Alef Logo
مقالات ألف
              

الخميني و"الاستثناء الأصولي ...*

حمود حمود

2013-12-24

من بين جميع الأصوليين المشرقيين البارزين، يقف الخميني بكونه الشخص الأصولي الوحيد والأول الذي استطاع نقل الأصولية إلى مستوى الدولة. فإذا كان سيد قطب والمودودي هما من أبرز من مثّل العقل الإيديولوجي الذي نظّر للأصولية والأصوليين، بنحو تقليدي، في القرن العشرين (ومرة أبرزت مجلة نيويورك تايمز (23 مارس 2003) على غلافها سيد قطب بوصفه «فيلسوف الإرهاب والقاعدة»)، فإنّ السيد الخميني قد تجاوز ذلك إلى ما هو أبعد، وذلك بأخذ الأصولية من مستواها «التقليدي» والطهراني البسيط إلى مستوى جديد، شكّل في العالم الإسلامي، السنيّ والشيعي معاً، حالة استثناء يمكن أن نصفها بحق بـ «الاستثناء الأصولي المقدس». هذا ما ستحاول هذه المقالة إيضاحه سريعاً.

ربما هناك نقطتان مهمتان من المهم دائماً تذكرهما في تناول مثل هذه الشخصيات الأصولية: الأولى، أنّ الخميني، كما هو معلوم، صعد في ظل شروط عالمية شهدت، وما زالت مستمرة إلى الآن، بعثاً وإحياء دينياً عالمياً. لهذا لا يمكن تغييب مسألة السياق الإقليمي والدولي الذي شهد صعود حركات وأحزاب دينية وأصولية أتت كاستجابة سياقية لما شهده العالم من توترات سياسية وفشل في سياسة التحديث والحكم الديكتاتوري (حكم الشاه بمثابة أرض خصبة لقيام الخميني مثلاً)... الخ. عند هذه النقطة، أصولية الخميني، عموماً، ليست استثناء من الأصوليات التي صعدت في القرن العشرين.

بينما النقطة الثانية، ليس ثمة شكّ، أنّ الخميني ينتمي، بنحو عام، إلى العائلة الكبيرة، «عائلة الأصوليين» الآسيويين والمشرقيين، سواء أكان أفراد العائلة ينتمون إلى الديانات السماوية أو الأرضية أو لا ينتمون إلى أيّ دين (كما هو الحال في بعض الأصوليين الماركسيين)؛ هذه العائلة التي يجمع أفرادها سمات وقواسم مشتركة (Common Family) تتعلق بالثقافة والبارادايمات الذهنية، وذلك من حيث النظر إلى الذات والعالم والحداثة والغرب والماضي... الخ. لهذا، من السهل في كثير من الأحيان قراءة حضور مستويات إيديولوجية مختلفة ومتناقضة داخل شخص أصولي واحد. وهنا تكمن ميزة الخميني الأصولية، على رغم مشاركة قادة أصوليين عرب له بها، وهي استفادته من التنظيرات والتجارب السابقة عليه، الدينية واليسارية: إنه بمقدار ما استفاد من سيد قطب ثم خرج عليه، استفاد من الشيوعية وأدلجاتها الحمراء الثورية والتوتاليتارية ثم هاجمها. لهذا ليس من الصعب قراءة حضور لينين وقطب داخل أصولية الخميني. الجامع هو التقارب الذهني والثقافي في التفكير التوتاليتاري، بغض النظر عن الاختلاف الإيديولوجي بينهم.

لا نصدق أنّ الخميني من وراء مأسسته لكيان دعاه بـ «الجمهورية» أنه كان يبتغي تطبيق «أصل» مقدس قد قرأه بين تلافيف التراث أو أنه كان يبغي الرجوع بالتاريخ إلى العصر الذهبي (حتى أنه ليخيل للمرء في كثير من الأحيان أن ثمة جداراً بين الخميني والتراث الإسلامي يمنعه، من قراءة الأصول كما هو حال أي تراثيّ تقليدي). إن الأصول التراثية في مثل هذه الذهنيات، يعاد توليدها وفق ما يقتضيه الاستحقاق السلطوي للأصولي، وذلك بمخيالية طهرانية لا تخلو من تناقض عقلي بين ما هو مرسوم في الذهن وما هو على أرض الواقع. إنّ الخميني لم يكتف فقط بالخروج على الأصول وإعادة توليدها بقالب سياسي وثيوقراطي فريد من نوعه، أو الانتقاء منها وتنقيحها وتعديلها... الخ، بل أضاف «أصلاً»، قال إنه من الله، أي انتداب الفقيه أو ولايته vilayat-i-faqih على البشر: «إنّ ولاية الفقيه ليست شيئاً اخترعه مجلس الخبراء بل شيء أمر الله به» (John L. Esposito and, John O. Voll, Islam and Democracy, Oxford, 1996, p. 63)، على رغم علمه هو قبل غيره، أن ليس ثمة نص تشريعي واضح، سواء سنيّ أو شيعيّ، يقول بحكم الفقيه.

إنّ إصراره الدائم على أنّ «حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة التي نعتقد بها، هي موحى بها من قبل النبي العظيم (ص) ومناهج الإمام عليّ (ع)»، يعني أنّ ذهنية الرجل كانت متجاوزة بخطوة كبيرة للذهنية الأصولية التقليدية. فإذا كان الأصولي التقليدي ينصب في ذهنه «نموذج» دولة كانت قد أقيمت في الماضي الذهبي، فإنّ الخميني لم يعترف بقيام أيّ دولة إسلامية قبله لها الشرعية الإلهية كما هو حال الدولة التي رسم لها في كتابه الشهير «الحكومة الإسلامية». لهذا، إنّ مسألة «تدنيس» التاريخ الإسلامي (وفي المقابل الاحتفاء الألوهي بشخصه هو الذي يطبق وحي السماء)، كانت متقدمة بكثير عند الخميني أكثر من أيّ أصولي آخر. من هنا، ينظر هو وأتباعه الى أنه بتأسيسهم الجمهورية قد حققوا حُلماً كان الأنبياء ذاتهم يحلمون به (انظر أحمد الفهري، في تعليقه وتقديمه على كتاب الخمنيني «سرّ الصلاة أو صلاة العارفين»، مؤسسة الإعلام الإسلامي، بيروت، ص10- 11). لهذا، من الخطأ حصر الخميني بأي صفة مثل تراثي، نصيّ، حرفيّ، سلفيّ... الخ (وفي الوقت نفسه نقول، الخميني هو كل الأصوليين، لكنه لا يشبه أيّ واحد منهم).

بالطبع، لا يعني هذا خروج الخميني عن الثيمة التراثيّة تماماً، أو خروجه عن الذهنية الأصولية التقسيمية (البياض والسواد، الكفر والإيمان...). كل ما في الأمر أنّ أصولية الخميني بمقدار ما تتكئ على التراث الإسلامي، فهي تعمل خارجه. لقد قدمت هذه الأصولية قراءة جديدة لأصول الدين، لكنها قراءة لا تبغي الالتزام بهذه الأصول، بمقدار تحويرها وإضافة أصول أخرى عليها من جهة، ونقل هذه القراءة إلى مرتبة الإلهي والمقدس (وبالتالي مساواة القراء الفقهاء المعصومين الذين يقرأون بالسماء، فيصبح الخروج على هذه القراءة بمثابة الخروج على السماء)، من جهة ثانية، ومن ثم مأسسة هذه القراءة سياسياً في إطار كيان دولتي سمّاه «جمهورى إسلامى»، من جهة ثالثة. وفوق ذلك، لقد ربط تحقيق أحكام الدين على الأرض عضوياً بإقامة سلطة سياسيّة لكهنة الدّين ورجالاته، بعد أن كان هذا الربط مشروطاً بقدوم المهدي على طول التاريخ الشيعي.

النقطة الأخيرة التي يمكن أن نشير إليها في هذه العجالة، تتعلق بالعلاقة بالحداثة والغرب. إنّ أحد مصادر القوة الأصولية للخميني هو عداؤه للغرب، ذلك أنّ مثل هذه الذهنيات لا يُكتب لها الاستمرار، عادة، إلا بخلق وإعادة خلق أعداء لهم، يكونون بمثابة أحضان إيديولوجية وسياسية لبقائهم في السلطة. وفي هذه النقطة يشترك الخميني مع كثير من الأصوليين العرب والتوتاليتاريين المشرقيين، لكنها عنده أشدّ. فكما أنه لم يبخل من الاستفادة من الأصوليين، كقطب، ثم خرج عليهم، وكذلك الأمر بالعلاقة بالحداثة والغرب: استغلال الأجواء التي تخلفها الحداثة والعمل من داخلها، لكن في الوقت نفسه التنكيل بكل ما هو حداثي وغربي، أو بمعنى أدق، التنكيل بهوية الحداثة. إنه ضد الحداثة لكنه الأصولي الأول في المشرق الذي استطاع الاستفادة منها وبخاصة من الناحية المادية. ربما لا تمكن الإجابة بنحو دقيق، إلى أيّ نمط من الأصوليات المشرقية تنتمي أصولية الخميني، لكن «مبدئياً» يمكن القول، بسبب الاستثناءات الأصولية التي تضمنها كيانه الإيديولوجي والسياسي، إنّ أصوليته يجب أن تدرس بشروطها الاستثنائية هي، مع عدم إغفال الشروط السياسية للإحياء الديني العالمي. إلا أنّ أصوليته تبقى حالة استثناء في التاريخ الأصولي.

إنها الأصولية التوتاليتارية التي دعت جون إيسبوزيتو وفول أن يكتبا عن سجن إيفن Evin، هذا السجن الذي تغيّر سجّانوه، لكنه السجن الذي بقي هو هو سواء في عصر الشاه («ظل الله» على الأرض)، أو في عصر الخميني («روح الله» على الأرض): «إذا كان سجن إيفن، السيئ والرديء السمعة، قد أُفرغ من سجناء بهلوي [الشاه]، فإنه امتلأ مرة أخرى بسجناء الجمهورية الإسلامية» (Esposito and, Voll, p. 70).


عن جريدة الحياة.









تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

هل الإسلاموية قدر العرب؟ بقلم عزيز العظمة ـ ترجمة :

21-كانون الأول-2019

هل الإسلاموية قدر العرب؟ عزيز العظمة ترجة:

02-أيلول-2017

هل الإسلاموية قدر العرب؟ عزيز العظمة ترجة:

08-نيسان-2017

هل الإسلاموية قدر العرب؟ بقلم عزيز العظمة ـ ترجمة :

27-آب-2016

عن علاقة محمد بالشعر والشعراء (2/1 )

15-كانون الثاني-2015

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow