Alef Logo
المرصد الصحفي
              

"حفيدة السيد لين" لفيليب كلوديل ... بعد الحرب ـ هيثم حسين

ألف

2013-07-17

يتناول الفرنسي فيليب كلوديل في روايته «حفيدة السيد لين» (ترجمة أشواق سليمان، نينوى، دمشق) جانباً من الفجائع التي تخلفها الحروب، وكيف أنها تشوه البشر، وتدفع بعضهم إلى الجنون، عساهم يجدون فيه ملاذاً يمنحهم تعزية ما، أو يقدم لهم مواساة تكاد تكون مستحيلة التأثير.

كلوديل، الذي يدرس في جامعة نانسي قسم الآداب والحضارة الأنثربولوجية، يسرد حكاية لين، وهو رجل عجوز يصل إلى مدينة ساحلية على متن باخرة آتياً من منطقة تسودها الحرب ويعمها الاقتتال والتناحر، يحمل بين ذراعيه حقيبة خفيفة الوزن وطفلاً رضيعاً أخف منها. تضم الحقيبة ثياباً رثة وصورة شمسية عتيقة، وكيساً من الكتان يخبئ فيه حفنة من تراب بلده.

يُوضَع لين مع غيره من اللاجئين في عنبر يُخصص لهم، إلى حين النظر في أمرهم، وهناك يولي عنايته الكاملة للطفلة التي يبقيها مقمطة، ويقول إنها حفيدته الوحيدة صانغ ديو، وإن والديها قد قضيَا في انفجار قنبلة، بينما ظلت هي وحدها سلواه والعزاء. يظل يدندن لها بأغنية واحدة لا يعرف غيرها، وكأنه يغني لنفسه من أجل سماع صوته وكذلك موسيقى لغة بلده. يستذكر بمرارة كيف أنه وصل لاهثاً إلى موضع الانفجار في حقل الأرز ليرى حفرة هائلة هادرة، وبجانبها جسد ابنه وزوجته، وعلى مسافة قليلة منهما الطفلة الصغيرة. يحلو له أن يتذكر ويتخيل بأن عيني الطفلة كانتا مفتوحتين، وأنها كانت سالمة في قماطها، وبجانبها لعبتها التي كانت شظية قنبلة قد اقتلعت رأسها. يجد لين نفسه غريباً في بلد أجنبي، لا يعرف لغته، ولا يعرف أحداً فيه، يكرس وقته للاهتمام بالطفلة التي لم تكن تثور أو تبكي أو تصرخ إطلاقاً، وقد حلا له أن يخمن بأن حفيدته بذلك تريد أن تساعده على طريقتها، بأن تحبس بكاءها وحاجاتها الضرورية كرضيعة. يظل حبيس العنبر أياماً، لكن المسؤولة عن اللاجئين تنبهه إلى ضرورة الخروج للهواء الطلق، وأقنعته بأن حفيدته تحتاج إلى استنشاق هواء نظيف، فرضخ لذلك، وكتم خوفه من الخروج والمشي في تلك المدينة الغريبة، وأنه يخاف من مقابلة نساء ورجال لا يعرف وجوههم ولا يفهم لغتهم.

يتذكر قريته التي كان الأهالي فيها يعرفون كل شيء بعضهم عن بعض، ينقبض قلبه حين يجد بأنه يتحدث عن قريته بصيغة الماضي. يصف كيف تم إحراق كل المنازل أو تهديمها، وكيف قتلت الحيوانات كلها، وكيف تشتت الناجون في بلاد اللجوء مثله. يتعرف أثناء خروجه من العنبر إلى السيد بارك، يرتاح لرفقته، يتجاذبان أطراف الحديث من دون أن يفهم أحدهما من الآخر سوى صباح الخير، التي يظلان يكررانها كثيراً، وكأنها تختصر اللغة والمشاعر والمواضيع معاً. يرتاح لين لأن بارك لا يعرف لغته كي لا يسأله عن الماضي وينبش أحزانه.

يرغب لين بالبقاء قوياً لأن حفيدته تحتاج إليه، وأنه لا بد أن يكمل رسالته في إنقاذها، ويعتقد أن عليه أن يقص عليها حكاياته عن القرية والساقية والغابة ووالديها. يجد في بارك صديقاً حميماً، يعتاد وجوده إلى جنبه. أدهشه بارك وأضفى تجديداً على رتابة أيامه وحياته. حكى له بكآبة عميقة عن ماضيه ودوره المخرب في الحرب التي اقتيد إليها حين كان شاباً في العشرين من عمره، وكيف أنه نكل بالناس كغيره من الجنود، وصرح له بجهله بالأمور حينذاك، وتعرضه كغيره للتحايل والخداع. ثم يهدي للسيد لين ثوباً جديداً لحفيدته، معبراً عن تقديره لحرص السيد لين ووفائه، ومحاولاً البرهنة على التعاطف مع مأساته. يسايره كأنه يكفر بذلك عن خطاياه.

بعد أيام من البقاء في العنبر، يوضَع السيد لين في مأوى للعجزة، يُسمَح له بأخذ حفيدته معه، وهناك يشعر بغربة شديدة تجتاحه، يحاول الهرب والعثور على صديقه بارك، لكنه يفشل ويعاد إلى غرفته، بعد أن يتم حقنه بالمهدئات، لكنه لا يتناسى فكرة العثور على صديقه، بل يؤجلها لحين التخطيط للهرب مرة أخرى، وينجح في المرة الثانية بالهرب، يأخذ معه حفيدته ويبحث عن بارك ليشعر معه بالأمان الذي افتقده. وبعد جولة طويلة في شوارع المدينة وأزقتها، ينال الإرهاق منه ويكاد يقضي عليه، يصل إلى الشاطئ الذي كان يقابل صديقه فيه، يناديه بأعلى صوته بالجملة التي تختصر عنده اللغة وموضوعاتها ومفرداتها، يرد عليه بارك التحية، وبمشهد سينمائي يحاول كل واحد منهما اجتياز الشارع للوصول إلى الجهة الأخرى. يجرجر لين جسده المثخن بالجراح والمنهك بفعل الزمن والأرق، يجاهد للوصول إلى بارك، يغفل عن السيارات المسرعة التي تسير في الطريق، لا يرى سوى بارك في العالم. يلمح حركاته المحذرة له، لكنه يظن بأنها تعبيرات عن الشوق ليس إلا. وفي لحظة حاسمة تصدمه سيارة مسرعة، تلقي به على قارعة الطريق، يتكوم على جسد حفيدته يحاول إنقاذها، يتجمهر الناس من حوله، يسارع صديقه إلى إنقاذه، يجده ينزف ويلفظ أنفاسه الأخيرة. يحمل بارك الدمية التي كان لين يلهج باسمها، يناغيها ويدندن لها الأغنيات، ويصر على أنها حفيدته صانغ ديو التي قضت في الانفجار مع والديها.

ينظر لين إلى صديقه، يبتسم له ويضم اللعبة الجميلة بين ذراعيه النحيلتين، يضمها كما لو أن حياته متعلقة بها، وكما لو أنه يضم فتاة حقيقية صامتة هادئة وأبدية. الرجل الذي اجتاز حروباً ومجاعات وقطع بحاراً، يلقى حتفه في محاولة اجتياز الشارع. تخونه قواه كما خانته الحياة التي سلبت منه أعز أحبائه وأهله.

يشتغل كلوديل في هذه الرواية، كما في روايات سابقة له، كروايته «الأرواح الرمادية»، على فكرة رئيسة، وهي كيف أن الحروب تشوه البشر. ونراه يُبرز من خلال حكاية السيد لين تشبثَ الإنسان بالأوهام حين تتعاظم المآسي، وكيف أن الجنون يمكن أن يغدو مَهرباً في حالات الحروب الطاحنة المجنونة التي تتسبب للناس بالتشرد والرعب والقتل والدمار والمجازر. كما يبرز نقط، وهي البحث عن السلام المفقود في قلب الجنون القاهر، وفق ثنائية متناقضة، حين ينهض العقل بدور المدمر، في حين يمارس الجنون دور المرمم المؤمل.

عن جريدة الحياة.








تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow