Alef Logo
كشاف الوراقين
              

كتاب ــ الشعر والشعراء ــ ابن قتيبة الدينوري – ج3

ألف

خاص ألف

2014-02-11


تراجم الشعراء

امرؤ القيس بن حجر

هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي، وهو من أهل نجد، من الطبقة الأولى. وهذه الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد.
قال لبيد بن ربيعة: أشعر الناس ذو القروح، يعني امرأ القيس.
وملك حجرٌ على بني أسد، فكان يأخذ منهم شيئاً معلوماً، فامتنعوا منه، فسار إليهم فأخذ سرواتهم فقتلهم بالعصى، فسموا عبيد العصا وأسر منهم طائفةً، فيهم عبيد بن الأبرص، فقام بين يدي الملك فقال:
يا عيْنِ ما فاَبْكي بَنِي ... أَسَدٍ هُمُ أَهلُ النَّدَامَه
أَهْلَ القِبَابِ الحُمْرِ وال ... نَّعَمِ المُؤَبَّلِ والمُدَامَهْ
مَهلاً أَبَيْتَ اللَّعْنَ مَهْلاً ... إِنَّ فيما قُلْتَ آمهْ
في كُلّ وادٍ بَيْنَ يَثْ ... رِبَ والقُصُورِ إلى اليمَامَهْ
تَطْرِيبُ عانٍ أَوْ صِيَا ... حُ مُحَرَّقٍ وزُقَاءُ هامَهْ
أَنْتَ المَلِيك عليهمُ ... وهُمُ العَبِدُ إلى القِيَامَهْ
فرحمهم الملك وعفا عنهم وردهم إلى بلادهم، حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة، تكهن كاهنهم عوف بن ربيعة الأسدي، فقال: يا عباد قالوا: لبيك ربنا! فقال: والغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يقلق رأسه الصخب، هذا دمعه يثعب وهو غداً أول من يسلب، قالوا: من هو ربنا؟ قال: لولا تجيش نفسٌ جايشه أنباتكم أنه حجر ضاحيه. فركبت بنو أسد كل صعبٍ وذلول، فما أشرق لهم الضحى حتى انتهوا إلى حجر، فوجدوه نائماً فذبحوه وشدوا على هجائنه فاستاقوها.
وكان امرؤ القيس طرده أبوه لما صنع في الشعر بفاطمة ما صنع، وكان له عاشقا، فطلبها زماناً فلم يصل إليها، وكان يطلب منها غرةً، حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان فقال:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيب ومَنْزِلِ

فلما بلغ ذلك حجراً أباه دعا مولًى له يقال له ربيعة، فقال له: اقتل امرأ القيس وأتني بعينيه، فذبح جؤذراً فأتاه بعينيه، فندم حجر على ذلك، فقال: أبيت اللعن! إني لم أقتله، قال: فأتني به، فانطلق فإذا هو قد قال شعراً في رأس جبلٍ، وهو قوله:
فلا تَتْرُكَنِّي يا رَبِيعَ لِهذِهِ ... وكُنْتُ أَرانِي قبْلَها بِكَ واثِقاً
فرده إلى أبيه، فنهاه عن قول الشعر، ثم إنه قال:
أَلاَ انْعَمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الطَّلَلُ البَالي
فبلغ ذلك أباه فطرده، فبلغه مقتل أبيه وهو بدمون، فقال:
تَطَاوَلَ اللَّيْلُ عَلَيْنَا دَمُّونْ ... دَمُّونُ إِنَّا مَعْشَرٌ يَمَانُونْ
وإِنَّنَا لِأَهْلِنَا مُحِبُّونْ
ثم قال: ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم، ولا سكر غداً، اليوم خمرٌ، وغداً أمرٌ، ثم قال:
خَلِيَلَّى ما في اليوم مَصْحًى لشارِبٍ ... ولا في غَدٍ إِذْ كان ما كان مَشْرَبُ
ثم آلى لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يثأر بأبيه، فلما كان الليل لاح له برقٌ فقال:
أَرقْتُ لبَرْق بلَيْل أَهَلّ ... يُضىءُ سَنَاهُ بأَعْلَى الجَبَلْ
بقَتْل بَني أَسَدٍ رَبَّهُمْ ... أَلاَ كُلُّ شَيءٍ سِوَاهُ جَلَلْ
ثم استجاش بكر بن وائل، فسار إليهم وقد لجؤوا إلى كنانة، فأوقع بهم، ونجت بنو كاهل من بني أسد، فقال:
يا لَهْفَ نَفْسِي إِذْ خَطِئْنَ كاهِلاَ ... القاتِلِينَ المَلِكَ الحُلاَحلا
تَاللهِ لا يذهَبُ شَيْخِي باطَلا
وقد ذكر امرؤ القيس في شعره أنه ظفر بهم، فتأبى عليه ذلك الشعراء قال عبيد:
ياذا المُخَوِّفُنَا بِقَتْ ... ل أَبِيهِ إِذْلاَلاً وحَيْنَا
أَزَعَمْتَ أَنَّكَ قَدْ قَتَلْ ... تَ سرَاتَنَا كَذِباً ومَيْنَا
ولم يزل يسير في العرب يطلب النصر، حتى خرج إلى قيصر، فدخل معه الحمام، فإذا قيصر أقلف، فقال:
إِنَّي حَلَفْتُ يمِيناً غَيْرَ كاذِبَةٍ ... أَنَّكَ أَقْلَفُ إِلاَّ ما جَنَى القَمَرُ
إِذَا طَعَنْتَ به مالَتْ عِمَامَتُهُ ... كَمَا تَجَمَّعَ تَحْتَ الفَلْكَةِ الوَبَرُ
ونظرت إليه ابنة قيصر فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه وطبن الطماح ابن قيسٍ الأسدي لهما، وكان حجرٌ قتل أباه، فوشى به إلى الملك، فخرج امرؤ القيس متسرعاً، فبعث قيصر في طلبه رسولاً، فأدركه دون أنقرة بيومٍ، ومعه حلةٌ مسمومة، فلبسها في يومٍ صائفٍ، فتناثر لحمه وتفطر جسده، وكان يحمله جابر بن حنى التغلبي، فذلك قوله:
فَإِمَّا تَرَيْنِي في رِحَالَةِ جابِرٍ ... على حَرَجٍ كالقَرِّ تَخْفِقُ أَكْفَانِي
فَيَارُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ وَرَاءَهُ ... وعانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عنه ففَدَّانِي
إِذَا المَرْءُ لم يَخْزُنْ عليه لِسَانَهُ ... فلَيْسَ على شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ
وقال حين حضرته الوفاة:
وطَعْنَة مُسْحَنْفِرَهْوجَفْنَةٍ مُثعَنْجِرَهْتَبْقَى غَداً بأَنقِرَهْ
قال ابن الكلبي: هذا آخر شيءٍ تكلم به، ثم مات.
قال أبو عبد الله الجمحي: كان امرؤ القيس ممن يتعهر في شعره، وذلك قوله:
فمِثْلِكَ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ
وقال:
سَمَوْتُ إِلَيْهَا بَعْدَ ما نامَ أَهْلُهَا
وقد سبق امرؤ القيس إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتبعته عليها الشعراء، من استيقافه صحبه في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ.
ويستجاد من تشبيهه قوله:
كأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً ... لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البالى
وقوله:
كأَنَّ عُيُونَ الوَحْشِ حَوْلَ قِبَابِنَا ... وأَرْحُلِنَا الجَزْعُ الَّذِي لم يُثَقَّبِ
وقوله:
كأَني غَدَاةَ البَينِ لَمَّا تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الحَىِّ ناقِفُ حَنْظَل
وقد أجاد في صفة الفرس:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً ... كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَل

لَهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وساقَا نَعَامَةٍ ... وإرْخَاءُ سِرْحَانٍ وتَقْريبُ تَنْقُلِ
ومما يعاب عليه من شعره قوله:
إِذَا ما الثُّرَيَّا في السَّماءِ تَعَرَّضَتْتَعَرُّضَ أَثْنَاءِ الوِشَاحِ المُفَصَّل
وقالوا: الثريا لا تعرض لها، وإنما أراه أراد الجوزاء، فذكر الثريا على الغلط، كما قال الآخر: كأحمر عاد وإنما هو كأحمر ثمود وهو عاقر الناقة.
قال يونس النحوي: قدم علينا ذو الرمة من سفرٍ، وكان أحسن الناس وصفاً للمطر، فذكرنا له قول عبيدٍ وأوس وعبد بني الحسحاس في المطر، فاختار قول امرىء القيس:
دِيمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ ... طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وتَدُرّْ
أقبل قوم من اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، فضلوا الطريق ومكثوا ثلاثاً لا يقدرون على الماء، إذ أقبل راكبٌ على بعيرٍ، وأنشد بعض القوم:
لمّا رَأَتْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هَمُّها ... وأَنَّ البَيَاضَ من فَرَائِصِهَا دامِي
تَيَمَّمَتِ العَيْنَ التي عِنْد ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عليها الظَّلُّ عَرْمَضُهَا طامِي
فقال الراكب: من يقول هذا؟ قالوا: امرؤ القيس، فقال: والله ما كذب، هذا ضارجٌ عندكم، وأشار إليه، فمشوا على الركب، فإذا ماءٌ غدقٌ، وإذا عليه العرمض والظل يفىء عليه، فشربوا وحملوا، ولولا ذلك لهلكوا.
ومما يتمثل به من شعره قوله:
وَقَاهُمْ جَدُّهُمْ بِبَنى أَبِيِهم ... وبالأَشْقَيْنَ ما كان العقابُ
وقوله:
صُبَّتْ عَلَيْهِ ولَمْ تَنْصَبَّ من كَثَبٍ ... إِنَّ الشَّقَاءَ على الاشْقَيْنَ مَصْبُوبُ
وقوله:
وقَدْ طَوَّفْتُ في الآفَاق حَتىَّ ... رَضِيتُ مِن الغَنِيمَةِ بالإياب
ومما يتغنى به من شعره: قِفَا نَبْكِ من ذكْرَى حَبيب ومَنْزل قوله:
تَقُولُ وقَدْ مال الغَبِيطُ بنا مَعاً ... عَقَرْتَ بَعيري يا امْرَأَ القَيْسِ فانُزِل
وقال أبو النجم يصف قينة:
تُغَنِّي فإِنَّ اليَوْمَ يَوْمٌ مِنَ الصِّبَىبِبَعْضِ الَّذِي غَنَّى امْرُؤُ القَيْسِ أَو عَمْرُو
فظَلَّتْ تُغَنِّى بالغَبِيطِ ومَيْلِهِ ... وتَرْفَعُ صَوْتاً في أَوَاخِرِهِ كَسْرُ
وقوله:
كأَنَّ المُدَامَ وصَوْبَ الغَمامِ ... ورِيحَ الخُزَامى ونَشْرَ القُطُرْ
يُعَلُّ به بَرْدُ أَنْيَابِها ... إَذا طَرَّبَ الطائِرُ المُسْتَحِرْ
وكل ما قيل في هذا المعنى فمنه أخذ.
واجتمع عند عبد الملك أشراف من الناس والشعراء، فسألهم عن أرق بيت قالته العرب، فاجتمعوا على بيت امرىء القيس:
وما ذَرَفَتْ عيْنَاكِ إِلاَّ لِتَضْربِي ... بَسْهَميْكِ في أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّل
وقال:
واللهُ أَنْجَحُ ما طَلَبْتَ بِهِ ... والبِرُّ خَيْرُ حَقِيبَةِ الرَّحْل
وقال:
مِنْ آل لَيْلَى وأَيْنَ لَيْلى ... وخَيْرُ ما رُمْتَ ما يُنَالُ
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثورٍ، وهو كندة. وأمه فاطمة بنت ربيعة ابن الحرث بن زهير، أخت كليبٍ ومهلهل ابني ربيعة التغلبيين. وكليب هو الذي تقول فيه العرب: أعز من كليب وائل وبمقتله هاجت حرب بكر وتغلب.
وكان قباذ ملك فارس ملك الحرث بن عمرو جد امرىء القيس على العرب، ويقول أهل اليمن: أن تبعاً الأخير ملكه، وكان الحرث ابن أخته، فلما هلك قباذ وملك أنوشروان ملك على الحيرة المنذر بن ماء السماء، وكانت عنده هندٌ بنت الحرث بن عمرو بن حجر، فولدت له عمرو بن المنذر وقابوس بن المنذر، وهند عمة امرىء القيس، وابنها عمرو هو محرقٌ.
ثم ملكت بنو أسدٍ حجراً عليها، فساءَت سيرته، فجمعت له بنو أسد، واستعان حجرٌ ببني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فقال امرؤ القيس:
تميمُ بنُ مُرٍّ وأَشْياعُها ... وكِنْدَةُ حَوْلِي جَمِيعاً صُبُرْ
فبعثت بنو أسد إلى بني حنظلة تستكفها وتسألها أن تخلى بينها وبين كندة، فاعتزلت بنو حنظلة، والتقت كندة وأسدٌ، فانهزمت كندة وقتل حجرٌ، وغنمت بنو أسدٍ أموالهم. وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص الأسدي:

هَلاَّ سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْ ... دَةَ يَوْمَ ولَّوْا هَارِبينَا
وكان قاتل حجرٍ علباء بن الحرث الأسدي، وأفلت امرؤ القيس يومئذٍ، وحلف لا يغسل رأسه ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره ببني أسد، فأتى ذا جدنٍ الحميري فاستمده فأمده، وبلغ الخبر بني أسد فانتقلوا عن منازلهم، فنزلوا على قومٍ من بني كنانة بن خزيمة، والكنانيون لا يعلمون بمسير امرىء القيس إليهم، فطرقهم في جندٍ عظيم، فأغار على الكنانيين وقتل منهم، وهو يظن أنهم بنو أسدٍ ثم تبين أنهم ليسوا هم، فقال:
أَلاَ يا لَهْفَ نَفْسِي إِثْرَ قَوْمٍ ... هُمُ كانُوا الشِّفَاءَ فلم يُصَابُوا
وَقَاهُمْ جَدُّهُمْ ببَنِي أَبيِهمْ ... وبالأَشَقْينَ ما كانَ العِقَابُ
وأَفْلَتَهُنَّ عِلْباءٌ جَرِيضاً ... ولَوْ أَدْرَكْنَهُ صَفرَ الوطَابُ
ثم تبع بني أسدٍ فأدركهم وقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وقال:
قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدَ العَصَا ... ما غَرَّكُمْ بالأَسَدِ الباسل
قد قَرَّتِ العَيْنَانِ من وائل ... ومن بني عَمْرو ومن كاهِلِ
نَطْعُنُهُمْ سُلْكَى ومَخْلُوجَةً ... كرَّكَ لَأْمَيْنِ على نَابِلِ
حَلَّتْ لَي الخَمْرُ وكْنتُ امْرَءًا ... عَنْ شُرْبِهَا في شُغُلٍ شاغِل
فاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْماً مِنَ اللهِ ولا واغِلِ
ثم إن المنذر بن ماءٍ السماء غزا كندة فأصاب منهم، وأسر اثنى عشر فتًى من ملوكهم، فأمر بهم فقتلوا بمكان بين الحيرة والكوفة، يقال له جفر الأملاك، وكان امرؤ القيس يومئذٍ معهم، فهرب حتى لجأ إلى سعد بن الضباب الإيادي، سيد إياد، فأجاره.
وكان ابن الكلبي يذكر أن أم سعدٍ كانت عند حجرٍ أبي امرىء القيس، فتزوجها الضباب فولدت سعداً على فراشه، واستشهد على ذلك قول امرىء القيس:
يُفَكِّهُنا سَعْدٌ ويُنْعِمُ بالَنا ... ويَغْدُو عَلَيْنا بالجِفانِ وبالجُزُرْ
ونَعْرِفُ فيه من أَبِيهِ شَمَائِلاً ... ومن خالِهِ ومن يزَيدَ ومن حُجُرْ
وهذا الشعر يدل على أن العرب كانت في الجاهلية ترى الولد للفراش.
ثم تحول إلى جبلى طيءٍ، فنزل على قوم، منهم عامر بن جوينٍ الطائي، فقالت له ابنته: إن الرجل مأكولٌ فكله، فأتى عامرٌ أجأً وصاح: ألا إن عامر بن جوين غدر، فلم يجبه الصدى، ثم صاح: ألا إن عامر بن جوينٍ وفى، فأجابه الصدى، فقال: ما أحسن هذه وما أقبح تلك! ثم خرج امرؤ القيس من عنده، فشيعه، فرأت ابنته ساقيه وهو مدبرٌ، وكانتا حمشتين، فقالت: ما رأيت كاليوم ساقى واف، فقال: هما ساقا غادرٍ أقبح.
ويقال إن صاحب هذا القول أبو حنبلٍ بن مرِّ مجير الجراد.
ويقال إن ابنته لما أشارت عليه بأخذ ماله دعا بجذعة من غنمه، فحلبها في قدح ثم شرب فروى، ثم استلقى وقال: والله لا أغدر ما أجزأتني جدعة، ثم قام فمشى، وكان أعور سناطاً، قصيراً حمش الساقين، فقالت ابنته: ما رأيت كاليوم ساقي وافٍ؟ فقال لابنته: يا بنية، هما ساقا غادرٍ شرٌّ، وقال:
لَقَدْ آلَيتُ أَغْدِرُ في جَدَاعٍ ... ولوْ مُنَّيِتُ أُمّاتِ الرِّبَاعِ
لأَنَّ الغَدْرَ في الأَقْوَامِ عارٌ ... وإِنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بالكُرَاعِ
ولم يزل ينتقل من قوم إلى قوم بجبلى طيىءٍ، ثم سمت به نفسه إلى ملك الروم، فأتى السموأل بن عادياء اليهودي، ملك تيماء، وهي مدينة بين الشأم والحجاز، فاستودعه مائة درعٍ وسلاحاً كثيرا، ثم سار ومعه عمرو بن قميئة، أحد بني قيس بن ثعلبة، وكان من خدم أبيه، فبكى ابن قميئة، وقال له: غررت بنا، فأنشأ امرؤ القيس يقول:
بكى صاحبِي لَمَّا رأَى الدَّرْبَ دُونَهُ ... وأَيْقَنَ أَنَّا لاحِقَانِ بقَيْصَرَا
فقُلْتُ لَهُ لا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَما ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أَو نَمُوتَ فنُعْذَرَا
وإني أَذينٌ إِنْ رَجَعْتُ مُمَلكاً ... بِسَيْرٍ تَرَى منه الفُرَانقَ أَزْوَرَا
على ظَهْرِ عادِيٍّ تُحارِبُهُ القَطَا ... إذا سافَهُ العَوْدُ الدِّيَافِيُّ جَرْجَرَا

وبلغ الحرث بن أبي شمرٍ الغساني، وهو الحرث الأكبر، ما خلف امرؤ القيس عند السمؤال، فبعث إليه رجلاً من أهل بيته، يقال له الحرث بن مالك، وأمره أن يأخذ منه سلاح امرىء القيس وودائعه، فلما انتهى إلى حصن السموأل أغلقه دونه، وكان للسموأل ابنٌ خارج الحصن يتصيد، فأخذه الحرث، وقال للسموأل: إن أنت دفعت إلي السلاح وإلا قتلته، فأبى أن يدفع إليه ذلك، وقال له اقتل: أسيرك فإني لا أدفع إليك شيئاً. فقتله. وضربت العرب المثل بالسموأل في الوفاء. وقد ذكره الأعشى في قصةٍ له قد ذكرتها في أخباره.
وصار امرؤ القيس إلى ملك الروم، فأكرمه ونادمه، واستمده فوعده ذلك، وفي هذه القصة يقول:
ونادَمْتُ قَيصَر في مُلْكه ... فأَوْجَهَني ورَكِبْتُ البَرِيدَا
إِذَا ما ازْدَحَمْنا على سِكَّةٍ ... سَبَقْتُ الفُرَانِقَ سَبْقاً بَعيداً
ثم بعث معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم، فلما فصل قيل لقيصر: إنك أمددت بأبناء ملوك أرضك رجلاً من العرب، وهم أهل غدر، فإذا استمكن مما أراد وقهر بهم عدوه غزاك. فبعث إليه قيصر مع رجلٍ من العرب كان معه يقال له الطماح بحلة منسوجةٍ بالذهب مسمومةٍ، وكتب إليه: إني قد بعثت إليك بحلتي التي كنت ألبسها يوم الزينة، ليعرف فضل منزلتك عندي، فإذا وصلت إليك فالبسها على اليمن والبركة، واكتب إلي من كل منزل بخبرك. فلما وصلت إليه الحلة اشتد سروره بها، ولبسها، فأسرع فيه السم وتنفط، جلده والعرب تدعوه ذا القروح لذلك، ولقوله:
وبُدِّلْتُ قَرْحاً دامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ ... فَيَالَكَ نُعْمَى قَدْ تَحَوْلَ أَبْؤُسَا
وقال الفرزدق:
وَهَبَ القَصَائِدَ لي النَّوَابغُ إِذْ مَضَوْاوأَبُو يَزِيدَ وذُو القُرُوحِ وجَرْوَلُ
قال أبو محمد: أبو يزيد هو المخبل السعدي، وذو القروح امرؤ القيس، وجرول الحطيئة.
ولما صار إلى مدينة بالروم تدعى أنقرة ثقل، فأقام بها حتى مات، وقبر هناك، وقال قبل موته:
رُبْ خُطْبَةٍ مُسحَنْفِرَهْ ... وطَعْنَةٍ مُثْعَنْجِرَهْ
وجَعْبَةٍ مُتَحَيِّرَهْ ... تُدْفَنْ غَداً بأَنْقِرَهْ
ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك الروم هلكت بأنقرة، فسأل عن صاحبه فخبر بخبرها، فقال:
أَجَارَتَنَا إِنَّ المَزَارَ قَرِيبُ ... وإِني مُقِيمٌ ما أَقَامَ عَسِيبُ
أَجَارَتَنَا إنَّا غَرِيبَانِ ههنا ... وكُلُ غَرِيبٍ للغَرِيبِ نَسِيبُ
وعسيب: جبل هناك.
ولما بلغ السموأل موت امرىء القيس دفع ما خلف عنده من السلاح وغيره إلى عصبته.
وكان امرو القيس مئناثاً لا ذكر له، وغيوراً شديد الغيرة، فإذا ولدت له بنتٌ وأدها، فلما رأى ذلك نساوه، غيبن أولادهن في أحياء العرب، وبلغه ذلك فتتبعهن حتى قتلهن.
وكان امرؤ القيس جميلاً وسيماً، ومع جماله وحسنه مفركاً، لا تريده النساء إذا جربنه. وقال لامرأةٍ تزوجها: ما يكره النساء مني؟ قالت: يكرهن منك أنك ثقيل الصدر، خفيف العجز، سريع الإراقة، بطىء الإفاقة، وسأل أخرى عن مثل ذلك فقالت: يكرهن منك أنك إذا عرقت فحت بريح كلب! فقال: أنت صدقتني، إن أهلي أرضعوني بلبن كلبة، ولم تصبر عليه إلا امرأةٌ من كندة يقال لها هند، وكان أكثر ولده منها، وكان يعد من عشاق العرب والزناة. وكان يشبب بنساءٍ: منهن فاطمة بنت العبيد بين ثعلبة بن عامر العذرية، وهي التي يقول لها:
أَفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هذَا التَّدلُّل
ويقال لها:
لاَ وأَبِيكِ ابْنَةَ العَامِرِ ... يّ لا يَدَّعي القومُ أَني أَفِرّ
ومنهن أم الحرث الكلبية، وهي التي يقول فيها:
كَدَأَ بِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَها ... وجارَتِها أُمِّ الرَبَابِ بمَأْسَل
ومنهن عنيزة، وهي صاحبة يوم دارة جلجل.

قال محمد بن سلام: حدثني راويةٌ للفرزدق أنه لم ير رجلاً كان أروى لأحاديث امرىء القيس وأشعاره من الفرزدق، هو وأبو شفقل، لأن امرأ القيس كان صحب عمه شرحبيل قبل الكلاب، حتى قتل شرحبيل بن الحرث، وكان قاتله أخاه معدى كرب بن الحرث، وكان شرحبيل بن الحرث مسترضعاً في بني دارمٍ رهط الفرزدق، وكان امرؤ القيس رأى من أبيه جفوةٌ، فلحق بعمه، فأقام في بني دارمٍ حيناً، قال: قال الفرزدق: أصابنا بالبصرة مطرٌ جودٌ، فلما أصبحت ركبت بغلة لي وصرت إلى المربد، فإذا آثار دواب قد خرجت إلى ناحية البرية، فظننت أنهم قومٌ قد خرجوا إلى النزهة، وهم خلقاء أن يكون معهم سفرة. فاتبعت آثارهم حتى انتهيت إلى بغالٍ عليها رحائل موقوفة على غدير، فأسرعت إلى الغدير فإذا نسوةٌ مستنقعاتٌ في الماء، فقلت: لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجلٍ! وانصرفت مستحيياً، فنادينني: يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيءٍ، فانصرفت إليهن، فقعدن إلى حلوقهن في الماء، ثم قلن: بالله لما أخبرتنا ما كان حديث يوم دارة جلجل؟ قال: حدثني جدي، وأنا يومئذ غلامٌ حافظٌ: أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عم له يقال لها عنيزة، وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها، حتى كاي يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل. وذلك أن الحي احتملوا، فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع رجالة قومه غلوةً فكمن في غيابةٍ من الأرض حتى مر به النساء وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فاغتسلنا في هذا الغدير فذهب عنا بعض الكلال، فنزلن في الغدير ونحين العبيد، ثم تجردن فوقعن فيه، فأتاهن امرؤ القيس وهن غوافل، فأخذ ثيابهن فجمعها وقعد عليها، وقال: والله لا أعطى جاريةً منكن ثوبها ولو ظلت في الغدير يومها حتى يخرج متجردةً فتأخذ ثوبها! فأبين ذلك عليه، حتى تعالى النهار، وخشين أن يقصرن عن المنزل الذي يردنه، فخرجن جميعاً غير غنيزة، فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها، فأبى، فخرجت فنظر إليها مقبلةً ومدبرةً، وأقبلن عليه فقلن له: إنك قد عذبتنا وحبستنا وأجعتنا! قال: فإن نحرت لكن ناقتي تأكلن منها؟ قلن: نعم فخرط سيفه فعرقبها ونحرها ثم كشطها، وجمع الخدم حطباً كثيراً فأججن ناراً عظيمة، فجعل يقطع لهن من أطايبها ويلقيه على الجمر، ويأكلن ويأكل معهن، ويشرب من فضلة خمرٍ كانت معه ويغنيهن، وينبذ إلى العبيد من الكباب، فلما أرادوا الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته، وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله وأنساعه، فتقسمن متاع راحلته وزاده، وبقيت عنيزة لم يحملها شيئاً، فقال لها: يا ابنة الكرام! لا بد أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي، فحملته على غارب بعيرها، وكان يجنح إليه فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها، فإذا امتنعت مال حدجها، فتقول: عقرت بعيري فانزل، ففي ذلك يقول:
ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتي ... فَيَاعَجَباً مِنْ رَحْلِها المُتَحَمَّلِ
يظَلُّ العَذَارَى يَرْتَمِينَ بلَحْمِها ... وشَحْمٍ كهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّل
ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فقالَتْ لَكَ الوَيْلاتْ إِنَّكَ مُرْجِلِى
تَقُولُ وقَدْ مال الغَبيطُ بنَا مَعاً ... عَقَرتَ بعيري يا امْرَأَ القيْسِ فانْزِل
فقُلْتُ لها سِيرِي وأَرْخِى زِمَامَهُ ... ولا تُبْعِدِينا من جَنَاكِ المُعَلَّلِ
وكان امرؤ القيس في زمان أنوشروان ملك العجم، لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحرث بن أبي شمرٍ الغساني، وهو الحرث الأكبر، والحرث هو قاتل المنذر بن امرىء القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنةً، كأنه ولد لثلاث سنين خلت من ولاية هرمز بن كسرى.
ومما يشهد لهذا أن عمرو بن المسبح الطائي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في وفود العرب، وهو ابن مائة وخمسين سنةً، وأسلم، وعمرو يومئذٍ أرمى العرب، وهو الذي ذكره امرؤ القيس فقال:
رُبَّ رامٍ من بَنِي ثُعَلٍ ... مُخْرِجٍ كَفَّيْهِ من سُتَرِهْ
وله يقول الآخر:
نَعَب الغَرَابُ ولَيْتَهُ لم يَنْعَبِ ... بالبَيْنِ مِنْ سَلْمَى وأُمِّ الحَوْشَب

لَيْتَ الغُرَابَ رَمَى حَمَاطَةَ قَلْبِه ... عمْروٌ بأَسْهُمَهِ الَّتي لم تُلْغَب
وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هو قائد الشعراء إلى النار " وفي خبرٍ آخر: " معه لواء الشعراء إلى النار " .
قال ابن الكلبي: أقبل قومٌ من اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فضلوا ووقعوا على غير ماءٍ، فمكثوا ثلاثاً لا يقدرون على الماء، فجعل الرجل منهم يستذرى بفىء السمر والطلح، فبيناهم كذلك أقبل راكبٌ على بعير، فأنشد بعض القوم بيتين من شعر امرىء القيس، لما رأت البيتين فقال الراكب: من يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس، قال: والله ما كذب، هذا ضارجٌ عندكم، وأشار لهم إليه، فأتوه فإذا ماء غدقٌ، وإذا عليه العرمض والظل يفيء عليه، فشربوا منه وارتووا، حتى بلغوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وقالوا: أحياناً بيتان من شعر امرىء القيس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ذاك رجلٌ مذكور في الدنيا شريفٌ فيها، منسى في الآخرة خاملٌ فيها، يجيء يوم القيمة معه لواء الشعراء إلى النار " .
وذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: سابق الشعراء خسف لهم عين الشعر.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يقول من فضله: إنه أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف ما فيها، ثم قال: دع ذا رغبةً عن المنسبة، فتبعوا أثره. وهو أول من شبه الخيل بالعصا واللقوة والسباع والظباء والطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف.
قال ابن الكلبي: أول من بكى في الديار امرؤ القيس بن حارثة بن الحمام بن معاوية، وإياه عنى امرؤ القيس بقوله:
يا صاحِبَيَّ قِفَا النَّوَاعِجَ ساعَةً ... نَبْكى الدّيَارَ كما بَكَى ابنُ حُمَامِ
وقال أبو عبيدة: هو ابن خذام وأنشد:
عُوجَا على الطَّلَل المُحِيلِ لَعَلَّنَا ... نَبْكِي الدّيارَ كما بَكَى ابنُ خِذَامِ
قال: وهو القائل:
كَأَنِي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الدّارِ ناقِفُ حَنْظَلل
أراد أنه بكى في الدار عند تحملهم، فكأنه ناقف حنظلٍ وناقف الحنظلة ينقفها بظفره، فإن صوتت علم أنها مدركةٌ فاجتناها، فعينه تدمع لحدة الحنظل وشدة رائحته. كما تدمع عيناً من يدوف الخردل، فشبه نفسه حين بكى بناقف الحنظل.
فمما أخذه الشعراء من شعر امرىء القيس: قال امرؤ القيس:
وُقُوفاً بها صَحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسْى وتَجَمَّلِ
أخذه طرفة فقال:
وُقُوفاً بها صَحْبِي علىَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسًى وتَجَلَّدِ
وقال امرؤ القيس يصف فرساً:
ويَخْطُو على صُمٍّ صِلاَبٍ كَأَنَّها ... حِجَارَةُ غَيْلِ وارِسَاتٌ بطُحْلُبِ
أخذه النابغة الجعدي فقال:
كأَنَّ حَوَامِيَهُ مُدْبِراً ... خُضِبْنَ وإِنْ كان لم يُخْضَبِ
حِجَارَةُ غَيْل برَضْرَاضَةٍ ... كُسِينَ طِلاَءً مِنَ الطُّحْلُبِ
وقال امرؤ القيس يصف الناقة:
كَأَنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِها وأَمامِها ... إِذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَر
أخذ الشماخ فقال:
لها مِنْسَمٌ مِثْلُ المَحَارَةِ خِفَةً ... كأَنَّ الحَصَى من خَلْفِهِ حَذْفُ أَعْسَرَا
وقال امرؤ القيس يصف فرساً:
كُمَيْتٍ يَزِلُّ الِلْبدُ عَنْ حالِ مَتْنِهِ ... كما زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بالمُتَنَزَّلِ
أخذه أوس بن حجرٍ فقال:
يزِلُّ قُتُودُ الرَّحْلِ عن دَأَيَاتِهَا ... كما زَلَّ عن عَظْم الشَّجِيحِ المَحَارِفُ
وقال امرؤ القيس يصف فرساً:
سَلِيمِ الشَّظَا عَبْلِ الشَّوَى شَنِجِ النَّسَا ... له حَجَباتٌ مُشْرِفَاتٌ على الفالِ
فأخذه كعب بن زهير، فقال:
سَلِيم الشظا عَبل الشَّوَى شَنِج النَّسَا ... كأَنَّ مَكانَ الرِّدْف من ظَهْرِه قَصْرُ
وأخذ النجاشي فقال:
أَمِينُ الشظا عارِي الشَوَى شَنِجُ النَّسَا ... أَقَبُّ الحَشَا مُسْتَذْرِعُ النَّدَفَانِ
وقال امرؤ القيس:

فَلأْياً بلَأْيٍ مّا حَمَلْنا غُلَامَنا ... على ظَهْرِ مَحْبُوكِ السَّرَاة مُحَنَّبِ
فأخذه زهيرٌ فقال:
فَلَأْياً بلأْيٍ مَا حَمَلْنا غُلاَمَنا ... على ظَهْرِ مَحَبْوكٍ ظِمَاءٍ مَفَاصِلُهْ
وقال امرؤ القيس:
وعَنْسٍ كأَلْوَاحِ الإرانِ نَسَأْتُها ... على لاحِبٍ كالبُرْدِ ذِي الحِبَرَاتِ
أخذه طرفة فقال:
أَمُونٍ كأَلْوَاحِ الإرَانِ نَسَأْتُها ... على لاحِبٍ كأَنَّه ظَهْرُ بُرْجُدِ
وقال امرؤ القيس يصف امرأةً:
نَظَرَتْ إِلَيْكَ بعَيْنِ جازِئَةٍ ... حَوْراءَ حانِيَةٍ على طِفْلِ
أخذه المسيب فقال:
نَظَرَتْ إِليْكَ بعَيْنِ جازِئَةٍ ... في ظِلِّ بارِدَةٍ منَ السِّدْر
وقال امرؤ القيس يصف الفرس:
يَجُمُّ على الساقَيْنِ بَعْدَ كَلاَلِهِ ... جُمُومَ عُيُونِ الحِسْى بَعْدَ المْخِيضِ
أخذه زيد الخيل فقال:
يَجُمُّ على الساقَيْنِ بَعْدَ كَلاَلِهِ ... كما جَمَّ جَفْرٌ بالكُلاَبِ نَقِيبُ
قال أبو عبيدة: هو أول من قيد الأوابد، يعني في قوله في وصف الفرس قيد الأوابد فتبعه الناس على ذلك.
وقال غيره: هو أول من شبه الثغر في لونه بشوك السيال فقال:
مَنابتُهُ مثْلُ السُّدُوِس ولَوْنُه ... كَشَوْكِ السَّيَالِ وَهْوَ عَذْبٌ يَفِيصُ
فاتبعه الناس. وأول من قال فعادى عداءً فاتبعه الناس. وأول من شبه الحمار بمقلاءٍ الوليد وهو عود القلة. وبكر الأندري والكر: الحبل. وشبه الطلل بوحي الزبور في العسيب والفرس بتيس الحلب.
ومما انفرد به قوله في العقاب:
كأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً ... لَدَى وَكْرها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
شبه شيئين بشيئين في بيت واحدٍ، وأحسن التشبيه.
وقوله:
له أَيْطَلاَ ظَبْى وساقَا نَعَامَةٍ ... وإرْخاءُ سِرْحان وتَقْرِيبُ تَنْقُلِ
وقد تبعه الناس في هذا الوصف وأخذوه، ولم يجتمع لهم ما اجتمع له في بيت واحد، وكان أشدهم إخفاءٍ لسرقةٍ القائل وهو المعذل:
له قُصْرَيَا رِئْمٍ وشدْقَا حَمَامَةٍ ... وسالفَتَا هَيْقٍ من الرُّبْدِ أَرْبَدَا
ويستجاد من قوله:
فإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عليكَ كفاخِرٍ ... ضَعِيفٍ ولم يغْلِبكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ
ويعاب من قوله:
فمثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طرَقْتُ ومُرْضِعٍ ... فأَلْهَيْتُها عن ذي تَمَائِمَ مُحْول
إِذَا ما بَكَى مِنْ خَلْفِها انحرَفَتْ له ... بِشِقٍّ وتَحْتِي شِقُّها لم يُحَوَّل
قال أبو محمد: وليس هذا عندي عيباً، لأن المرضع والحبلى لا تريدان الرجال ولا ترغبان في النكاح، فإذا أصباهما وألهاهما كان لغيرهما أشد إصباءً وإلهاءً.
ويعاب من قوله:
أَغَرَّكِ مِنَّي أنَّ حُبَّكِ قاتِلِي ... وأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمِري القَلْبَ يَفْعَلِ
وقالوا: إذا كان هذا لا يغر فما الذي يغر؟ إنما هو كأسير قال لآسره: أغرك مني أني في يديك وفي إسارك وأنك ملكت سفك دمي! قال أبو محمد: ولا أرى هذا عيباً، ولا المثل المضروب له شكلاً، لأنه لم يرد بقوله حبك قاتلي القتل بعينه، وإنما أراد به: أنه قد برح بي فكأنه قد قتلني، وهذا كما يقول القائل: قتلتني المرأة بدلها وبعينها، وقتلني فلانٌ بكلامه فأراد: أغرك مني أن حبك قد برح بي وأنك مهما تأمري قلبك به من هجري والسلو عني يطعك، أي فلا تغتري بهذا، فإني أملك نفسي وأصبرها عنك وأصرف هواي.
ويعاب عليه تصريحه بالزنا والدبيب إلى حرم الناس، والشعراء تتوقى ذلك في الشعر وإن فعلته قال:
سَمَوْتُ إِليها بَعْدَ ما نامَ أَهْلُها ... سُمُوَّ حَبَابِ الماءِ حالاً على حالِ
فقالت سَبَاكَ الله إِنَّكَ فاضحِي ... أَلَسْتَ تَرَى السُّمَّارَ والناسَ أَحْوالِي
فقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قاعِداً ... ولَوْ قَطَعوا رَأَسِي لَدَيْكِ وأَوْصَالِي
حَلَفْتُ لها باللهِ حَلْفَةَ فاجِرٍ ... لَنامُوا وما إِنْ من حَدِيثٍ ولا صالِي

فلمَّا تَنَازَعنْا الحَديِثَ وأَسْمَحَتْ ... هَصَرْتُ بغُضْنٍ ذي شَمَارِيخَ مَيَّالِ
وصِرْنا إلى الحُسَنى ورَقَّ كَلاَمُنا ... ورُضْتُ فذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إذْلال
فأَصْبَحْتُ مَعْشُوقاً وأَصْبَحَ بَعْلُهاعَلَيْهِ القَتَامُ سَيِّىءَ الظَّنِّ والبالِ


نهاية الجزء الثالث

/ ألف / خاص ألف /

يتبع ...


















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow