Alef Logo
مقالات ألف
              

هل تشكل قصيدة النثر بديلا لقصيدة التفعيلة؟ فخري صالح

ألف

2013-09-16

تخطيط أولي لحال الشعر العربي الآن

بدأت حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر في خمسينيات القرن العشرين، متساوقة مع التحولات الجذرية التي عصفت بالقصيدة العربية في نهاية الأربعينيات، فقد انفجر الشكل الإيقاعي الذي ساد على مدار حوالي ألفي عام. كان الشعر العربي، كما حفظته لنا دواوين الشعراء وكتب السير والتاريخ والموسوعات العربية القديمة، مثل كتاب الأغاني وكتب الحماسة، وما يسمى في النقد العربي القديم «طبقات الشعراء»، قد استقر على طبيعته الإيقاعية المتمثلة في البنية الشطرية والقافية المتكررة.

لكن شعراء أربعينيات القرن الماضي، كنازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وأدونيس وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، ومن بعدهم شعراء الخمسينيات والستينيات والسبعينيات كسعدي يوسف ومحمود درويش وسميح القاسم ونزيه أبو عفش وممدوح عدوان ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وغسان زقطان، وآخرين من أقطار عربية مختلفة، قاموا بانتهاك تلك البنية المتوارثة المستقرة لتصبح التفعيلة المفردة، وهي أساس البنية الإيقاعية في الشعر العربي، هي البنية التي يستند إليها الشعر الحر، أو شعر التفعيلة استنادا إلى تلك البنية الإيقاعية الصافية غالبا الممتزجة بتفعيلات مقاربة في أحيان قليلة. وقد صاحب تلك الثورة الشكلية اندفاع باتجاه الاستفادة من الأمثال والحكايات والأبطال الشعبيين، واستخدام مفرط للأسطورة والخرافة والنص القرآني، لإضفاء أبعاد على القصيدة العربية في القرن العشرين تجعلها تقترب من الحياة الراهنة والموروث العربي في الوقت نفسه.

لقد تم تحديث بنية القصيدة العربية من خلال تغيير البنية الإيقاعية من جهة، كما جرى في المقابل التخلي التام عن الإيقاع في قصيدة النثر التي تبنتها بصورة أساسية مجلة «شعر» التي أنشأها يوسف الخال عام 1957. وتبدو قصيدة النثر، بأعلامها الكبار في الشعر العربي المعاصر: محمد الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج وتوفيق صايغ، إضافة إلى الأجيال التالية التي جاءت بعدهم كسليم بركات وبول شاءول وعباس بيضون وبسام حجار ووديع سعادة وعبده وازن وحلمي سالم وأمجد ناصر ونوري الجراح ووليد خازندار وزكريا محمد وسيف الرحبي، محاولة للتواؤم مع إيقاع العصر، فهي تحاول تغيير تراتبية العناصر المكونة للشعرية بحيث يصبح السياق هو المحدد الأول للشعرية مهملة العناصر الشكلية التي استقرّ عليها النوع الشعري العربي لعصور طويلة؛ وهي بذلك تولد شعرية الموقف والحالة، أي الشعرية النابعة من سياق تأليف الكلام لا من العناصر الملصقة على جسد الكلام من قافية ووزن وتناغم داخلي. إن جماليات العصر الحديث هي جماليات التنافر وليست جماليات التناغم، وكل من يحاول إضفاء انسجام على العصر يخطئ شخصية هذا العصر وطبيعته المعقدة.

مجلة شعر

في هذا السياق لعبت مجلة شعر دورا أساسيا في تحديث القصيدة العربية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، عبر شعرائها ونقادها الذين واصلوا مشروعها من خارجه، وعبر من ألهمتهم كمجلة ومشروع، وطريقة تفكير بالشعر والنقد والثقافة والفكر، من الأجيال الطالعة بعد غيابها. وهي بهذا المعنى غابت كمجلة ولم تغب كمشروع؛ كفت عن الصدور ومتابعة دورها كساحة للجدل وحوار الأشكال والتجارب، وبقيت كتجربة ومثال وطريقة فهم للإبداع والحداثة. هكذا كانت «شعر»، بكوكبة الملتفين حول مؤسسها يوسف الخال وحول مشروع مجلته الليبرالي، المتفتح على أسئلة الحداثة، وتحديث الشكل الشعري، وتطوير العقل النقدي، وفتح الأبواب، بأوساعها على، الثقافات الإنسانية المختلفة، وخصوصا الغربية منها، نوعا من الرد على مشاريع ثقافية عربية أخرى تدعو إلى الإجابة عن أسئلة الالتزام والقومية، والثورة عن الاستعمار. لا يعني هذا أن «شعر» كانت بعيدة كل البعد عن التيارات الشعرية والنقدية والفكرية التي حاولت الإجابة عن تلك الأسئلة، بل يشير إلى كون تلك المجلة، التي صدرت في فترة كان الصراع قد اشتد فيها على هذه المنطقة من العالم، أقرب إلى أن تكون مهمومة بتحديث الأشكال والابتعاد ما أمكنها عن الاصطفاف السياسي، والتعصب لفكر بعينه، والمساهمة في النزاع الحاد الذي نشب بين الشرق والغرب في فترة الحرب الباردة.

وإذا كانت مجلة «الآداب» مثلت، في تلك الحقبة العاصفة من حياة العرب المعاصرين، الناطق الثقافي باسم التيار القومي، الأقرب إلى المشروع الناصري، فقد نظر إلى «شعر» بوصفها ممثلة التيار الليبرالي في الثقافة العربية، ذلك التيار الذي يعد نفسه أقرب إلى الغرب ومشروعه الديمقراطي التحديثي، المعادي في ذلك الحين للماركسية والتيارات القومية العربية الصاعدة في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. ونحن نعرف أن هذا التصنيف الذي دمغ مجلة «شعر» قد أقصاها، خلال فترة صدورها القصيرة نسبيا، عن التيار القومي العريض الذي اكتسح الشارع العربي في تلك المرحلة، وألحقها بالفكر السوري القومي الاجتماعي، بسبب انتماء يوسف الخال، وعدد من محرري المجلة وبعض كتابها، إلى الحزب في فترة من فترات حياتهم.

ما يهمنا التشديد على مركزيته في مشروع «شعر»، ليس الرحم السياسي الفكري الذي طلع منه مؤسسها والكوكبة الشعرية النقدية التي التفت حوله، بل ما تركته المجلة من بصمات على الكتابة الشعرية، والنقدية، والرؤية الثقافية الداعية إلى التواصل مع الشعر والنقد والفكر في الصقع الغربي من الكرة الأرضية. صحيح أن مجلة الآداب عرفت القارئ العربي في تلك الحقبة على تيار الالتزام في الأدب والنقد والفلسفة، وجعلت جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار جزءا من المعركة الثقافية الفكرية التي خاضها المثقفون القوميون العرب، بمختلف تلاوينهم، في تلك الآونة. لكن المراقب لواقع الأنواع والأشكال الأدبية العربية في الوقت الراهن لا يستطيع أن يتوصل إلى أن قصيدة النثر، التي ترعرعت على صفحات مجلة شعر، يمكن أن تكون بديلا للأشكال الشعرية العربية الأخرى، خصوصا أن ما أنتج حتى الآن في إطار قصيدة النثر لم يستطع إزاحة قصيدة التفعيلة عن عرشها.

لم يولد الشاعر الكبير

لم يولد حتى هذه اللحظة شاعر كبير مكتمل الأدوات فرض على الذائقة الشعرية العربية أن تتغير بسبب قصيدته النثرية، كما حصل مع بودلير ورامبو ووالت ويتمان كأمثلة مأخوذة من الشعرين الفرنسي والأمريكي. ومع أن شاعرا بريا حوشيا مثل الراحل محمد الماغوط استطاع في خمسينيات القرن الماضي وستينياته اختراق دائرة الهيمنة على المجموعات القرائية التي مثلتها قصيدة التفعيلة، فإنه ظل وحيدا بسبب نخبوية ممثلي قصيدة النثر العربية وعلى رأسهم أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ. في المقابل استطاع شعراء التفعيلة الكبار، وعلى رأسهم بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وسعدي يوسف ومحمود درويش، أن يحققوا تواصلا مستمرا مع جمهور الشعر العريض في العالم العربي.

من ثمّ يبدو الحديث عن تراجع قصيدة التفعيلة بالقياس إلى قصيدة النثر - وهو شيء يردده كتاب قصيدة النثر في العربية مدافعين عنه بحرارة واقتناع تام وكأن قصيدة النثر أصبحت أيديولوجيا قابلة للاعتناق - نابعا من وهم نظري، فمازالت قصيدة التفعيلة نفسها عاجزة عن اختراق محيط القراءة المهيمن في العربية، عاجزة عن إقناع المؤسسة الأكاديمية العربية بأنها قد أصبحت الشكل الأساسي للكتابة الشعرية العربية.

لم تستطع قصيدة النثر إذن فتح باب القلعة الأكاديمية العربية لتفرض نفسها نصا مقروءا في الأروقة الجامعية على قدم المساواة مع القصيدة العمودية التقليدية المتوارثة منذ زمن الجاهلية، ومع قصيدة التفعيلة كذلك. ولعل هذا الوضع هو ما يجعل قصيدة التفعيلة مرشحة لكي يستمر تأثيرها على قارئ الشعر العربي، وأن تظل فاعلة في الذائقة الشعرية العربية إلى أن يظهر شاعر كبير في إطار قصيدة النثر يستطيع أن يحدث بنصوصه نقلة كبيرة تقلب المعايير التي نقيس بها الشعرية وتؤثر في الذائقة التي تمت تربيتها عبر العصور.

قصيدة التفعيلة وتغيير الذائقة

قصيدة التفعيلة إذن، لا ما يسمى قصيدة الشطرين، هي المرشحة لتغيير الذائقة، بالرغم من المقاومة الشرسة التي واجهتها خلال ما يزيد على نصف قرن من الزمان. وإذا كان البعض يراهن على عودة قصيدة الشطرين إلى واجهة المشهد الشعري العربي، فإن ذلك البعض واهم لأن تلك القصيدة التي ورثت البنية الإيقاعية للشعر العربي القديم، وكذلك أغراض ذلك الشعر من مدح وفخر ورثاء، لم يظهر فيها شعراء كبار منذ العراقي محمد مهدي الجواهري والسوريين بدوي الجبل وعمر أبو ريشة، واليمني عبد الله البردوني، وكلهم شعراء غادروا عالمنا في النصف الثاني من القرن العشرين. كما أن شعر الشطرين أصبح جزءا من العناصر المكونة لقصيدة التفعيلة تنوع به قصيدة التفعيلة على عالمها الشكلي الداخلي مستفيدة من التنوع الهائل الذي توفره بحور الشعر العربي الصافية، وما تتيحه البحور الشعرية العربية غير الصافية من إمكانات المزج الموسيقي.

ومع ذلك فإن ما هو متوقع خلال العقود المقبلة هو أن يتزايد تأثير قصيدة النثر في المشهد الشعري العربي الراهن نظرا لكثافة التوجه نحو الكتابة بها من قبل جيل كامل من الشعراء العرب الجدد، لكونها تمتلك من مرونة الشكل والاهتمام بالمشهد اليومي والتنبه إلى أهمية التفاصيل، وعناصر الواقع النثري اليومية ما يجعلها قريبة من روح عصرنا قادرة على مقاربة مشكلاته، والتعبير عن الخضات الكبيرة التي يتعرض لها هذا العصر المتقلب المتحول، لكن التنبؤ يظل تنبؤا إلى أن يتحقق، وتحقيقه مرهون بطلوع عدد من الشعراء الكبار الذين يكتبون قصيدة نثر توازي في أهميتها ما كتبه شعراء كبار في إطار قصيدة التفعيلة مثل بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش، شعراء بحجم الراحل محمد الماغوط على أقل تقدير.

-----------------------------

يا أيها القلب بعضَ ما تجدُ
قدْ يعشقُ المرءُ ثم يتئدُ
قدْ يكتمُ المرءُ حُبَّه حِقَبًا
وهوَ عميدٌ وقلبهُ كمدُ
ماذا تريدين منْ فتىً غزلٍ
قدْ شَفَّهُ السُّقْمُ فِيكِ والسَّهَدُ
يهددوني كيما أخافهمُ
هَيْهاتَ أنَّى يُهَدَّدُ الأَسَدُ

وضاح اليمن

عن مجلة العربي.



















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow