Alef Logo
ضفـاف
              

بين الحكمة والدين: كتاب التاو تي تشينغ في مقاربة شخصية 1

فراس الســواح

خاص ألف

2014-02-26

يولد الإنسان ومعه دافع طبيعي إلى التساؤل. وما أن يتفتح وعي الطفل حتى يأخذ بطرح عدد من الأسئلة حول أصل العالم، ووجود الله، والروح والحياة الثانية، والغاية من الوجود والحياة، وما إلى ذلك. وفي الواقع، فإن هذه الأسئلة الطفولية على بساطة طرحها هي التي شغلت البشرية عبر تاريخها، وتصدت للإجابة عليها كل أشكال الحكمة والفلسفة والدين.

هذا الدافع إلى التساؤل يخفت تدريجياً لدى معظم الأفراد بمرور الزمن وتحت ضغط الشروط المادية للحياة اليومية، ويلجأون إلى دين آبائهم ومجتمعهم ليجدوا فيه عقيدة ناجزة وأجوبة جاهزة، تعفيهم من حيرة السؤال، وتضعهم في طمأنينة الأيديوجيا. ولكن قلةً من الناس تبقى أمينةً للسؤال، ولأرق الحيرة الذي يهب الإحساس بالحرية وبحرارة الحياة. ولقد كنت من هذه القلة التي لم تقتنع بالجاهز والموروث، وراحت تبحث في داخل النفس وفي آفاق الثقافة العالمية عن أجوبة على تلك التساؤلات الأولى، حتى بعد أن تبين لي أن العالم ليس جاهزاً بعدُ لتقديم الجواب.

انكببت منذ سنوات المراهقة على قراءة كل ما كان متوفراً من كتب تبحث في تاريخ الفلسفة الغربية من سقراط إلى هيجل، ثم سارتر وصحبه من الوجوديين الذين افتُتِنْتُ بهم طويلاً. وعندما خاب أملي من الفلسفة توجهت إلى دراسة تاريخ الأديان. هذا التوجه جاء في انسجام مع تكويني النفسي والفكري. فأنا من حيث المبدأ إنسان مؤمن، ولكن إيماني لم يتخذ منذ البداية طابع الإيمان التقليدي الذي يرى أن وراء الكون إلهاً مشخصاً مفارقاً يتحكم به عن بعد وفق خطة معدة سلفاً، بل لقد آمنت بوجود بُعدٍ ما ورائي خلف كل الظواهر المبتدية، لا يمكن اختصاره إلى مجموعة من الشخصيات الإلهية ولا حتى إلى إله واحد يلعب دور الملك المسيطر والمتحكم. وهذا البُعد الماورائي لا يمكن وصفه باللغة المعتادة بقدر ما يمكننا الإحساس به في أعماق النفس.

هذه الرحلة في تاريخ الدين والتي استغرقت مني معظم العمر، قادتني في الزمن إلى عصور الإنسان الحجرية، وطافت بي في المكان حول المعمورة، إلى أن حط بي الترحال عند كتاب التاو تي تشينغ الذي وضعه حكيم صيني يدعى لاو-تسو في مطلع القرن الخامس قبل الميلاد. فلقد وجدتُ هذا الحكيم ينطق بلساني ويُعبّر بشكل متسق عن أفكاري.

لا يزيد عدد صفحات كتاب التاو تي تشينغ عن عدد صفحات ديوان شعر حديث من القطع الصغير، ولكنه مارس تأثيراً واسعاً على الفكر الصيني والفكر الشرق أقصوي عموماً. والمؤلف لم يتبع فيه الأسلوب الفلسفي التقليدي، وإنما صاغ أفكاره على شكل حِكمٍ قصيرة ومختزلة وعلى درجة عالية من التجريد بلغت درجة الإلغاز أحياناً. وهذا ما جعل الباحثين شرقاً وغرباً وحتى يومنا هذا في جدل بخصوص تفسير وتأويل مقولاته. تُرجم الكتاب إلى معظم لغات العالم الحية، وقدمتُه إلى قراء العربية في كتاب صدر لي عام 1998 تحت عنوان: كتاب التاو تي تشينغ- إنجيل الحكمة التاوية. وبعد ذلك تعاونت مع صديقي الباحث الصيني شوي تشينغ قوه على إنجاز كتاب جديد في الموضوع نفسه صدر باللغتين العربية والصينية عام2009 في بكين، ضمن سلسة "كنوز التراث الصيني باللغات الأجنبية" المدعومة من وزارة الثقافة الصينية.

أما لماذا كان لكتاب التاو تي تشينغ هذا الأثر في نفسي، فسؤال أجيب عليه من خلال المقارنة التالية بين الفكر التاوي والفكر الديني التقليدي:

1 – في طبيعة المبدأ الكلي :

المبدأ الكلي في الفكر الديني هو كائن عُلوي يتمتع بشخصية كما لأفراد البشر، وله اسم يعرف به، مستقل عن العالم ويفعل فيه فعلاً إرادياً ذا هدف وغاية. أما المبدأ الكلي عند لاو – تسو فقدرة غير مشخصة لا اسم لها ولا شخصية ولا إرادة فاعلة. وهو إذ يدعوها التاو، أي الطريق، فإنه لا يسميها وإنما يصرف ذهن السامع عن الاسم إلى الطريقة التي يفعل بها هذا المبدأ في الكون. ولذلك يقول في الفصل الأول :

التاو الذي يمكن التحدث عنه

ليس التاو السرمدي

والاسم الذي يمكن إطلاقه

ليس الاسم السرمدي

اللا مسمى هو بداية السماء والأرض


ويقول في الفصل 25 :

لا أعرف اسمه فأدعوه التاو

لا أستطيع وصفه فأقول العظيم

عظمته امتداد في المكان

الامتداد في المكان يعني امتداداً بلا نهاية

الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة المبتدى . ([1])

2 – في معرفة المبدأ الكلّي:

يعلن الله عن نفسه في الفكر الديني من خلال اتصاله بمختارين من البشر هم الأنبياء الذين يُعرّفون الناس به ويوصلون لهم مشيئته من خلال كتب تحتوي كلام الله نفسه أو كلاماً مدوناً بإلهامه. فالحكمة التي تعين البشر على معرفة المبدأ الكلي هي، والحالة هذه، حكمة إلهية هبطت من السماء. أما حكمة لاو – تسو فحكمة استنبطها الإنسان، ومعرفة المبدأ الأول لا تأتي من قراءة الكتب المقدسة، وإنما تأتي عن طريق تجربة داخلية تجعلنا في تواصل مع هذا المبدأ دون كلمات. ولذلك يقول المعلم في الفصل الخامس :

الكلام الكثير يقود أخيراً إلى الصمت

ثَبِّت قلبك على جوهر الفراغ .

ويقول في الفصل 23 :

في قلة الكلام تناغم مع الطبيعة

الطبيعة لا تُعبر عن نفسها بالكلمات .

ويقول في الفصل 56 :

الذي يعرف لا يتكلم

والذي يتكلم لا يعرف

ويقول في الفصل 16 :

أتأمل الفراغ المطلق

البث في سكون

الآلاف المؤلفة تنشأ في تواقت معاً

وأنا أرقب دورانها المستمر

وأقوال لاو – تسو هنا عن الصمت الناطق والفراغ الممتلئ، تُحضر إلى ذهني قولاً محبباً إلى نفسي للمعلم إيكهات، وهو متصوف ألماني من القرن الرابع عشر: لاشيء يشبه الله في هذا العالم مثل الصمت.

في حالة التواصل الداخلي هذه، لا يطمح الحكيم إلى معرفة التاو بالوسائل العقلية وإنما بالوسائل الحدسية، بالاستسلام له والتلاؤم مع فعله التلقائي في الكون. يقول المعلم في الفصل 48 :

في طلب العلم تعرف في كل يوم أكثر

في طلب التاو تبذل في كل يوم أقل

تبذل أقل فأقل حتى تصل إلى حالة اللا فعل

ويقول في الفصل 47 :

من غير أن تسافر بعيداً

تستطيع أن تعرف العالم

من غير أن تنظر من النافذة

تستطيع أن ترى طريق السماء

كلما ابتعدْتَ أكثر كلما قَلَّتْ معرفتك .

وهذه الأقوال للاو – تسو بخصوص طلب المعرفة في الداخل، تُحضر إلى ذهني ما قاله يسوع المسيح عندما سُـئِل: متى يأتي ملكوت الله؟ فأجاب: لا يأتي ملكوت الله بمراقبةٍ، ولا يقال ها هو ذا هنا أو هاهو ذا هناك، لأن ملكوت الله في داخلكم (لوقا 17: 20) .

3 – في الخلق والتكوين :

في الفكر الديني يظهر العالم إلى الوجود من خلال فعل إرادي للإله الخالق، وخطة محكمة مسبقة ذات مقاصد محددة في عقله المستقل المفارق لعالم المادة والفاعل فيها.

أما عند لاو – تسو فإن وجود العالم هو فيض دائم من التاو يشبه فيض النور عن الشمس، وهذا الفيض ليس فعلاً إرادياً بقدر ما هو فعل تلقائي. والفعل التلقائي المختلف عن الفعل القصدي هو نوع من اللافعل، إنه أشبه بتفتُّح زهرة تدفعها فعالية خلاقة من داخلها لا من خارجها. من خلال هذه الفعالية التلقائية يتحوَّل التاو إلى ما لا يحصى من المظاهر الحية والجامدة عن طريق تناوب قوتين رئيسيتين تتخللان العالم هما قوة اليانع الموجبة وقوة الين السالبة. يقول المعلم في الفصل37:

التاو ليس من شيمته الفعل

ومع ذلك لا يترك شيئاً بحاجة إلى إتمام .

ويقول في الفصل 40 :

بتكامل الأضداد يتحرك التاو

باللين ينجز عمله

الآلاف المؤلفة في العالم نجمت عن وجود

والوجود نجم عن عدم

ويقول في الفصل 42 :

التاو أنجب الواحد

الواحد أنجب الاثنين

الاثنين أنجبا الآلاف المؤلفة

الآلاف المؤلفة تحمل الـ" ين" على كتفها

وتعانق الـ" يانغ " بالذراعين

الآلاف المؤلفة ناتج تناغم هاتين القوتين

ويقول في الفصل 4 :

التاو فارغ

ولكن النضح منه لا يُنضبه

لا يُسبر غوره، منشأ الآلاف المؤلفة .

إن فراغ التاو هنا قريب من مفهوم الصفر الرياضي. فالصفر هو عدم، ومع ذلك فبدون الصفر لا ينشأ الواحد وبدون الواحد لا تنشأ بقية الأعداد .

وما دام التاو ليس خالقاً للعالم بالمعنى المتعارف عليه، فإنه لا يلعب تجاهه دور السيد المتحكم فيه المُسيِّر له وفق إرادته، بقدر ما يلعب دور القوانين الطبيعية في المفاهيم العلمية الحديثة. فالأشياء في المفهوم التاوي تنشأ تلقائياً وبشكل متزامن في معزل عن مبدأ السببية، فلا حاكم ولا محكوم والكل يحدث من تلقاء ذاته وفي ارتباط وثيق مع حدوث الآخر. عن هذا النشوء التلقائي المتزامن يقول تشوانغ تزو تلميذ المعلم :

" قد يبدو أن للعالم سيداً، ولكن لا توجد مؤشرات تدل على وجوده ... لننظر إلى الجسد الإنساني بعظامه المئة وفتحاته التسعة وأجهزته الداخلية الستة، جميعها متكاملة وقائمة في أماكنها الصحيحة. هل أستطيع وضع أسبقية لواحدها على الآخر؟ هل أضعها كلها على قدم المساواة؟ هل كلها خدم لا تستطيع ضبط بعضها بعضاً؟ هل تتبادل دور السيد والخادم على التوالي؟ ألا ترى أن هنالك شيئاً جوهرياً موجوداً في صميم تكاملها؟ " ([2])

فراس السواح

باحث في تاريخ الأديان – سورية

















































































تعليق



صالح الرزوق

2014-02-26

الانجيل ليس كلام الله بل هو رواية الحواريين لسيرة الوسيط بين خالق العقيدة و مستهلكها.اما لمبدأ الاثنين التاوي ارى انه يذكر بما قاله فرويد عن الإثنين النفسي صراع غريزة الحياة السادية مع غريزة الموت المازوشية. هناك تقاطعات في كل الأفكار و المدارس الكبيرة .

NEO

2014-02-27

ما معنى الصلاة تجاه (أو بلفظ أشمل الصلة مع) هذا "الموجود الغير موجود" إذن؟! من يخاطب الإنسان المتأمل في هذه الحالة؟ من وماذا ينتظر أو يتوقع المريد أوالمتصوف حينئذ؟!

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

دراسات في علم الأديان المقارن: تاريخ المصحف الشريف

22-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

08-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

01-أيار-2021

الديانة الزرادشتية وميلاد الشيطان

24-نيسان-2021

في رمزية حجر الكعبة الأسود

13-شباط-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow