هكذا المدينة لا تحتاج من يطأها لتكون نظيفةً، كألواح الصلصال المخصيّ
وهكذا المدن حين تبقى وحيدةً تئن تحت أزيز الذكريات
كلُّ غبارٍ هو تعبُ أبناءها، وكلُّ قشور الفوضى هي انعتاقٌ من جهل قاطنيها
لا قذاراتٍ تلملمها بعصا المحكومين فيها...
فالعزلةُ جهةٌ خامسة، حين تكون المدينة حزينة...

عندما يغادر السكان مدنهم يتركون خلفهم الكثير من الأشياء، أهمّها وأكثرها تأثيراً عليهم حين يحلّون في المدن الأخرى التي تستضيفهم، هي ذكرياتهم وشوارع مدنهم التي تخلّوا عنها، أو ربّما لم يتخلّوا عنها، بل هي من تخلّت عنهم حين باتت صعبة المراس، صعبةً في تأمين ما يمكنّهم من العيش فيها.

المدينة احتضانٌ للآخرين

لا يسعها إلا المُضي سريعاً ...

قد تحبس أنفاسك وأنت مثقلٌ بالخطايا

دع عنك كل التباساتك وامضِ وحيداً دون اكتراث

فالمدن لا تكترث ولا تعبأ كثيراً ...

هي رتقٌ بينك وبين ذكرياتك

لا تعرف المدينة أنّها تترك الكثير من الحزن والألم في نفوس من يغادرونها عنوةً، هي فقط تستمر بكل سلاسة، بكلّ بديهيةٍ، لا تحتاج الكثير من الناس ليذكروها بحنينهم، لا تركز على تاريخ شوارعها، حاراتها، ميادينها، صالوناتها، باراتها، بناياتها، منازلها، أنهارها، وشبكات صرفها الصحي، لا تتدعي المواساة لهم، ولا تختم على نفسها بالسواد رهبةً في فقدانهم، هي هكذا تمضي بكل جرأة، متأكدةً أنّها ستحظى بآخرين يجنبونها الفوضى.

جمهرة النظرات إليها من بعيد

تلقي الكثير من الحزن في قلوبهم

تنقلهم بخطى ملتوية متهالكة لبدايةٍ جديدة، في مدينة جديدة

كل تفكيرهم ينحصر فيها

لا يملكون الجرأة على مفارقتها

ثم يتجنبون الخوض في سيرتها

علّهم يقتنصون مساحات فارغة يعبرون من خللها لفضاءٍ جديد

لذكرياتٍ جديدة، لمدينة جديدة

منتقمين لوحدتهم المرهفة، إذ يجعلونها وحيدة بعزلتهم

هكذا حين تبقى المدينة وحيدة