خمس وثمانون لوحة حصيلة الملتقى الدولي التشكيلي في الرقة
2008-05-23
صباحا، وبعد الإفطار مباشرة، تكون الحافلات بانتظار الفنانين لنقلهم إلى المعسكر حيث تبدأ ورشة العمل في الهواء الطلق، وفي طبيعة مكشوفة، وتحت خيمة مفتوحة من الجهات الأربع، حيث يختار كل فنان زاوية خاصة به لينصب لوحته ويغرق بألوانه ورؤاه وتأملاته.
ورغم أن بعض الفنانين قد جاء إلى الملتقى بخبرات سابقة، منها اعتياده على العمل في ورشات جماعية وملتقيات مشابهة، إلا أن الكثيرين كانت هذه التجربة، بالنسبة له، الأولى من نوعها كالفنان بسيم السباعي الذي اعتبر أنه، في هذه الملتقى، قد تجاوز شرطه الفردي، وهو الذي لم يكن يعرف سوى مرسمه الخاص.
من جهة أخرى رأى البعض أن العمل في شرط الجماعة المكشوف قد يغير من رؤية الفنان،
وقد يؤثر على مسار التخلق الفني، فتبدل الرؤية والإضاءة ووجود الناس حول الفنان والمشاركة الخفية من قبل الفنانين بعضهم بلوحات الآخر، كل ذلك من العوامل المؤثرة أثناء العمل، حسب الناقدة د. أثير محمد علي ، التي تضيف : ربما هذا قد يكون بعض جمالية هذا الملتقى.
ويذهب الفنان السوري جورج ميرو المذهب نفسه، إذ يؤكد أن تأثير مثل هذه التجمعات على اللوحة ورؤية
الفنان مختلف عن العمل في المرسم الخاص، ففي المرسم يمكن للفنان المحو والشطب والتعديل وإعادة صياغة مفردات اللوحة مرارا للتأكيد على تقنيتها وجماليتها،أما في الملتقيات، فالعمل مباشر ومكشوف، وقد يتحرّج الفنان من إعادة العمل على لوحته أو تعديلها ..
ويتابع الفنان ميرو ((علي أن أقول شيئاً مهما، إن حسن تعامل إدارة المهرجان مع الفنانين، وحسن ضيافتهم، جعلهم يحبون عملهم ويجهدون فيه لرسم أكثر من لوحة لتقديمها هدية لمحافظة الرقة، فأنا شخصياً أنجزت ثلاث لوحات في هذا الملتقى فيما لا أستطيع في الظروف العادية إنجاز أكثر من لوحة شهرياً ..)).
كذلك فإن الفنانة ليلى رزوق مأخوذة بهذه التجربة الجماعية، فهي تعيشها للمرة الأولى ولهذا لم تشعر بالتعب، ولفرط استمتاعها بها أنتجت خلال أسبوع خمس لوحات، وهذا ما لم يحدث أبدا لها من قبل.
من جهة أخرى يرى بعض الفنانين ان تغير شروط العمل الفني يجب أن لا تكون مؤثرة جدا على أصحاب الخبرة والتجربة، فالفنان السوري محمد أسعد سموقان يعتقد أن على الفنان أن يكون قادرا على العمل في كافة الظروف، وقد كان هذا واضحا أثناء العمل .
ويبدو أن ما قاله لنا سموقان يمتلك مصداقيته الخاصة، فقد شهد المعسكر المكشوف نهارا ماطرا أعقبه عاصفة غبارية (عجاج) منعت الرؤية وخربطت الجو العام وهذا ما أربك بعض الفنانين واضطرهم لنقل لوحاتهم أو حمايتها، إلا أن سموقان، وحسب الفنانة منى مقدسي، استمر في عمله متحديا الطبيعة، مبررا بأنه سيعمل مغمض العينين لأن لوحته ورؤاه الفنية تشع من الداخل.
ويبدو أن أهمية هذا الملتقى لم تكن في قدرته على كسر الشروط الفردية للفنان وتخليق تقاليد عمل فني جماعي، غير معروف للكثيرين، بل يمكن له أن يتحول إلى ظاهرة ثقافية وممارسة فنية تتسرب شيئا فشيئا إلى النسيج العام للمجتمع، للتحول بدورها إلى تقاليد وهوية فنية عالمية ذات طابع محلي، وهذا ما أجمع عليه جميع الفنانين الذين التقينا بهم، وإن كان لكل واحد منهم رؤيته الخاصة.
فالفنان ناظم حمدان متفائل بأن هذا الملتقى سيكون لبنة أساسية ومهمة لتكريس ظاهرة اللون والتكوينات والتشكيلات في الفن السوري، وهو فرصة مهمة تمكن المتلقي من الإطلال على الحركة والإحساس واللون، وهذه قضية مهمة يفتقدها المتلقي السوري، والعربي عموما، لشيوع الأمية البصرية، وربما تساعد مثل هذه الملتقيات المكشوفة، وهذا الاتصال المباشر بين المتلقي والفنان على تخفيفها.
ويضيف حمدان ((أهم الأشياء التي لوحظت في الملتقى هو تعدد الأجيال وهذا مهم في التواصل الثقافي، كذلك لوحظ تعدد المدارس الفنية وهو ما شكل تنوعاً لافتاً..
بالعموم، إن الفنان العربي موزع بين فوضى الحداثة والإرث الثقافي التقليدي، وهذه الملتقيات مع الزمن والاستمرارية بها ستقود إلى تشكيل هوية ثقافية وتقاليد فنية للفن التشكيلي ..)) .
أما الفنان سموقان فيرى أن هذا الملتقى قد حفل بأسماء هامة في التشكيل السوري قدمت تجربتها الخاصة بها ونجحت في ذلك، كما كان هناك فنانون عالميون جاؤوا إلى هذا الملتقى مع تجاربهم الكبيرة، ولا ينفي هذا وجود بعض التجارب العادية ((هذا الملتقى هو من أهم الملتقيات التشكيلية التي أقيمت في سوريا، وأرى أن هذه الملتقيات هي التي تشكل الأنوية الأولى لمتاحف الفن الحديث ..
يجب أن يستمر هذا الملتقى ليشكل توأمة مع المهرجانات العالمية، كالتي تقام في تونس أو المغرب، ولا ينقصه شيء ليكون كذلك، فالقائمون عليه وفروا له كل ما يحتاجه من إعدادات ومستلزمات وإرادة عمل، وقد كان جميع الفنانين، سوريين وعرباً وأجانب، متحمسين لإنجاح هذا الملتقى والذهاب به إلى العالمية ..))
وللفنانة عتاب حريب رأي يشكل قيمة مضافة إلى مجموع الآراء الأخرى، فهي إذ تقر بأن جميع دول العالم تقيم ملتقياتها التشكيلية في العراء الطلق، إلا أن أنها تنبه إلى أن ورشات العمل لا تقتصر على نفس المكان كما حدث في هذا الملتقى، فالمطلوب الانتقال أيضاً إلى الخارج وفي مناطق مختلفة من المنطقة، كما لا يكفي الرسم على اللوحات القماشية إذ من المفروض أن تكون هناك لوحات جدارية في ساحات المدينة والأبنية العامة كما هو عليه الحال في الملتقيات الأخرى كمهرجان أصيلة في المغرب والمحرس في تونس حيث الجداريات منتشرة في هذه المعارض.
شكل هذا الملتقى بالنسبة للبعض حالات خاصة، فـ د.أثير محمد علي، وبحكم إقامتها الطويلة في أسبانيا، ترى فيه عتبة لاستعادة القابلية للانخراط في المجتمع السوري مجددا، والدخول كذلك إلى وجهات نظرية مختلفة من أنحاء العالم وخصوصاً العربي.
وترى أن للملتقى أهمية، إضافة للهم الإنساني والتواصل لثقافي، تكمن في رصد المسار اللا مكتمل وهو يسعى للكمال، بمعنى التواصل مع العمل الفني وهو يتخلق شيئاً فشيئاً بكافة مراحله وكذلك الاقتراب من انفعالات الفنان وهو يعمل ضمن الجماعة.
ثمة حالة خاصة أيضا، حالة خاصة جدا مثلها الفنان الفلسطيني محمد الوهيبي بعلاقته السريعة والحميمة مع الفرات، الذي لم يكن يبعد عن المعسكر سوى عشرات الأمتار، عندما أرشف حوارية بينه وبين حصى النهر: لقد كان معظم شغلي على حصى الفرات .. هذه التي ذكرتني بحصى طبرية التي حرمني الاحتلال من رؤيتها .. والتي هي معي أينما رحلت.
قبل الوداع، وبعد كلمات الختام، نقلت جميع اللوحات التي أنجزت في المعسكر خلال أيام الملتقى، إلى صالات العرض في مديرية الثقافة في معرض خاص بها..
عن هذه الأعمال وأساليبها وما تمثله من قيمة فنية يقول الرسام والناقد الفني سامر إسماعيل ((لقد عكس هذه الأعمال مجمل التيارات في الحركة التشكيلية السورية، وفي خارجها، الأمر الذي خلق نوعاً من الحوار والتواصل البصري بين الفنانين من سوريا وخارجها فكانت تجربة الفنان الألماني بحضورها الذي تجلى بالتجريدية السريالية والفنان السويسري بواقعيتها، وأعمال ذات طابع تجريبي للفنانين الأتراك، وثمة تجارب من الدول العربية خلقت فضاءً وروحاً للملتقى كالفنان الفلسطيني محمد الوهيبي والفنانة المصرية أمل نصر والمغربي محمد المرابطي، ومن التجارب السورية نشير إلى بعض التجارب التي أضحت بصمتها قوية بلغتها الفنية وحضورها في المشهد السوري مثل إدوارد شهدا بخصوصيتها الفنية، والإحساس الوجودي والتعبيري في أعمال غسان نعمة وزهير دباغ ومائيات عتاب حريب الناضجة وغيرها ..)).
جدير بالذكر ان ما يقارب الخمسين فنانا وناقدا وإعلاميا قد شارك في هذا الملتقى الذي شهد أيضا العديد من الندوات النقدية المسائية.
غادر الفنانون الرقة تاركين ورائهم عشرات اللوحات وتاريخا مكتوبا بالحبر الإنساني وبأبجدية اللون، راضين ومرضين، أما الرقّيون فقد بدوا أكثر ثقة بتجربتهم الأولى، وهم الذين كانوا خائفين من فشلها ..
أجل .. كان الرقّيون أكثر ثقة، بل الأكثر فرحا، وهم يتطلعون إلى ترسيخ هذا الملتقى وتحويل مدينتهم الصغيرة إلى متحف للفن الحديث.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |