Alef Logo
الآن هنا
              

سورية في "مديح الكراهية" و"لاسكاكين في مطابخ هذه المدينة"

سعاد قطناني

خاص ألف

2013-11-24

تحمل الكلمات تعب الروح في حروفها وتسير في درب الوجع المنثور على الورق لتعيد ترتيب تفاصيل الحكاية، ترسم ملامح المدينة لتكمل الصورة في الذاكرة، تلتوي الحروف مع آهات الناس وتنحني لوجعهم، وترتجف النقاط خوفاً من لزوجة الدماء المتناثرة على صفحات الكتب. بهذه الروح المنهكة، بآه تقمصت شكل الوطن يرمي خالد خليفة بثقل الذاكرة وصراخ الروح على الورق، يستعيد تفاصيل الخوف والقهر والذل والعار وينشرها في الهواء كي يتطهر من ذلك العفن الذي علق بالذاكرة الثقيلة والروح المتعبة، فمن رواية "مديح الكراهية" إلى رواية "لاسكاكين في مطابخ هذه المدينة" يستعيد خالد خليفة سخونة أنفاس الشخصيات ويرمي بهم أحياء يرزقون على صفحات الرواية، ينفث الشهقة الأخيرة في أجسادهم كي يعلنوا لحظة الموت وهي تأخذ شكل الحياة، يتلصص على وجع المدينة بصمت ويسترق السمع على الممنوع . يعاين وجع المدينة من خلال شخوصها الذين شوهتهم سنين القمع والاستبداد، فلم يعودوا يشبهون أنفسهم، ولا أحلامهم بقيت ملكهم، صاروا ظلال الظلال لمدينة انكسرت عيونها شيئاَ فشيئاً، وانقتلت روحها يوماً بعد يوم. فالرواية هي الفضاء الذي فقأ فيه خالد خليفة دملة بما فيها من وجع ووسخ ودماء، فتح فيها الجرح والحكاية للنور والشمس عله يشفى من القيح والروائح الكريهة التي علقت بالذاكرة على مدى أكثر من أربعين عاماً، وما الإهانات والذل اليومي المدسوس في خفايا الروح إلا تفاصيل ساقها كي يتخلص من عارها ويتطهر من عبثها.

الرواية هي ليست فقط فن سرد الحكايات بل هي فعل تفكيك للمجتمع وتحليل له وإعادة بناء على أرضيه المتخيل الذي تلاعب خليفة به ليشي بالأمراض والآفات التي خلفتها سنين القمع على الإنسان. فالنظام أوصل المجتمع إلى حال من الخراب أفقدته صفته كمجتمع، فأصبح كل فرد يعمل من أجل نفسه فارتفعت شعارات مثل "كل مين إيدو إلو"، وأصبحت الكتلة الإجتماعية التي كانت مجتمع مجموعة من "اللامنتمين" بالمفهوم السلبي للكلمة. فـ"المجتمع" الذي كان يعتاش من الرشوة والفساد صمت على كل الخراب الذي طال المدن والقرى والإنسان.

يغوص خالد خليفة بروايتيه "مديح الكراهية" و "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" إلى الأعماق، ينبش بأصابعه ذلك البركان الذي يغلي على وشك الإنفجار، ذلك البركان المضغوط بالبزة العسكرية والمعجون بالقتل والخوف. يبحث عن الوجع ويضع يده على مكامنه، يحكي عن العار ويعريه، يزيح القشرة عن الألم ليبدو لزجاً رخواً كبزيقة تمشي عارية على الجدران علها تذوي وتغيب.

يستفحل الخوف في المدينة، تمعن في الضياع، تتصدع تحت ثقل الجوع وغياب الرؤية للمستقبل، تنقسم إلى حاكم ومحكوم، قاتل ومقتول، سجين وسجان. الحقد والاستبداد ولدا كراهية ، ولدا رفضاً تساوق مع شدة القمع إلى درجة التطرف واختيار المواجهة المسلحة مع نظام لم يتردد في تدميرالشوارع والمدن واعتقال وتنكيل وقتل الآلاف ،عائلات بأسرها مُحيت عن الوجود، شوارع وأحياء لم يبق لها أثر على الخارطة مما ولد شعوراً دفيناً بالخزي الصامت وتعذيباً للضمير مكبوتاً عند المواطن السوري لصمته عما جرى لإخوته في حماة، لقد ولد شكلاً خاصاً عن العار المسكوت عنه. العار الذي نقرأ عنه في الروايتين سطراً سطراً يفتح الآفاق للتحليل النفسي لجزء من المجتمع أصبح لا مبالياً، يعيش على الكفاف، يأخذ بقاعدة "الحيط الحيط ويارب الستر"، فأحداث حماة لم تشعل ثورة في سورية على فظاعتها، وكأن من يعش في دمشق لم يعنه أو بالأحرى أغمض عينيه عما يجري في حماة وحلب، فالخوف عشش في النفوس والقلوب. ولأن الروايتين تتحدثان عن قتل وقمع ممنهج استخدمه النظام عبر سنين حكمه، فاليوم وبعد اندلاع الثورة السورية نستطيع أن نفهم كيف تقصف داريا ويُنكل بأهلها، ويأتي من يقول وهو يعيش على بعد بضعة كيلو مترات "مافي شي"! فالقراءة العميقة للروايتين ولسكيولوجيا الحاكم والمحكوم تفتح أفقاً لفهم ما يجري اليوم على أرض الواقع.

الربط بين الروايتين لا يندرج ضمن ما قام به الكاتب من جهد ذاتي فقط، ولكنه يندرج ضمن سياق الأحداث والزمان والمكان الذين شكلوا الأرضية للروايتين. ففي "مديح الكراهية" يفرش الكاتب حلب أمامنا على خارطة نُسجت بكلمات تستدرج التاريخ منذ لُف حبل الاستبداد حول عنقها خانقاَ مشهدية العراقة وجمالها، مشوهاً فسيفسائها ، متوغلاً في الزمن القادم نحو الأحداث الدامية في نهاية السبعينات وما جرته على المدينة من خوف وصل إلى أسوء نهاياته مع أخبار الموت القادم من مدينة حماة ومجزرة تدمر. عشعش الخوف في القلوب وصار الانكسار وعدم الثقة بالمستقبل هما سيدا الموقف وعناوين للشخصيات وضياعها. أما رواية "لاسكاكين في مطابخ هذه المدينة" فتبدأ أحداثها على وقع عدم تصديق خبر موت حافظ الأسد "فالطاغية لايموت"، ويعود الكاتب إلى الوراء ليحكي تفاصيل القتل والاستبداد والقمع خلال حكم حافظ الأسد وصولاً إلى "الاستفتاء" لتنصيب بشار الأسد رئيساً للبلاد حيث تصل البلاد إلى قاع الخراب عام 2006.

حلب هي مسرح الروايتين على الرغم من أن الصعوبات والتغيرات التي طرأت على الحياة بكل أبعادها المادية والمعنوية تأخذ بعض الشخصيات إلى عدة أماكن كدبي والعراق وباريس ولندن وأفغانستان، إلا أن حلب تظل هي أم الأمكنة، فيغرق خالد خليفة في وصفها وحبها وكرهها. حلب هي الفرح الذابل في العيون، الخوف المنطوي على البيوت، الحزن المعرش كغيمة فوق المدينة، الأحلام الخاملة، تبدو المدينة كزهرة تعتاش من مياه آسنة، يطفو على وجهها حياة عصرية حين زاحمت البيوت التي بنيت على عجل عراقة التاريخ في المدينة، فغدت مدينة متريفة فقدت روح العراقة ، وغدا تاريخها ليس سوى غبار يتكدس في المكان. نمشي مع الكاتب في شوارع حلب حين يغرق في توصيفها كمن يمرر حبات مسبحة جميلة بين أصابعه ويتلمسها حبة حبة. وحال حلب كحال كل المدن التي تعيش تحت وطأة الاستبداد حين يكافح الجميع فيها من أجل لقمة العيش، ولا ينجو أحد حتى لو تجرع من مياه المذلة المنبعثه من عيون المخبرين والعسكر. فالكاتب تحسس نبض مدينته حلب على امتدادها حين أخذت تبتلع الفساد والرشى والموت والقهر والكبت والسجن والتعذيب والذل اليومي وتخبئه بين جدران البيوت ، تحت إسفلت الشارع، تخبئه في لغة الشك بين الناس وفي انعدام الخير بينهم، أصاخ السمع لهمس البيوت في زمن العار والخوف، زمن شاخت فيه كل الطقوس الحلبية العريقة لتولد طقوس الضباط والعسكر.

بين "مديح الكراهية" و"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" يختار خالد خليفة المرأة كصورة وانعكاس للمدينة بل للوطن، ففي الأولى وهي الراوية تلك المرأة، المدينة، الروح التي لطالما تماهت مع رابعة العدوية وروح العبادة الممثلة بالحب الخالص للخالق المتسامح مع الخليقة، ثم تنحرف إلى الأصولية المستبدة التي سعت إلى قتل الآخر وتكفيره. أما في رواية "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" فالمرأة ممثلة بسوسن الشخصية الأساسية، هي الفرح ، التلقائية ، الجرأة وخزان الأحلام. هي تلك التي تحولت إلى القتل حين تماهت بالقاتل، تعربد في الشوارع، تدوس على وشاح المدينة ، تضع مسدس من فضة على خصرها وتستقوي به على الضعفاء، فهي وجه المدينة الممثل بالسلطة. فالنساء في الروايتين هن نسيج الحكاية وأصل الرواية ، حكاية المدينة هي حكايا نسائها المستلبات، النائمات في مخادعهن يبحثن عن الحياة في الفراغ، وكأنهن سلاحف أو سحالي يسبحن على أطراف الحياة، فلا هن خارجها ولا هن داخلها. هي حكاية الطرف المحكوم ممثلاً بالنساء في مجتمع يهمش المرأة ويُبقي خادماً أعمى مهمشاً هو الدليل لمجموعة نساء وحيدات تركهن القدر يواجهن المتغيرات في مدينة أخذت تأكل أبناءها وتنكرهم في "مديح الكراهية". أما في "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" تتماهى المرأة بالمتسلط، تكون وجه المدينة المستبد المنتمي إلى السلطة، المسلوخ عن ماضيه، اللامنتمي إلى حاضره. ولأنها الأضعف والمتسلق على جدار السلطة تسقط، بل تُجبر على السقوط إلى هاوية الذل و استجرار الموت على قارعة الطريق باحثة عن خلاص فردي يعوض انسلاخ الروح عن ذاتها.

وما بين الراوية في "مديح الكراهية" وسوسن في "لاسكاكين في مطابخ هذه المدينة شرخ يمتد ليؤسس تناقضاَ على مستوى الوعي والقيم والأخلاق، تناقضاً يعكس ذلك التصدع في بنية المجتمع وتحولاته نحو الاستلاب والتخندق في أحد الطرفين: إما المخبر أو المقموع، إما السجين أو السجان، إما الماجن حتى الثمالة أو المتدين حتى التطرف، يقود الصراع في الروايتين التحولات إلى أقصى النهايات إلى التطرف، فمن حلم برابعة العدوية والتصوف إلى متطرفة تدعو إلى قتل الآخر في رواية "مديح الكراهية". ومن سوسن المحبة للحياة والمتشوقة للحظة فرح إلى مظلية تصيح وتهتف بحياة القائد، تكتب التقارير وتجنح إلى المجون والعربدة لتقتل الخوف فيها وتصبح من الجزء الذي يخيف ولا يخاف. وكأن الكاتب يجرنا لأن نقول إن التصدع وانهيار البنى الاجتماعية والأخلاقية في مجتمع مقموع ، في مدن يغلفها الموت ، يجعل المصائر محدودة، فإن لم تأخذ الراوية منحى التطرف الديني فإنها ستكون سوسن التي ستتماهى مع القاتل، فأنت مجبر أن تكون قاتلا أو مقتولا.

الرجال في الروايتين فقدوا قدرتهم على الحب والحياة حين استُلبت إراداتهم، حين قُتل الحلم بداخلهم، حين تحولوا لكراكوزات يرقصون ويدبكون في حفلات الهتاف المجنونة للقائد، أو لظلال أشخاص مسلوبي الإرادة يبتلعون قهرهم ويصمتوا. وهكذا يكون قتل الإنسان في الإنسان سبباً لانحرافه، فإما هو قاتل أو عربيد أو متطرف أو شاذ، وكلها شخصيات تحاول أن تجد منفساً تعبر فيه عن ذاتها وحاجاتها في الوجود.

ولأن السواد لا يمكن أن يغطي كامل المشهد ولو كان فاحماً، فكان لا بد أن تجد شخصية نذير في "مديح الكراهية"، فنذيريقع في غرام الخالة مروة في إحدى جولات البحث والتفتيش في البيوت عن مطلوبين أو منتمين لجماعة الإخوان المسلمين في حلب، ويتزوجها بغض النظر عن اختلاف الطائفة، وحين يُطلب منه الذهاب إلى سجن تدمر لقتل السجناء، يرفض ذلك ليعود إلى قريته مع زوجته الحلبية فلاحاً كما كان أهله ويرمي ببزته العسكرية ونياشينه فهو لا يريد أن يكون قاتل. أما منذر في "لاسكاكين في مطابخ هذه المدينة" فهو ضابط من مصياف يقع في غرام سوسن الحلبية، ويستهلك حبها حتى الثمالة، ولا يتزوجها، ويقوم بعمليات قتل وتنكيل بالمعارضين للنظام حتى تحتله كوابيس الخوف والموت. فتبدو المصائر محدودة في ثنائية مغلقة، فإن لم يرفض نذير قتل السجناء كان بالتأكيد هو منذر القاتل.

في هذا المصير المتباين والمتناقض لشخصيتين من نفس الطائفة يحاول خالد خليفة إثبات أن المسألة والصراع في سوريا ليس طائفياً، بل صراع ضد نظام حاول أن يستجر الطائفة إلى معاركه كي يحافظ على مكتسباته.

قراءة روايتي "مديح الكراهية" و "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة " لا تستدعي فضولنا لمعرفة مآل الشخصيات ومصائرها بقدر ما تفتح جرح البلاد على وسعه في البحث عن مصير الوطن ومآلاته مادام النظام ماضياً في طريق الموت.

سعاد قطناني












تعليق



سعيد ..فلسطين

2015-01-18

قرأت كل المقالات التي كتبت عن مديح الكراهية ..ولا سكاكين في مطابخ هذه المدينة ..ولم أقنع برأي ناقد ولا كاتب ...كما أبرهني هذا الأسلوب في التحليل وطريقة التناول والإحاطة بطريقة السهل الممتنع ، المقنع الغادي ، المحيط الرائق ، المتعمن الحاذق ، الجائل المتكن ، الواصف المحلل ، المتساوق مع النص ، المنغرس في حنايا صرخاته ومكبوتاته ، المتمرس بآلية النقد ....الذي يصح أن يقال فيه نقدياًَ النص الموازي ...أبدعت يا أستاذة سعاد قطناني

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

داعش.. إبحار إلى قلب الظلمة

29-نيسان-2017

أحبك أكثر.

17-أيلول-2014

غزة… أحلام لا تشبه المستحيل

17-آب-2014

داعش.. إبحار إلى قلب الظلمة

04-آب-2014

مخيم اليرموك متخم بالكرامة موغل بالجوع

01-آذار-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow