Alef Logo
مقالات ألف
              

ما بعد الثورة - تفعيل المجتمع السياسي في سوريا / أحمد نظير الأتاسي

ألف

خاص ألف

2014-02-01

كتب الاستاذ ياسين الحاج صالح في 25 كانون الثاني، 2014 مقالة مثيرة للفكر بعنوان الفكرة الجمهورية والثورة السورية. من النادر جداً ان نقرأ مقالة في فلسفة الثورة السورية. وأتمنى أن تكون مقالة الكاتب هذه باباً لمقالات أخرى تحلل الثورة السورية ونتائجها على مستويات أعمق من الحدث اليومي والتحليل السياسي الصحفي. لب المقالة كما أفهمها هو أن المجتمع السوري (أو المجتمعات السورية) يفتقد إلى السياسة بمعناها الحديث المتعامَل به في الدول التي يضمن فيها القانون حرية النقاش والتجمع والرأي والمشاركة في صنع القرار. هذا المجتمع لا يعرف من السياسة إلا معناها القديم المرتبط بفعل ساس يسوس أي أرغم الخيل على الرضوخ لأوامر السائس أي القائد. السياسة الجمهورية كا يريدها الكاتب هي دخول الجمهور في السياسة، التي هي أوسع بكثير من مجرد المشاركة في انتخابات أو التنافس على منصب رئيس. إنها مشاركة في مسيرة إتخاذ القرار من نقطة الطرح وصولاً إلى نقطة الإقرار والتنفيذ، أياً كان هذا القرار بسيطاً ما دام يهم العموم، أي الجمهور، ومهما كان هذا الجمهور كبيراً أو صغيراً. لي عدة إنتقادات بسيطة على المقالة وبعدها أنتقل إلى طرح فكرة مماثلة لكن بطريقة مختلفة وباستخدام مصطلحات مختلفة.
ربط الكاتب غياب هذا الفهم التشاركي للسياسة بالحكم الديكتاتوري للأسد وزمرته كما اعتبر ضمنياَ أن مثل هذا الفهم موجود في بعض الدول الديمقراطية. في الحقيقة هذا الفهم للسياسة مرتبط بتاريخ البشرية ونشوء النظام الملكي وليس فقط نتيجة خمسين سنة من حكم الإستبداد الأسدي. كما أن تطور مفهوم السياسة في بعض الدول الغربية ليقترب من فكرة الكاتب المسماة "الفكرة الجمهورية" لم يحصل إلا بعد تاريخ طويل من النضال السياسي والعنفي حتى من أجل الوصول إلى مشاركة حقيقة للجمهور. ولذلك فلا بد من التركيز على البعد التاريخي للفكرة (أي الفكرة كمسيرة تاريخية) وليس فقط إظهارها بمظهر المفهوم الفلسفي الثابت الذي قد نؤمن به أو نتركه. لم يكن الكاتب موفقاً في تسمية الفكرة بالجمهورية لأنه تعدى على مصطلح متداول وثابت حالياً هو المفهوم السياسي المعروف للنظام الجمهوري. هذا النظام الجمهوري التمثيلي القائم على إنتخاب ممثلين للشعب لا يعني بالضرورة وجود الفهم الجديد للسياسة، أو "الفكرة الجمهورية" كما سماها. حتى الديمقراطية لا تعني بالضرورة وجود مثل هذا المفهوم ولذلك سماها الديمقراطية الإجرائية. للاسف فإن الأغلبية الساحقة للديمقراطيات في العالم هي ديمقراطيات إجرائية ولا يجب ربط "الفكرة الجمهورية" بالديمقراطية أو أي نظام سياسي معين. وكذلك فإن استخدامه لمصطلح العلمانية في مكانين مختلفين وبمعنيين مختلفين أدى إلى تأكيد إرتباط العلمانية (وكذلك التنوير والحداثة) بالنظام الأسدي والأنظمة الديكتاتورية العربية وهو إرتباط لفظي من صنع الإسلاميين وليس إرتباطاً عضوياً عقائدياً فلسفياً. أخيراً آخذ على الكاتب خلطه غير المقصود بين النظام الجمهوري والفكرة الجمهورية (أي ممارسة الجمهور للسياسة) فالفكرة الجمهورية لا تؤدي بالضرورة إلى نظام حكم جمهوري والعكس بالعكس.
السياسة والمدنية
جذر (سوس) في اللغات السامية جذر قديم جداً ومرتبط دائماً بالخيل. والفعل العربي (ساس، يسوس) لا يخرج عن هذا التراث الطويل فهو يعني أساساً قيادة الخيل. هذا الفعل إنتقل إلى مجال قيادة المجتمع والدولة لأن النظام الملكي الذي شاع في الشرق الأوسط ومنه إلى العالم أجمع يقوم على مبدأ إخضاع الرعية ولجمها كما تلجم الخيل وقيادتها تبعاً لإرادة قائدها، أو سائسها، أو ملكها. السياسة بهذا المعني هي خليط بين فن إدارة المؤسسات وإدارة الناس من خلال مزيج من الإخضاع والتوجيه بالنصيحة أو الأمر أو العنف حتى. لذلك فإن كتاب الوزير نظام الملك إلى أميره (سلطانه) السلجوقي ملكشاه والذي يعلمه فيه أصول إدارة وتوجيه الرعية للخضوع للسلطان جاء بعنوان "سياسة نامه" أو "كتاب السياسة". هذا الفهم للسياسة يطغى على أنماط من الأدبيات العربية والفارسية من مثل كتب الخراج، الحسبة، الآداب السلطانية، نصيحة الملوك، والسياسة الشرعية. للأسف فقد كشفت الثورة السورية أن الدولة السورية قائمة على هذا الفهم لمصطلح السياسة وأن الثقافة المجتمعية والمؤسساتية السورية، العلمانية والإسلامية على حد سواء، لا تعرف من السياسة إلى معناها القروسطي. وقد سهل هذا الخلط في المصطلحات على فلسفات إدارية قديمة من مثل "السياسة الشرعية" أن تقدم نفسها كأنظمة حكم مناسبة ومتناغمة مع الدولة المؤسساتية الحديثة، في حين أنها ناتجة عن وملائمة فقط للأنظمة الملكية (باعتبار أن الخلافة الإسلامية ليست أكثر من حكم ملكي مشفوع بدعم مجلس شورى لا يمثل إلا نخبة محدودة من المجتمع يسمونها أهل الحل والعقد).
إن مصطلح "بوليتيك" الغربي لا يمكن ترجمته بمصطلح السياسة الآنف الذكر. فالمصطلح الغربي مستحدث من كلمة "polis" الإغريقي والتي تعني المدينة الإغريقية القديمة ذات النظام الديمقراطي الأثيني الذي تعرّف عليه الغرب بدءاً من عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر. مصطلح بوليتيك إذن يعني الإنخراط والمشاركة في شؤون الـ"polis" او المدينة. وبالتالي فمن الافضل ترجمته بمصطلح المدنية (المشتق من المدينة) تماماً كما استخدمه ابن خلدون. لكن للأسف فإن المدنية استخدِمت لترجمة مصطلح "civilisation" المرتبط بمفهوم التطور والرقي الإجتماعي والذي عبر عنه ابن خلدون بمصطلح العمران. ولذلك كان ابن خلدون محقاً عندما اعتبر أن مؤلفي كتب السياسة الشرعية ونصائح الملوك والآداب السلطانية ليسوا إلا متعدين على الكار إذ لم يكن لهم نصيب في المشاركة في عملية اتخاذ القرار وبالتالي فهم ليسوا بموضع يسمح لهم بإسداء النصح للملك فيما يخص إدارة الرعية أو إدارة مؤسسات الدولة، اي السياسة. هذه الإدارة التي اعتقد ابن خلدون مصيباً انها تقتصر على اهل العصبية، أساس الدولة الملكية في الشرق الأوسط، أي أهل الحرب وأهل الدولة (الإخضاع والتحكم) وبالتالي السياسة بمعناها القديم الذي أشرنا إليه أعلاه.
إذا أردنا أن نتحدث عن مشاركة المجتمع (الجمهور في استخدام الحاج صالح) في اتخاذ القرارات التي تهم المجتمع ككل، أي المشاركة في شؤون المدينة بمعنى البوليتيك، فإننا أمام معضلة لغوية حقيقية. فإما أن نجاهد الناس لتغيير المعنى القديم الملتصق بمصطلح السياسة ليتحول من الإخضاع إلى المشاركة أو أن نخترع مصطلحاً جديداً يحمل المعنى الجديد. لقد حاول الحاج صالح أن يعيد تأهيل مصطلح معروف، أي الجمهورية. وبما أن الممارسة الجديدة التي يدعو إليها هي مشاركة جموع الناس، أو الجمهور، في اتخاذ القرارات التي تخصهم فلماذا لا نسمي هذه المشاركة بالجمهورية؟ لكن معنى نظام الحكم القائم على إتخاذ قرارات عامة من خلال إنتخاب ممثلين عن الجمهور يستوطن كلمة الجمهورية. ولذلك فإننا أمام تحد جديد هو تغيير معنى كلمة الجمهورية تماماً كما أردنا تغيير معنة كلمة السياسة. أقر للحاج صالح بأن الإختيار ذكي لكنه لا يخرجنا من المعضلة اللغوية المذكورة أعلاه. كلمة المدنية قد تكون الأنسب باعتبار أنها تدل على مؤسسة، أي على درجة أعلى من التنظيم الإجتماعي، هي المدينة. وبما أن ممارسة اتخاذ القرار محصورة في نقاشاتنا ضمن إطار الحضارة المدنية (اي عكس البداوة، مع أن البداوة لا تعني غياب آليات لاتخاذ القرار الجمعي ولا تعني غياب مشاركة المجتمع)، أي ضمن إطار مؤسسة المدينة وما ينتج عنها من بنى فوقية مثل الدولة، فإن الكلمة (أي المدنية) أكثر تعبيراً عن المعنى الحديث من مجرد "الجمهورية" التي تدل على تجمع بشري غير ذي معالم تنظيمية أو مؤسساتية. وفي هذه الحالة أيضاً نعود إلى المعضلة نفسها، فكلمة المدنية مأخوذة، كما يقولون، حيث يستوطنها معنى التطور او الرقي (أو الحضارة). ويا ليتنا عدنا إلى مصطلحات ابن خلدون. لكن يبقى المعنى الخلدوني للمدنية والعمران قاصراً عن استيعاب المعنى الجديد لأن أنظمة الحكم التي تكلم عنها كانت تحصر المشاركة في اتخاذ القرار بأهل العصبية (العشيرة الحاكمة) من دون الجمهور أو الشعب. ومن أجل حسم هذا النقاش فإنني ساتابع إستخدام كلمة السياسة لاعتقادي بأن المصطلحات في تغير مستمر. ومادام قصدنا هو نشر معنى جديد لما يسميه الناس السياسة اليوم فلما لا ندخل حلبة الصراع من أجل تحديد معنى هذا المصطلح كما تفعل الانظمة التي تحكمنا. نحن نصارعها بأيدينا وبأصواتنا وبكتاباتنا وفي كل الحلبات فلم لا نصارعها في الحلبة اللغوية أيضاً.
المعنى الجديد لمصطلح السياسة
السياسة بالمعنى الجديد تدل على مشاركة عموم الشعب في اتخاذ القرارات التي تهم الشعب كله داخل مؤسسات الحكم وخارجها. إن مشاركة أعضاء جمعية خيرية في اتخاذ قراراتها هي سياسة ضمن حدود عضوية هذه الجمعية. وإن مشاركة أهل الحي الواحد في اتخاذ قرار تزيين الحي في مناسبة دينية أو قومية أو في اختيار إمام مسجد حيهم مثلاً هي سياسة ضمن حدود الإنتماء إلى الحي المذكور. وإن مشاركة أهل البلدة الواحدة في اتخاذ قرارات المجلس المحلي هي سياسة ضمن حدود الإنتماء إلى هذه البلدة. وإن مشاركة شعب البلد الواحد في انتقاء ممثليهم أو في انتخاب رأس السلطة التنفيذية للدولة أو في النقاشات الدائرة حول مشاريع قوانين من خلال الصحف والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني هي سياسة ضمن حدود المواطنة والإنتماء لهذا البلد. هذه المشاركة لا تقتصر على مجرد الإدلاء بالصوت في إنتخابات مؤسسة أو مجلس محلي أو مجلس شعب أو رئيس جمهورية وإنما تشمل أي نشاط يتواصل فيه الإنسان مع أعضاء الجماعة المعنية من أجل التفاوض والوصول إلى إجماع أو إتخاذ قرار من خلال آلية متفق عليها. هذا التواصل قد يكون من خلال النقاش أو التظاهر أو إبداء الرأي (كلاماً او كتابة أو رمزاً) أو التجمع أو بناء منظمات المجتمع المدني والمشاركة فيها أو بناء الأحزاب والمشاركة في أعمالها أو الترشح للإنتخابات أو الإدلاء بالصوت في الإنتخابات أو إستلام منصب في مؤسسة عامة حكومية أو غيرها. وحتى المشاركة في أعمال شغب أو عنف تهدف إلى عرقلة اتخاذ قرار معين أو الدفع باتجاه قرار آخر أو عرقلة آلية ما من آليات التفاوض الجمعي فهي مشاركة سياسية. السياسة بالمعنى الجديد هي فن التفاوض من أجل الوصول إلى قرار جمعي، وهي أيضاً العمل ضمن المؤسسة المنوط بها اتخاذ القراري الجمعي، وهي أيضاً آلية إتخاذ القرار الجمعي. ونؤكد هنا على صفة الجمعي لأن القرار الذي يخص الفرد أو الاسرة ليس سياسة إلا ضمن الأسرة. ولذلك فأن أية سياسة بحاجة إلى جماعة من الناس تعيش معاً وتتشابك مصالحها وتتخذ قراراتها التي تؤثر في مجموع أعضائها ضمن إطارات محددة متفق عليها ضمن المجموعة.
المجتمع الأهلي والمجتمع السياسي
لقد أظهرت الثورة السورية والمجموعات التي نشات ضمنها بشكل صارخ الفرق بين التجمع الإنساني البسيط، ونسميه هنا الأهلي، وبين التجمع الإنساني الذي يسعى إلى اتخاذ قرار موحد والذي نسميه هنا بالمجتمع السياسي. إن من الصعب أن تتعايش مجموعة من الناس دون أن تتحول مباشرة إلى مجتمع سياسي. فالقبيلة البدوية هي مجتمع سياسي واهل القرية مجتمع سياسي وأعضاء النادي الرياضي يؤلفون مجتمعاً سياسياً، لأن أية مجموعة من الناس يجمعها هدف واحد لا بد أن تدخل في عمليات تفاوض تقودها لاتخاذ القرارات المناسبة من أجل الوصول إلى الهدف المشترك. القبيلة تسعى لتسيطر على مورد ماء، والقرية تسعى لحماية بساتينها، والنادي الرياضي يسعى لتحقيق النصر في تنافس رياضي. لكننا نعيش اليوم في ظل مؤسسات عملاقة غير مشخصَنة نسميها الدولة يمكن أن تسيطر عليها مجموعة صغيرة من الناس تستحوذ من خلال مواردها الضخمة وآلاتها الطاغية على اتخاذ القرار، أي كان ومهما كان صغيراً. هذه الفئة من الناس باستيلائها على الدولة يمكنها أن تستثني بقية أبناء البلد (مواطنين أو رعايا أو أي كانت تسميتهم) من عملية إتخاذ القرار وبالتالي تحولهم إلى مجموعة من الناس تعيش معاً دون أن تتحاور أو تتعاون لتحقيق أي هدف. الهدف هو ما تحدده الطغمة الحاكمة والتعاون هو مجموع أعمال المواطنين التي تفرضها عليهم هذه الطغمة. هنا لا بد من التفريق بين المجتمع الأهلي القائم على العيش المشترك في مكان واحد وعلى بعض التبادل التجاري والعلاقات الأهلية من زواج وطلاق، وبين المجتمع السياسي الذي يعمل معاً لتحقيق هدف واحد فيحتاج لذلك إلى التفاوض والوصول إلى قرار يوافق عليه الجميع. المجتمع الأهلي يسعى بشكل طبيعي لأن يكون مجتمعاً سياسياً وإلا فلا حاجة للعيش المشترك، لكن استيلاء جماعة ما على آليات إتخاذ القرار وعلى الموارد المسخرة لعمل هذه الآليات يمنع المجتمع الأهلي من التحول إلى مجتمع سياسي.
التفعيل المؤسساتي للمجتمع السياسي
المجتمع السياسي ليس مرتبطاً بالضرورة بنشوء دولة، لكنه مرتبط بالضرورة بوجود آليات لاتخاذ القرار وآليات لتحقيق الإجماع أو الإقرار وآليات لدفع الناس إلى الإلتزام بالقرار المجمَع عليه. هذه الآليات هي ما نسميه المؤسسات. المؤسسة هي مجموعة قواعد تضبط عمل الجماعة وتدفعها لإنجاز هدف معين. المؤسسة مرتبطة بشكل وثيق بمفهوم القيادة ومفهوم الإدارة. إن دفع جهود مجموعة كبيرة من الناس في قنوات معينة وفي اتجاه معين يحتاج إلى كثير من الضبط والتوجيه والتنظيم أي القيادة والإدارة. الأسرة الأبوية مؤسسة، مشيخة القبيلة مؤسسة، معبد المدينة مؤسسة، النادي الرياضي مؤسسة، الجمعية الخيرية مؤسسة، مصنع النسيج مؤسسة، بستان العائلة مؤسسة، فرقة الكشافة مؤسسة، الحزب مؤسسة، والمجلس الثوري مؤسسة. المجتمع الأهلي الصغير عددياً والمنخرط في العمل الزراعي المحدود يتحول إلى مجتمع سياسي حين ينتقي مختاراً أو مجلس شورى. المجموعة الثورية التي تنادي بالتغيير تتحول إلى مؤسسة عندما تتبنى هدفاً وتوزيعاً للأعمال وقيادة.
ونعني بالمؤسسة هنا توافر العناصر التالية في المجموعة: الهدف المشترك، التخصص وتوزيع الأعمال، القيادة أو الهيكلية القيادية (ويمكن أن نسمي هذه العناصر مجتمعة بالعقد المؤسساتي). إن المجموعة الأهلية (قد يسميها آخرون العضوية) لا تتحول إلى مجموعة سياسية إلا بوجود المؤسسات (مهما كانت بدائية). لكن وجود المؤسسات لا يعني بالضرورة وجود مجتمع سياسي. وخير مثال على ذلك المجتمع السوري. إن المجتمع السوري مجتمع أهلي أفرغته مؤسسات الدولة التي تسيطر عليها فئة صغيرة من مقوماته السياسية. إن المجتمع السوري (كرعايا دولة) ليس مجتمعاً سياسياً. إنه مجتمع لا يعرف معنى العمل المشترك التراكمي المؤدي إلى تحقيق هدف موحد، ولا يعرف معنى التفاوض المؤدي إلى الإجماع واتخاذ القرار، ولا يعرف معنى الإلتزام بالقرار الجمعي إذا لم يكن مرتبطاً بعنف الدولة. وقد عبّر كثير من الكتاب عن هذا الفقر بمصطلحات مختلفة مثل ضعف الثقافة المؤسساتية، انعدام الديمقراطية، ضعف ثقافة الإلتزام بالقانون، التنافس الهدام، الطعن في الظهر، ثقافة التخوين والتكفير، الشد إلى الاسفل، السقوط معاً، إنتظار المخلص، الخنوع للزعيم. لكننا نزعم هنا كما زعم أرسطو في مقولته الشهيرة "الإنسان حيوان سياسي". ولم يكن يعني أن الإنسان حيوان منقاد (بمعنى السياسة القديم) وإنما هو حيوان مفطور على التفاوض والعيش المشترك (اي البوليتيك أو المدنية أو السياسة بالمعنى الجديد). ما نحتاجه اليوم أكثر من أي شيء آخر هو إعادة إحياء المجتمع السياسي، أي هو حقن السياسة بالمعنى الجديد في جسم المجتمع الأهلي السوري. هذا يعني إنشاء أو إعادة تأهيل المؤسسات لتحتوي على العناصر الثلاثة المذكورة سابقاً ولتقوم على اساس من المشاركة والتعاون والإلتزام بالعقد المؤسساتي. إن وجود المؤسسات لا يكفي لوجود السياسة، بل يحتاج إلى ثقافة التفاعل والتفاوض والمشاركة والوصول إلى إجماع ومن ثم احترام هذا الإجماع والإلتزام به. ولا يقتصر الكلام هنا على الدولة المركزية وإنما يمتد إلى الحكومات المحلية ومجالس الأحياء وإلى منظمات المجتمع المدني وإلى المدارس وحتى إلى الأسرة.
التفعيل الثقافي للمجتمع السياسي
في الثورة السورية حاولت مجموعات كثيرة أن تتحول من مجموعات أهلية عضوية إلى مؤسسات لكنها فشلت. وكل من شارك في إحدى هذه المجموعات، كبيرة كانت أو صغيرة، يعرف أن وضع نظام داخلي للمجموعة يسمي الهدف ويرسم الهيكلية ويعرّف الاعمال ويوزعها كان من أكبر الصعوبات التي واجهت المجموعة، والتي غالباً ما ادت إلى ضمورها أو تفككها أو انهيارها إنهياراً مدوياً. هذه المجموعات فشلت في مسيرة تحولها من مجموعات أهلية عضوية (عملها هو المتوسط الحسابي لأعمال أعضائها العشوائية، وغالباً هذا المتوسط يقارب الصفر إذا تلغي الأعمال بعضها بعضاً) إلى مؤسسة فعالة. لكن الذي شارك في هذه المسيرة المضنية لفترة اطول يعرف أيضاً ان كتابة نظام داخلي على أحدث المعايير العالمية، كما يقولون، لا يضمن التحول إلى مؤسسة. وفي كثير من الأحيان يحارب أعضاء المجموعة النظام الداخلي ويعرقلون تطبيقه في تناقض صارخ مع ادعاءاتهم بالرغبة في العمل المشترك والوصول إلى الهدف المعلن. حاول كتاب كثيرون تحليل فشل هذه التجارب، هذا الفشل المؤلم الذي أقض مضاجع كثيرين من المشاركين في الثورة ودفع بهم إلى اليأس والإنسحاب. تارة فسروه بأنه خصوصية ثقافية سورية وتارة شرحوه بانه نقص خبرة في العمل المؤسساتي وتارة عللوه بانه نتيجة طبيعية لخمسين عاماً من الإستبداد الاسدي. لا نلوم أحداً على هذا الفشل لكننا نحاول في هذه المقالة فلسفة هذه التجربة وإعمال العقل فيها إلى أن نفهمها ونفهم كيفية الوصول بها إلى شط النجاح. في الحقيقة فإنني اعتقد أن كل هذه الشروحات صحيحة إلى حد ما، كما انها كلها ناقصة. نعم إن السبب هو خصوصية سورية باعتبار أن لكل مجتمع مسيرته الفريدة، لكن هذه الخصوصية مشتركة في جوهرها مع مجتمعات كثيرة. نعم إن المجتمع السوري نسي العمل المشترك بعد خمسين عاماً من القهر والإنعزال وحجز الحريات، كما أنه لم يتعرف على العمل المؤسساتي إلا من خلال نموذج حزب البعث وأجهزة المخابرات ودولة المحسوبيات والرشوة. لكن المجتمع السوري كغيره من المجتمعات الآسيوية والإفريقية لم يعرف من أنماط المؤسسات إلا تلك المرتبطة بالمجتمعات الصغيرة المنعزلة (مشيخة القبيلة مثلاً) أو المرتبطة بالحكم الملكي (الملك، ديوان الجند، ديوان الخراج والضرائب). هذه المؤسسات إما أنها عاجزة عن استيعاب الأعداد السكانية الهائلة للمجتمعات الحديثة وغير ملائمة لانتشار وسائل التواصل السريع وإنتشار التعليم والمعارف الحديثة، أو انها قائمة على فلسفة إستبدادية هي أساس أي حكم ملكي. لذلك فإن إكتساب المعرفة الحديثة والتخلص من الحكم الإستبدادي ليسا ضمانة لقيام مؤسسات فعالة. ما نحن بحاجة إليه هو الثقافة الملائمة لهذه المؤسسات ونعني بها المجتمع السياسي الملائم لهذه المؤسسات الحديثة.
تجليات المجتمع السياسي
ولا نعني بهذا المجتمع مجرد بناء الدولة المركزية التمثيلية القائمة على انتخاب ممثلين للشعب (أو ما يسمونه بالديمقراطية)، وإنما نعني إيجاد ثقافة المشاركة في الشان العام (على مختلف المستويات الجغرافية والسكانية) والتفاوض السلمي المؤدي إلى قرارات يقر بها الجميع ويلتزمون بها. إنها ثقافة المشاركة في مجلس الحي وفي الجمعية التاريخية وفي النادي الرياضي وفي المؤسسة الدينية المحلية، وثقافة التطوع في الجمعية الخيرية، ثقافة التعليم والتوعية وإنتاج المعلومات ونشرها، ثقافة النقاش والإستماع إلى آراء الآخرين، ثقافة نبذ الإقصاء واحترام حق الآخرين في الوجود دون الإيمان بعقائدهم، ثقافة تكافؤ الفرص وتمكين الجميع من الوصول إلى منابر المشاركة ومراكز القوة، ثقافة إحترام القواعد والقوانين، ثقافة حرية الإعتقاد وحرية التعبير عن الرأي، فالحرية أساس المشاركة لأنها اعتراف بحق الوجود وتمكين لهذا الوجود. إن أي نوع من أنواع الإقصاء الثقافي او الإجتماعي أو الإقتصادي أو العرقي أو الطائفي يلغي المجتمع السياسي أو يحصره بجزء من المجتمع الاهلي، وهذا أساس الإستبداد.
إن المجتمع السياسي كما عرفناه في هذه المقالة يتجاوز الديمقراطية التي هي إجراءات لانتقاء وتبديل ممثلي الشعب عن طريق الإنتخاب (تداول السلطة). الديمقراطية الغربية هي إحدى الطرق المؤسساتية لتحقيق مبدأ المجتمع السياسي بالتعريف الجديد. ولا يجب أن نتصور أن الديمقراطية الغربية هي نهاية مسيرة تطور فكرة المجتمع السياسي بل هي في الحقيقة مجرد بداية لها. كما لا يجب أن نتصور أن النظام الإقتصادي الليبرالي المرتبط تاريخياً بالديمقراطيات الغربية ضرورة من ضرورات تحقيق المجتمع السياسي. هذا النظام الإقتصادي في حالاته الهوجاء كما في المثال الأمريكي قد يؤدي في الحقيقة إلى إلغاء المجتمع السياسي من خلال السيطرة على الإعلام وتركيز الثروة وتضييق تكافؤ الفرص. إني أعتقد أن مبدأ إعادة توزيع الثروة ضروري جداً لوجود المجتمع السياسي كما شرحناه، وإن رفع التنافس الإقتصادي فوق كل الإعتبارات لن يؤدي إلا إلى تقليص الفرص وإقصاء شرائح واسعة من المجتمع من القرار السياسي. إن ربط الديمقراطية الغربية بالليبرالية الرأسمالية وجعلهما نهاية لمسيرة التطور البشري يجب على العالم أن يلتحق بركبها ترغيباً او ترهيباً ليس إلا أيديولوجيا لا تزال تأتي بالنتيجة العكسية. كما أن نبذ التجربة الغربية واعتبارها خصوصية محلية يمنعنا من فهم السمة الأخيرة التي نريد الحديث عنها للمجتمع السياسي، وأعني المسيرة التاريخية.
لا يجب أن نعتقد أن المجتمع السياسي التشاركي هو نتيجة مباشرة لإنشاء دولة مركزية يتم فيها تداول السلطة ولا نتيجة آنية لطرح الفكرة والدعوة لها. إن إنتاج هذا المجتمع مسيرة تاريخية طويلة. لا يمكننا أن نفهم التجارب الديمقراطية الغربية على أنها مفاهيم ثابتة كما يدعون إليها وكما يعلمونها في المدارس والجامعات. إنها مسيرات تاريخية مستقلة. النظام الفرنسي مختلف عن النظام الألماني والأخير مختلف عن النظام الإنكليزي وكلها مختلفة عن النظام الأمريكي. لا توجد مؤسسة واحدة في أي من هذه الدول يمكن استنساخها في مكان آخر. لا يمكن استساخ المجلس التمثيلي الفرنسي في أمريكا ولا نظام الحكم المحلي الإنكليزي في فرنسا. كما لا يمكن إيجاد نظام واحد موحد نسميه النظام الديمقراطي يمكن أن نعممه على بلدان الكرة الأرضية كما تفعل الولايات المتحدة مثلاً. ما يمكن عمله هو إدراك المفاهيم العامة مثل المجتمع السياسي والمؤسسات والحرية وتكافؤ الفرص وتوزيع الثروة ومن ثم البدء بتجربة سورية أو تجربة نيجيرية أو تجربة مصرية تستمر لأجيال. كل من هذه التجارب تتبادل المعارف وتحاول تطوير نفسها بنفسها. إن من أشنع المفاهيم التي تعرفنا عليها في الثورة السورية هو مفهوم التنمية الدولية، أي أن تقوم مؤسسات خارجية و"خبراء" خارجيون بنقل أفكار ومؤسسات غريبة إلى مجتمع مختلف بدعوى تطويره أو إيصاله إلى أهداف الالفية أو الاخذ بيده إلى الديمقراطية

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow