Alef Logo
دراسات
              

في الشعر الجاهلي / جابر عصفور

ألف

2014-02-27

لا يتطور الفكر في أي أمة من الأمم تطورا طبيعيا، أو عفويا، كما لو كان مجرى متدفقا من المياه يمضي في طريقه دون أن يعوقه شيء، فالفكر لا يتطور إلا بالصدمات الحادة أو الانقطاعات المعرفية التي ينتقل بها من حال إلى حال، ويتقدم بها من عهد إلى عهد. هذه الصدمات أو الانقطاعات تضع فكر الأمة في مواجهة حضوره، وتقسمه على ذاته، وتثير التوتر بين مكوناته، وذلك على نحو تواجه به عناصر الجديد الواعد عناصر القديم الجامد، فتحيل الثبات إلى تغير، والرضا بما هو قائم إلى بحث عن المخالف الذي يفتح أفق الاحتمالات الخلاقة للتقدم والتطور. ولكي يدخل الفكر إلى هذا الحال من عملية التغير والتحول، لابد له من تضافر الشروط الخارجية والداخلية، الشروط التي تتحقق بها اللحظة الزمنية التي يتحول بها الفكر في التاريخ وبالتاريخ.

ولا تنفصل الشروط الموضوعية لهذه اللحظة عن الدور الذي تقوم به الذات الفاعلة في الفكر، وهي ذات موصوفة بصيغة المفرد لكنها تنطوي على معنى الجمع، وتشير إلى ما تبذله الطليعة التي لا تتوقف عن مساءلة القائم والمتوارث والمتعارف عليه، وتسعى إلى اكتشاف ما يظل في حاجة إلى الكشف. وتتكون هذه الطليعة من الأفراد المتميزين الذين يستبدلون حرية الفكر بضرورته، وابتكارية الرؤية بتقليديتها، تماما كما يستبدلون الشك بالتصديق، والتمرد الخلاق بالإذعان إلى الاتباع. هؤلاء الأفراد المتميزون هم الرواد الذين يأخذون على عاتقهم مواجهة مجتمعاتهم في شجاعة، كي يزيحوا نقاب التخلف، متحملين في صلابة وعزم كل هجوم واضطهاد.

وطه حسين واحد من هؤلاء الرواد المتميزين، واجه مجتمعه مواجهة شجاعة في مجالات كثيرة منها الدرس الأدبي، ولم يأبه بالهجوم أو الاضطهاد، بل واصل رسالته، وتحدى خصومه، وسخر من أعدائه، وظل نصيرا للجديد الواعد في مجالات الثقافة المختلفة، ملحا على أن أول شرط من شروط التقدم هو الوعي بالتخلف، وإدراك أسبابه ومبرراته، ومواجهة الأصول التي تدعمها، ومجاوزتها بما ينقضها ويستبدل بها نقائض واعدة. ولم يتوان طه حسين في بذل كل ما يستطيع من جهد في هذا السبيل مهما تعددت مجالاته، وذلك إلى الدرجة التي استطاع بها أن يسهم إسهاما كبيرا في تشكيل الجانب المتقدم من فكرنا الحديث.

حتمية الحرية

عاد طه حسين من بعثته إلى فرنسا سنة 1919 مستوعباً فكراً محدثاً يواجه الجهل بالعلم، والنقل بالعقل، والتقليد بالاجتهاد. ويقدر ما تأثر بالتقدم الحضاري، واستوعب التيارات الفكرية والإبداعية الرائدة، تأثر بالتيار العقلاني الذي يحتل ديكارت فيه مكانة لافتة. والتيار العقلاني يعني القول بأولوية العقل، وقدرته الذاتية على إدراك الحقيقة، كما يعني تفسير المبادئ التي تصدر عنها الأشياء تفسيرا سببيا يقبله الفكر الذي يعمل العقل في كل شيء. وأول خطوة تخطوها النزعة العقلانية لهذا التيار هي إثبات وجودها بنفي نقائضها، ومن ثم القضاء على تميز القديم على الجديد لمجرد الإيمان بأفضلية الماضي على نحو مطلق، والقضاء على مبدأ القداسة الجامد الذي يحرم البحث في بعض جوانب التراث، وإعادة النظر في كل ما هو قائم من مناهج. وإطلاق مبدأ الشك الذي يضع كل شيء موضع المساءلة. ويلزم عن ذلك كله تأكيد حتمية الحرية في الدرس الأدبي، لسبب بسيط هو أنه لا وجود لنزعة عقلانية دون حرية الفكر، ولا وجود لدرس أدبي حقيقي، أصيل، من غير تحرر من القيود. ولذلك قال طه حسين قولته المشهورة "الأدب في حاجة إلى الحرية.. في حاجة إلى ألا يعتبر علما دينيا ولا وسيلة. وهو في حاجة إلى أن يتحرر من التقديس. هو في حاجة إلى أن يكون كغيره من العلوم قادرا على أن يخضع للبحث والتحليل والشك والرفض والإنكار، لأن هذه الأشياء كلها هي الأشياء الخصبة حقاً".

وقد طبق طه حسين فكره العقلاني على التراث العربي. فبدأ في دراسة الشعر العربي من منظور العقلانية السببية التي تصل الإبداع بشروطه الدافعة إليه، وتجعل منه استجابة فردية لثلاثية الزمان والمكان والمجموعة البشرية. ولم يكن ذلك بعيدا عن مبدأ الشك الديكارتي الذي استعان به في مناقشة كل ما يتصل بالشعر العربي القديم. وكانت نقطة البداية في ذلك إعادة النظر في قضية الخصومة بين القدماء والمحدثين. وهي قضية قديمة وحديثة في آن. قديمة لأنها تدور حول الاستجابات المتعارضة لشعر القرن الثاني للهجرة، وحديثة لأنها تحاول أن تعالج انقسام الحياة الثقافية في مصر من منظور الاستجابات المتعارضة إلى التحديث والحداثة. ولذلك كان أول ما كتبه طه حسين عن الشعر العربي هو دراساته عن العصر العباسي في جريدة السياسة في الفترة ما بين ديسمبر 1922 وفبراير 1924. وأهم ما في هذه الدراسات الشك في الصورة التقليدية للعصر العباسي الأول، وإثبات أن هذا العصر كان عصر شك ومجون إلى جانب كونه عصر جد وعلم. وقد أحدثت هذه الدراسات ردود أفعال معارضة، وأثارت ثائرة المحافظين. لكنها دفعت طه حسين إلى اتخاذ خطوة أبعد، وهي الشك في وجود بعض الشعراء القدماء.

النزعة العقلانية

وبالفعل، كتب طه حسين في جريدة السياسة في أواخر سنة 1924 مقالاته عن شعراء الغزل في العصر الإسلامي، من أمثال مجنون ليلى الذي شك طه حسين في وجوده. وبقدر ما أثارت هذه المقالات من ردود أفعال غاضبة، فإنها أضاءت لطه حسين فكرته الأساسية عن الانتحال، وزودته بجرأة على المضي في تطبيق مبدأ الشك إلى ذروته. وكان من نتيجة ذلك كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي أصدره عام 1926. وهو الكتاب الذي انتهى فيه طه حسين إلى الشك في وجود هذا الشعر كله، أو على الأقل أغلب هذا الشعر لأسباب بسطها في الكتاب. ويعني ذلك أن كتاب "الشعر الجاهلي" ـ على عكس ما يعرف الكثيرون ـ يمثل ذروة تطبيق مبادئ النزعة العقلانية التي بدأت بالشك في صورة العصر العباسي عام 1922، ثم تصاعدت إلى الشك في وجود بعض شعراء الغزل العذري عام 1924، ثم وصلت إلى الذروة التي انتهت بالشك في وجود الشعر الجاهلي نفسه عام 1926.ويفتتح طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي" بكلماته الحاسمة التي تحدد منهجه على النحو التالي: "سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما. والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة، يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثرا، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا، وأنه قد غير مذاهب الأدباء في آدابهم والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث. فلنصطنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه بالبحث والاستقصاء، ولنستقبل هذا الأدب وتاريخه وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل، وخلصنا من كل الأغلال الكثيرة الثقيلة التي تحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة".

ولم يكن من المهم في ممارسة هذا المنهج أن يتبع طه حسين تفاصيل المنهج الديكارتي في دقائقه، فقد كان الأكثر أهمية لتحقيق هدفه المضي مع المبدأ العام الذي يضع المسلمات المتوارثة موضع المساءلة، بعيدا عن أية تحيزات مسبقة أو تصورات متوارثة. ولا أحسب أن الكثيرين في زمننا يمكن أن يعترضوا على تطبيق هذا المبدأ العام الذي أدى إلى تطور الدرس في العلوم الاجتماعية والإنسانية. ولكن الأمر كان يختلف اختلافا كبيرا في العشرينيات التي كتب فيها طه حسين كتابه، وفي مناخ ثقافي كان لا يزال مشبعا بجمود التقليد وسطوة الاتباع، ويخشى من الصدمات المعرفية التي تهدد علاقات المعرفة الجامدة، أو تخلخل نواهيها الثابتة. ولذلك كان تطبيق طه حسين لهذا المنهج حدثا خطيراً، امتد أثره من مجال الدرس الأدبي إلى مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة، وذلك على نحو أسهم جذريا في تأسيس طرائق محدثة في فهم الظواهر وتأويلها، كما أسهم في التحرر من سطوة القدماء في الدرس وسيطرة علاقات الاتباع والتقليد في بناء المنهج المتبع، واستبدل بسؤال الماضي أسئلة المستقبل، وبالتطلع بأعين السابقين التطلع بأعين العصر نفسه إلى مختلف الظواهر التي لابد أن توضع موضع المساءلة حتى تغدو موضوعا للدرس المنهجي العقلاني.

وكان تطبيق هذا المنهج على الشعر الجاهلي، إذا انتقلنا من العموم إلى الخصوص، يعني الشك في قيمة هذا الشعر وفي وجوده التاريخي، وصياغة طه حسين لأخطر نظرية في تاريخ الدرس الأدبي الحديث، وهي "نظرية الانتحال". ويلخص طه حسين هذه النظرية فيما يتصل بالشعر الجاهلي بقوله: "أول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أنني شككت في قيمة الأدب الجاهلي وألححت في الشك، أو قل ألح علي الشك، فأخذت أبحث وأفكر، وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقينا فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، ولا أكاد أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأنا أقدر النتائج الخطيرة لهذه النظرية، لكني مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها، ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرأه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء، وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين".

وقد صاحب هذه النتيجة المهمة في الشك في الشعر الجاهلي نتيجة أخرى مؤداها أن مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن الكريم لا في الأدب الجاهلي، فمادام الأدب الجاهلي منتحلا فإن صورة العصر الجاهلي لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال القرآن الكريم الذي لا يقبل الانتحال. وخطورة هذه النتيجة أنها تقلب المبدأ القديم، إذ بعد أن كان الشعر الجاهلي يستعان به لفهم المشكل من القرآن إذا بالقرآن يستعان به لفهم ما غمض من جوانب العصر الجاهلي.

أما الأسباب العقلية التي أدت بطه حسين إلى الشك في الشعر الجاهلي فأسباب متعددة، أولها أن الأدب الجاهلي الذي وصلنا لا يمثل الحياة الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية للعرب الجاهليين، وثانيها أن هذا الأدب بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في ذلك العصر، بلهجاتها المختلفة، وبانقسامها إلى لغة العرب العاربة والعرب المستعربة، أو لغة حمير الجنوبية ولغة عدنان الشمالية. ويضيف طه حسين إلى ذلك المزيد من الأسباب التي كانت في ذاتها بمنزلة دوافع إلى انتحال الشعر الجاهلي في رأيه. ولذلك يخصص قسما كبيرا من كتابه يوضح فيه أسباب نحل الشعر. ويمهد لحديثه عن هذه الأسباب بتأكيد ظاهرة الانتحال وشيوعها في الآداب القديمة بوجه عام، وفي الأدب اليوناني بوجه خاص.

وبعض هذه الأسباب يرجع إلى السياسة وما يتصل بها من عصبيات قبلية ومنافع سياسية عمت العرب جميعا بعد الإسلام. كما يرجع البعض الثاني إلى عوامل دينية، منها ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش، ومنها ما يتصل بإثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب. أما البعض الثالث من أسباب الانتحال فيرجع إلى ازدهار الفن القصصي في العصر الأموي وأوائل العصر العباسي، وهو ازدهار أدى بالقصاص إلى تأليف شعر كثير ونسبته إلى عرب الجاهلية، وذلك مثل الشعر الذي روي عن عاد وثمود وتبع وحمير في اليمن القديمة، أو مثل ما روي من شعر عن العلاقات بالفرس واليهود والحبشة، وأخيرا الشعر المنسوب إلى آدم نفسه. أما البعض الرابع من أسباب الانتحال فيرجع إلى الشعوبية والصراع بين العرب والفرس، فهذا الصراع أدى بالعرب وخصومهم إلى الانتحال فيما يؤكد طه حسين. ولذلك كانت الشعوبية تنحل من الشعر ما فيه عيب للعرب وغض منهم. وكان خصوم الشعوبية ينحلون من الشعر ما فيه ذود عن العرب ورفع لأقدارهم. أما البعض الأخير من الأسباب التي أدت إلى الانتحال فمتصل برواة الشعر نفسه، فلقد كانت رواية الشعر حرفة، وعندما تروج الحرفة ويكثير الطلب عليها، يكثر الانتحال، ويأخذ الرواة أنفسهم في الكذب، سعيا وراء المزيد من الربح أو التميز.

المعيار الحاسم

ولكن كيف السبيل إلى التمييز بين الشعر المنتحل والشعر الصحيح؟ يجيب طه حسين عن هذا السؤال بما يذهب إليه من أن المعيار الحاسم في الكشوف عن أصالة الشعر أو زيفه هو الدرس الداخلي للشعر نفسه في ألفاظه ومعانيه، الدرس الأسلوبي التفصيلي الذي يبين عن ما ينتسب إلى العصر الجاهلي بلغته المائزة وصوره الخاصة وأساليبه النوعية وما لا ينتسب إليه. ولكن في نهج يصل بين الداخل والخارج، ويربط بين كيفية تركيب النص داخليا والأسانيد الخارجية لروايته، أو الوقائع التاريخية المرتبطة به أو التي يشير إليها. ونقطة البدء والعود في هذا النوع من الدرس هي التفحص الداخلي للنصوص.

ويدلل طه حسين على ذلك بتخصيص القسم الأخير من كتابه لدراسة الشعراء، ليثبت الانتحال من داخل الشعر الجاهلي، بعد أن أثبته من خارجه. ويبدأ الدراسة الداخلية بالحديث عن شعراء اليمن، ثم شعراء مضر، وينتهي بأن يقول للقارئ الذي يحرص على جذبه إلى تصديق محاجته ما يلي: "أنت ترى بعد هذا كله أنا في هذا الكتاب لم نكن هدامين ليس غير، وإنما هدمنا لنبني. ونحن نحاول أن يكون بناؤنا متين الأساس قوي الدعائم". ويضيف طه حسين إلى ذلك أن المنهج الذي يدعو إليه يحتاج إلى التوسع في تطبيقه على بقية الشعر العربي، وأن هذا التوسع يحتاج إلى دعم ومعونة الصادقين المخلصين. ويأمل في أنه لن يفقد ما يحتاج إليه من دعم ومعونة هؤلاء المخلصين، خصوصا "حين يستأنف بحثه عن الشعر الجاهلي في تفصيل أكبر ودقة شاملة منذ السنة المقبلة إن شاء الله".بهذه الكلمات ينتهي كتاب الشعر الجاهلي، وينتهي طه حسين من عرض نظريته في الانتحال، وكله أمل في استئناف الدراسة التفصيلية. ولكن هذا الأمل سرعان ما اختفى فور صدور الكتاب الذي أحدث من ردود الفعل العنيفة ما دفع صاحب الكتاب إلى هجر الكتابة عن الشعر الجاهلي لسنوات، كما أحدث من عواصف التغير الفكري ما جعل منه أبرز ثورة منهجية في فكرنا الحديث، ثورة لا يقترب منها في حجم ما أحدثت إلا كتاب علي عبدالرازق عن الخلافة الإسلامية الذي سبق كتاب طه حسين بعام واحد على وجه التقريب، وأدى إلى الإطاحة بصاحبه من الأزهر.

والمؤكد أن الحرية العقلية التي انطلق منها الكتاب أثارت الحياة الثقافية كلها، وخاصة المؤسسات والهيئات والمجموعات المحافظة التي ازدادت اشتعالا لعوامل سياسية ودينية حركها المنهج تحريكا فيه عنف لا سبيل إلى إنكاره. ولقد استندت ثورة الغضب على الكتاب إلى مجموعة من العبارات المتحررة قالها طه حسين في ثنايا الكتاب، منها ما يتصل بشكه في الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل، ومنها ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه. ومن المؤكد كذلك أن طه حسين كان متوقعا الثورة عليه، ولكنه ما كان يتوقع كل ما وصلت إليه من تداعيات سلبية وإيجابية على السواء.

رحلة دينية

ولذلك أصبح للكتاب رحلة علمية تتصل بالنقاش حول المبادئ العقلية والمبررات التاريخية التي يستند إليها افتراض طه حسين. وأصبح للكتاب رحلة سياسية حركتها خصومات حزبية ترتبط بالصراع بين الوفد من ناحية وحزب الأحرار الدستوريين حماة طه حسين من ناحية ثانية. وأصبح للكتاب رحلة دينية ترتبط بالصراع المستمر بين دعاة الدولة المدنية ودعاة الدولة الدينية، وهو الصراع الذي لم ينفصل عن التعصب الديني الذي أدى إلى تقديم طه حسين إلى النيابة كما أدى إلى محاكمته. وأخيرا، أصبح للكتاب رحلة فكرية تتصل بوضع مجموعة من الأصول العقلانية المهمة التي تتجاوز الشعر الجاهلي إلى حرية الفكر بعامة، وما ينبغي أن يتوافر لهذه الحرية من حماية. ولقد كان كراتشكوفسكي محقا في دراسته عن المناخ الذي أثاره كتاب طه حسين، كما كان محقا عندما جعل من صدور هذا الكتاب بداية حقيقية للاتجاهات الحديثة في مصر.

أما الرحلة العلمية فتتجلى في طوفان هائل من الكتب والمقالات قامت بالرد على طه حسين. حسبي أن أقول إنه ما بين سنة 1926 وسنة 1927، أي في عامين فحسب، صدرت مجموعة حاشدة من الكتب للرد على كتاب طه حسين.

وقد أدت الاتهامات إلى تقديم طه حسين إلى المحاكمة. وكان ذلك في آخر شهر مايو، عندما تقدم الشيخ حسنين الطالب بالقسم المخصوص بالأزهر ببلاغ لسعادة النائب العمومي يتهم فيه طه حسين بأنه ألف كتابا أسماه في الشعر الجاهلي ونشره على الجمهور، ويؤكد "أن في هذا الكتاب طعنا صريحا في القرآن، حيث نسب المؤلف الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم". ويتحرك شيخ الأزهر فيرسل، بدوره بلاغا إلى النائب العام في أوائل يونيو سنة 1926 وتقريرا من علماء الجامع الأزهر عن طعن طه حسين بكتابه في القرآن والنبي. ويتقدم أحد أعضاء مجلس النواب ببلاغ هو الاخر يتهم فيه طه حسين بالتعدي على الإسلام.

وتقوم العاصفة حول الكتاب. ويصل الأمر إلى قيام مظاهرات تتوجه إلى البرلمان، ويخرج سعد زغلول ليقول "إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها. هبوا أن رجلا مجنوناً يهزي في الطريق فهل يضير العقلاء شيء من ذلك؟ إن هذا الدين متين، وليس الذي شك فيه زعيما ولا إماما حتى نخشى من شكه على العامة فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر". وتتدخل الأحزاب في المعركة، ويعلن الشيخ علي الغاياتي عزمه على استجواب رئيس الوزراء عدلي يكن في هذا الشأن، ويقدم أحد نواب الوفد اقتراحا من ثلاثة أقسام: أولها إعدام الكتاب، وثانيها إحالة طه حسين إلى النيابة، وثالثها إلغاء وظيفته. وينتهي الأمر بموافقة البرلمان على إعدام الكتاب وإحالة طه حسين إلى النيابة فحسب.

وبالفعل، تقوم الجامعة بسحب نسخ الكتاب من الأسواق، وتتولى النيابة التحقيق في الأمر، مهتدية بدستور 1923 الذي كان ينص على صيانة الحريات، والذي كان محل تقدير الحكومة التي جمعت بين الأحرار الدستوريين والوفديين في ائتلاف وطني. ولحسن الحظ، كان الظرف السياسي المتحول لصالح طه حسين، على النقيض من الظرف السياسي الذي لم يكن في صالح علي عبدالرازق، ففي أزمة "في الشعر الجاهلي" كان عدلي يكن الليبرالي العنيد ـ رئيس الأحرار الدستوريين ـ رئيس الحكومة، وكانت وزارة العدل تابعة للأحرار الدستوريين الذين أشاعوا فيها أفكارهم الليبرالية.

لكن هذه الملابسات لا تمنع من أن نسجل للقضاء موقفه الجليل من أزمة طه حسين، وأن نشير إلى قرار النيابة ضد طه حسين، فالقرار وثيقة سياسية وفكرية وعلمية مشرفة للقضاء وللفكر المصري العربي الحديث على السواء. فرئيس نيابة مصر محمد نور بنى قراره على دراسة علمية للكتاب وكل ما كتب حوله من مقالات أو كتب، بل تعدى ذلك إلى بقية أعمال طه حسين. وينتهي من دراسته العلمية الرصينة إلى القرار التالي:

"إن للمؤلف فضلاً لا ينكر في سلوكه طريقا جديدا للبحث حذا هذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكنه لشدة تأثره بما أخذ عنهم قد تورط في بحثه حتى تخيل حقا ما ليس بحق أو ما لايزال في حاجة إلى إثبات أنه حق. إنه قد سلك طريقا مظلما فكان يجب عليه أن يسير على مهل وأن يحتاط في سيره حتى لا يضل، ولكنه أقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة. وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريا".

وبهذا القرار أنقذ طه حسين من عقوبة السجن، وظل يمارس عمله في الجامعة، وحذفت بعض الفقرات الحرجة من كتابه، حين أصدره مرة أخرى بعنوان "في الأدب الجاهلي" عام 1927، بعد أن وسع فيه وأسهب في إثبات فروضه، وأكد الجوانب الفكرية في كتابه القديم ومنحها المزيد من عناصر القوة التي أعانتها على مواصلة رحلتها الفكرية الخصبة في عقول الأجيال التي جاءت من بعد طه حسين. والتي تعلمت من رحلة كتابه معنى وأهمية الدور الذي يقوم به المفكر الأصيل في مجتمع متخلف.


عن مجلة العربي.




























تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow