Alef Logo
المرصد الصحفي
              

جيل دولوز: الفلسفة لن تموت / حسونة المصباحي

ألف

2013-11-07


لا أكتب ضد شخص، أو ضد شيء ما. بالنسبة إلي، الكتابة حركة إيجابية مطلقا، أي إنها تهتم بما نحن نعشقه، ولا تحاول أن تحارب ما نحن نكرهه.

دولوز: الفلسفة تعني دائما استكشاف مفاهيم جديدة
في الرّابع من نوفمبر- تشرين الثّاني 1995، ألقى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز نفسه من نافذة شقّته بالدّائرة السّابعة عشرة بباريس مُنْهيا بذلك عذاب سنوات طويلة من المرض. وقد علّق جاك دريدا على ذلك الغياب الفاجع والأليم قائلا: "جيل دولوز مفكر بالدرجة الأولى. مفكر الحدث، ودائما هذا الحدث. وقد ظلّ ثابتا في موقفه هذا من البداية حتى النّهاية (…) منذ البداية لم تكن كتبه تعني بالنسبة إلي فقط تحريضا قويّا على التفكير، وإنّما كانت أيضا دالّة على تقارب تجاربنا". أمّا فراسوا رانيو فقد علّق قائلا: "الفيلسوف الكبير هو ذاك الذي يقنع قرّاءه، والمستمعين إليه، بأن يعيشوا مستقبلا حياة فلسفيّة. وجيل دولوز يقنعهم بذلك. وليس مهمّا أن يتوصّل جميعهم إلى هذه النّتيجة. يكفي أن يتلمّس الذين يقرؤونه، أو يستمعون إليه أن مثل تلك الحياة مفتوحة بالنسبة إليهم".
ولد جيل دولوز في باريس في الثّامن من شهر كانون الثاني- يناير 1925. وفي فترة شبابه، وهو يدرّسُ الفلسفة في جامعة السّربون، تعرّف إلى كتّاب وفلاسفة سيكون لهم تأثير على مساره الفكري والفلسفي. من بين هؤلاء يمكن أن نذكر جان هيبولت، وميشال بيتور، وميشال تورنييه، وفرانسوا شاتليه الذي سيخصّص له في ما بعد كتابا يعرف بفلسفته العقلانيّة، والتي علّق عليها فرانسوا إيفالد قائلا: "يقول فرانسوا شاتليه بأنه عقلانيّ".

والعقل عند جيل دولوز ضرورة قبل كلّ شيء، مرورا من القوّة إلى الفعل الذي يمنع الفوضى، ويبعد شبح اليأس، ويسمح بعلاقات إنسانيّة لا تترك أحدا ضحيّة للسّلبيّة، لكنها تسمح له بأن يجدّد قوّته. لهذا السّبب في العلاقة مع الآخر، يكون العقل لياقة وطيبة "لياقة لأنه شرط المساواة الحقيقيّة مع الآخرين، وطيبة لأنه يمتلك القدرة التي تساعد الإنسان على الخروج من نفق اليأس، ويهبه فرصة تجديد القوّة التي فيه".

وفي مطلع الخمسينات من القرن الماضي، عمل جيل دولوز أستاذا للفلسفة في المعاهد الثانويّة، ثمّ أستاذا مساعدا في جامعة "السّربون"، ثمّ باحثا في "مركز البحوث والدراسات الاجتماعيّة" الذي ظلّ فيه حتى عام 1964. وفي عام 1962، تعرّف إلى ميشال فوكو الذي قال عنه بعد أن أصدر مؤلّفيه "الاختلاف والتّكرار" و"منطق المعنى" بأنّ القرن العشرين سيكون "قرنا ديولوزيّا (نسبة إلى دولوز).

وانطلاقا من الستيّنات من القرن الماضي، لمع اسم دولوز في مجال الفلسفة وذلك بعد أن أصدر كتابا عن نيتشه مثيرا للجدل، وفيه كتب يقول:"نحن، قرّاء نيتشه، علينا أن نتجنّب أربعة تفاسير خاطئة محتملة، أولى التفاسير، حول إرادة القوّة (الاعتقاد بأن إرادة القوّة تعني "الرّغبة في الهيمنة"، أو "الرّغبة في القوّة")، وثانيها، حول الضّعفاء والأقوياء (الاعتقاد بأن الأكثر "قوّة" في نظام اجتماعي هم "أقوياء" بالضّرورة)، وثالثها، بشأن العود الأبدي (الاعتقاد بأنّ الأمر يتعلّق بفكرة قديمة، مستعارة من قدماء اليونانييّن، ومن الهنود، ومن البابليين، أي الاعتقاد بأنّ الأمر يتعلّق بدورة، أو بعودة "الشيء ذاته")، ورابعها، بشأن الأعمال الأخيرة (الاعتقاد بأن تلك الأعمال مبالغ فيها، أو هي مجرّدة من القيمة بسبب الجنون).

وفي عام 1969، تعرّف جيل دولوز إلى فيليكس غيتاري، ومعا سيعملان على مدى سنوات طويلة. وعن ذلك علّق قائلا: "فيليكس غيتاري وأنا لم نتعاون مثلما يتعاون شخصان. كنّا بالأحرى مثل جدولين يلتقيان ليكوّنا معا جدولا ثالثا الذي هو نحن !".

مع فيليكس غيتاري، أنجز دولوز العديد من الأبحاث، و معه ألّف كتبا هامة مثل "نقيض أوديب" الذي يرى ميشال فوكو أنه يقاوم تهديدات خطيرة على مستوى الفكر. وتتمثّل هذه التّهديدات في نسّاك السياسة، وفي المناضلين المقطّبين والكئيبين، وفي إرهابييّ النظريّات، والذين يريدون المحافظة على النّظام الصّرف للسياسة، وللخطاب السياسي وبيروقراطييّ الثورة وموظّفي الحقيقة.

كما تتمثّل التهديدات في تقنيّي الرغبة المثيرين للشّفقة، أي علماء النفس وعلماء السيميولوجيا الذين يسجّلون كلّ إشارة، وكلّ ظاهرة مرضيّة، والذين يريدون أن يقلّصوا التنظيم المتعدّد بهدف إخضاعه للقانون الثنائي للتركيبة ولما هو ناقص أو منعدم.

فاشية الفكر

وأما العدوّ الثالث الأساسي والإستراتيجي فهو الفاشيّة. لكن ليست فاشية موسيليني أو هتلر وحدهما، والتي عرفت كيف تحشد الجماهير، وكيف تستغلّ رغباتها الظّاهرة والمخفيّة، بل الفاشيّة الكامنة فينا جميعا، والتي تداهم فكرنا، وسلوكيّاتنا اليوميّة. الفاشيّة التي تجعلنا نحبّ السّلطة، وأن نرغب في ذات الشيء الذي يهيمن علينا، ويستغلّنا.

وفي عام 1977، أصدر جيل دولوز كتابا آخر عن سبينوزا. وعن هذا الكتاب علّق قائلا: "حول سبينوزا عملت بجدّيّة حسب مقتضيات تاريخ الفلسفة. غير أنه هو الذي جعلني أشعر كما لو أنّ هناك تيّارا هوائيّا يدفع هذا أو ذاك من الذين يقرؤون كتابا من كتبه من الخلف بمكنسة سحريّة، ثمّ يجبره على امتطائها. ما أظنّ أنّنا شرعنا في فهم سبينوزا، وأنا لست أكثر من الآخرين في هذا المجال". ويعرّف جيل دولوز سبينوزا على النّحو التّالي: "بإمكان الفيلسوف أن يقيم في دول متعدّدة حسب طريقة ناسك متوحّد، أو شبح، أو عابر سبيل، أو مؤجّر في فنادق صغيرة مؤثّثة. لذا علينا ألاّ نتخيّل سبينوزا قاطعا الصّلة بالوسط اليهوديّ المغلق افتراضيّا لينتسب إلى الأوساط اللبيراليّة المتفتّحة افتراضيّا (…) ذلك أنه أينما حلّ وأينما ذهب هو لا يطالب، ودائما بقدر معيّن من الحظّ في الحصول على ما يريد، بأن يتمّ التّعامل معه، ومع أهدافه ورغباته المخالفة للمألوف بشيء من التسامح. وهو يحكم على هذا التّسامح انطلاقا من درجة الديمقراطيّة، ومن درجة الحقيقة التي يمكن لهذا المجتمع أو ذاك أن يتحمّلها، أو عكس ذلك، انطلاقا من الخطر كما الذي يهدّد الإنسانيّة جمعاء".

الفلسفة خلاقة

كما خصّص دولوز كتابا للابنبتز، ولهيوم. وهدفه من ذلك تقديم إيضاحات وقراءات جديدة ومعمّقة للفلاسفة الذين أثّروا في الفكر الإنساني في فترات مختلفة من التّاريخ. ومقدّما تفسيره الخاص للفلسفة، قال دولوز في أحد الحوارت التي أجريت معه: "الفلسفة تعني دائما استكشاف مفاهيم جديدة. وأنا لم أشعر أبدا بأيّ نوع من القلق بخصوص تجاوز الميتافيزيقا، وموت الفلسفة. وأعتقد أن للفلسفة وظيفة تظلّ دائما فاعلة في الحاضر، وهي تتمثّل في ابتداع مفاهيم. ولا أحد يمكنه أن يقوم بذلك مكانها". ويواصل دولوز تعريفه للفلسفة قائلا: "الفلسفة ليست إبلاغيّة، وتأمّليّة، ولا استبطانيّة. وإنّما هي خلاّقة، بل ثوريّة بطبيعتها لأنها لا تنقطع أبدا عن ابتكار مفاهيم جديدة (…) المفهوم هو الذي يمنع الفكرة من أن تكون مجرّد رأي ونقاش وثرثرة".

وقبل وفاته بعامين، تحاور جيل دولوز مع ديديه ايريبون حول قضايا فلسفيّة وأيضا حول بعض الشّخصيّات الفكريّة، وفي ذلك الحوار تحدث عن الكتابة قائلا: "أنا لا أكتب ضدّ شخص، أو ضدّ شيء ما. بالنسبة إليّ، الكتابة حركة إيجابيّة مطلقا، أي أنّها تهتمّ بما نحن نعشقه، ولا تحاول أن تحارب ما نحن نكرهه. الكتابة الحقيقية هي تلك التي تضع الوشاية في أسفل وأحقر مستويات الكتابة. صحيح أن الكتابة تنطوي على أنّ هناك شيئا ما ليس على ما يرام في المسألة التي نحن نرغب في معالجتها، وأننا لسنا راضين. باستطاعتي في مثل هذه الحالة أن أقول: أنا أكتب ضدّ الفكرة الجاهزة. ونحن نكتب دائما وأبدا ضدّ الأفكار الجاهزة".

سارتر كل شيء

وتحدث دولوز عن سارتر قائلا:"كان سارتر كلّ شيء بالنسبة إلي. وهو يختصّ بشيء استثنائيّ. خلال فترة الاحتلال النّازي لباريس، كان موقف سارتر طريقة للعيش في المجال الفكريّ. والذين لاموه على أنه سمح للمخرجين بإخراج المسرحيّات التي كتبها في تلك الفترة، لم يقرؤوا تلك المسرحيّات، مثل مسرحيّة "الذّباب" التي تشبه موسيقى فردي التي كانت تعزف أمام النمساويّين. لقد كان الإيطاليّون حين يسمعونها يصيحون "برافو" لأنهم يدركون جيّدا أنّها تعبّر عن موقف مقاومة. وكان ذلك منسجما مع وضعيّة سارتر.

ويضيف دولوز قائلا: "لقد أبهر سارتر كلّ أبناء جيلي. كان يكتب روايات، ومسرحيّات. الجميع كانوا يقلّدونه. وكثيرون كانوا يغارون منه. أمّا أنا فقد كنت شديد الانبهار به. وأعتقد أنه يمتلك شيئا جديدا لا يمكن أن يفعل فيه الزّمن، إنه جديد دائما وأبدا". وتحدث دولوز في الحوار المكور عن ثورة ربيع 68 الطلابية على النّحو التّالي:"كانت تلك الفترة غنيّة جدا بالنسبة إلي. وإذا ما أنا تناولت حياتي بالدرس، فإنه باستطاعتي أن أقول إن هناك فترة فقيرة جدّا، ألا وهي فترة الحرب العالميّة الثانية.

وعقب انتهاء تلك الحرب، حدث انفجار هائل على المستوى الثقافي والأدبي. ثمّ كانت هناك صحراء سنوات الخمسين. ثم من جديد جاءت فترة قويّة، وكان ذلك خلال الستينات (موجة السينما الجديدة والرواية الجديدة..).

أما في الفلسفة فكان هناك ميشال فوكو، ولاكان. خلال تلك الفترة حدثت حركة هائلة على مستويات متعدّدة. أما الآن فقد عدنا إلى الصّحراء مرة أخرى.غير أن هذا لا يتفاعل مع اتجاه واحد. لذا علينا أن نميّز حالتين. فالبنسبة إلى أولئك الذين أنجزوا جزءا كبيرا من عملهم، يمكن القول إنه ليس هناك مشكل بالنسبة إليهم، إذ بإمكانهم أن يواصلوا الكتابة، وأن يتجاوزوا الصّحراء.أمّا بالنسبة إلى من هم أقلّ سنّا، فإنّ الأمر لا يعدو أن يكون كارثة حقيقيّة. فالولادة والوصول أمران صعبان في زمن الأزمات، والفراغ".

العرب [نُشر في 06/11/2013، العدد: 9371، ص(14

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow