً قديماً جداً، لا يتحرك أو يتقدم بسهولة، السينما متقدمة جداً على المسرح، لا بآلياته وتقنياته بل برجاله وطروحاته وأفكاره المتقدمة، كأن المسرح فن قديم بال أتت عليه السنون، لا يتحدث دائماً عن الواقع، لا يجازف ولا يعبر عن غضب ولا يسمي الأسماء بمسمياتها، كأنه لم يخرج من زمن الإغريق .. كأن الشبان لا جرأة حقيقية لديهم، فيراوغون ويستعملون آليات تمويهية وشعارات ورموز تساهم في إقصاء المسرح عن المتفرج المعاصر. من المفارقات الغريبة أنني أفضل السينما على المسرح. ربما أنا سينمائي مكبوت، ومسرحي أعطى لنفسه الإمكانيات المتعددة للتعبير بوسائل بسيطة. لكن هناك شيئا موضوعيا آخر يتعلق بالأعمال التي حوّلناها إلى السينما، هو خوفنا من تلاشي الذاكرة المسرحية، الخوف من الاندثار وموت المسرح مع آخر عرض أمام الجمهور.
(دمشق)
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |