الموت في رواية ( الشاهدات رأساً على عقب )
خاص ألف
2014-05-01
أليستِ الأشياءُ والموجودات التافهةُ والقيمةُ إلا عبارةً عن نقاط قاتمةٍ أو فاتحة متجاورةٍ ومتلاصقة لتصنع لنا شكلًا للكون ؟ وأن سرّ حركةِ الكونِ ما هو إلا تعاقبُ اللونينِ الأسودِ و الأبيض؟ وما حجم الفرد أو أيّ شيء أمام الحجوم الأُخرى التي يضمها الكون؟ ولما تكون قيمة الشيء أكثرَ من قيمة غيره مع أن كلاهما من نفس المادة؟.
أليست الأعشابُ الطبيّة التي تنتمي لنفس الفصيلة تطيّب الأشخاص الذين لهم عَينُ المرض؟
ألا يعني أن الجوهر واحد مع أن الصُورَ عِدّة؟
ألا تعتمدُ حركةُ الأشياءِ وفق الجاذبية المتبادلة ؟
وأن الأشياءَ تتناوبُ في تغذيةِ بعضها البعض ؟
وهل النوعية لا الكميةُ هي المقياس؟ وأن الكميّةَ هي وقودُ النوعية المنبثقةِ مِنها؟
أسئلةٌ كثيرة تنفجرُ في دماغكَ وأنتَ تتابع قراءة رواية (الشاهداتِ رأساً على عَقِب) للروائي (راهيم حساوي) القادم من عالَم المسرح. حيث يقدم لنا بطلاً نعرفه من صورتهِ اسمه فقط (جابر الزايم) فيدعونا على لسانهِ للتفكير بجوهر الأشياء لا بصورها. .
يخبرنا من أولِ لحظةٍ بأننا أمام روايةٍ فلسفيةٍ وجوديةٍ انطباعيةٍ تدفعنا للتعاطفِ مع بطله ونشاركَ الروائيَّ في تبرير تصرفاتِ وسلوكِ أشخاص الروايةِ,سواءً نوافقهُ الاعتقاد أو نخالفه.
الراوية من ثمانيةِ فصول, يمثّلُ الفصلُ الرابعُ اللبنةَ الأساسية التي تم بناءُ الراوية عليها .
إنها المربع الذهبيُّ للوحةِ التي أرادَ الكاتبُ أن يطبَعها في أذهاننا نحن القراء.
العجينةُ، المادةُ الخام، التي سيُشكّل منها روايته.
وليست الفصولُ الثلاث الأولى والأربعُ اللاحقةُ إلا تمهيداً وخاتمةً للفصلِ الرابع الذي سنتحدث عنه بتفصيلٍ لاحقاً
ولأن الغايةَ هي الجوهرُ لا الصورُ؛ تلعب حركةُ الشُّخوصِ المادية دوراً ثانوياً، بينما تمنحُ للروح المساحةَ الأوسع.
لذا لم يَكُن للمكانِ ولا للزمانِ دورٌ في فضاءِ الروايةِ .
لا أسماء للشوارع، ولا للمطاعم، ولا للمحلات، ولا للقرى، ولا للحارات .. فيكفي أن نعرف أنّ المدينةَ مدينة مأهولة بالسكان.
ولا أهمّية للحدودِ بينَ البيوت أو الشوارع ( جدران البيتِ وهميةٌ لم تستطع أن تمنحني شعورَ الطمأنينة وإن هذا الفراغَ الممتدَّ في مساحةِ البيتِ ما هوُ إلا ذاتُ الفراغ الراسي في جوفِ المدينة)ص 18
وما الشوارع إلا جميعها ( مستويةٌ .إلا أني كنت أشعر بتلكَ المنحدراتِ التي تجعلنا نشعرُ بسقوطِ الروح ورعشة الاستيقاظ من الحياة)-ص17
وكذلك الزمان . لا أهمية له .
إن حدّدَ وَحَصَر؛ سينافي فضاءَ الرواية التي تتطرق لعالم الروح /العقل التي لا تحدّها حدود.
(مرّت الدقائق رغم عدم وجودِ ساعةِ حائطٍ داخل الصالون ..لكن الزفرة الثانية التي أطلقها الزبون رسمَت دائرةً على وجه المرأة تشبه ساعةً بعقارب بطيئة)-ص 10
ومثلما الأمكنة كانت الشخوص مبهَمَةَ المعالم تدركُ جنسها ولا تدرك تفاصليها الجسدية. فنحن أمام رواية تهتم بالجوهر لا المظهر .
تبدأ الرواية بحادثة مادية هي حالة بيولوجية لطرح السموم من الجسد وتنتهي بها الرواية ليثبتَ لنا الحركة الدائرية والعبثية لكشف الحقيقة أو استحالة التوصّل إلى المعرفةِ بالوسائل المتناولة التي ندركها حين نرى الأشياء بمنظور مختلف وتعاملنا بها بمنطق مغاير للظاهر . فحادثة البول التي استهلَّ بها الروايةَ هي وسيلةٌ لطرد السموم الذهنيةِ عند البطل ( للبولِ فلسفةٌ وحكمة ......كلما كنتُ أشعر بالحزنِ أخرج إلى البعيدِ حيث العراءُ فأجلس على تلك الصخرة المزروعة فوق مرتفع بسيط وأبول حتى آخر قطرة وأعود خفيفاً كأني تخلصت من بعضِ حزني)-ص7
يحاول الروائي تأهيلنا للدخول إلى عالم جابر الداخلي . ولذا لم يكن مهما أن نُدرك التفاصيلَ المادية عن جابر؛ سوى أنه شاب عمره خمسة وعشرون عاماً، وأنه ابن ريفٍ يقطنُ المدينة، وأنه يدرس ولا نعرف ما يدرس، ولا نوع دراسته، وأن العبء الماديَّ مهمل ولا تفاصيل أكثر.
المهم أنه شاب له همومهُ الروحيةُ العقلية وأنه باحثٌ عن الفطرةِ و المعرفة ,هذا هو جابر الذي يريد الكاتب أن نَعرفه لا طوله، ولا شكله، ولا لونه، ولا طريقةَ التهامه للطعامِ أو الجنس . نحن أمام جابر المهزوم روحياً والذي لا تنفعه المغريات المادية في انتشاله من عالمه.
وشيئا فشيئا نِلِجُ إلى عالم جابر الواسع من خلال عينيهِ اللتين تمثلان آلة سينمائيةً تبث شريطاً بالأبيضِ والأسود على شاشة أدمغتنا للتفكير (كل شيء أمام ناظري ثابتٌ .ما عدا هذه الأضواء التي كانت تميل وتتحرك ,كلما حركت رأسي قليلاً وأنا أنظر صوبها راودني إحساس بأن المرءَ لو بقيَ ينظر بالمصابيحِ و يفكر فيها ملياً سيتحول دمه إلى مصابيح)
وعبر عدة رسائل وجودية يؤهّلنا الروائي للولوج إلى عالمِ جابر الذي يرفض رؤيةَ الأشياء بصورها. فتتساوى الموجوداتُ والأشياء فتتحول الشخصياتُ الدائرةُ حولهُ إلى كائناتٍ جامدةٍ بينما ترى الأشياء الجامدةَ ناطقةً و متفاعلة. فها هو حين يدخل دكانَ الحلاقة لقص شعره يرى في المرآة الجامدةِ كائناً يرتسمُ على سطحهِ زمنٌ يستجيبُ لنفحات النفس من خلال زفرةِ الزبونِ القاعدِ على كرسيّ الحلاقة . لترتسم ساعةٌ وهمية بعقارب ذهنية تعبر عن الضجر و عن سعة صدرها لحضنها آلاف الوجوه (راحت المرآة تمتص وجوهنا لتُضيفها إلى العددِ الهائل من الوجوهِ التي امتصتها منذ لحظة صُنعها)
ومن ثم قصة الشعر . فيتحول صوتُ المقص إلى عزفِ ناي، وعزفُ الناي يذكرنا بمارسياس وصراعه مع أبولو وهزيمتهُ كما ورد في الأساطير اليونانية، فتتحولُ الشعْرَاتُ إلى ضحايا . عاشت فترة وانتهت تماماً مثل سيجارته (وأعلنت سيجارتي في نهايتها ولم يكن لمشوارها أيُّ معنى فلا ذكر أني نفشت من دخانها سوى النفخة الأولى هكذا تحوَّلَت إلى رماد)-ص19 وما عمر الفرد بالنسبة إلى عمر الكون إلا مثل عُمر الشعرة أو السيجارة.
وهنا في دكان الحلاقة يلتقي صدفةً برشاد صديقه القديم والعائدِ تواً للمدينة والذي نفقده سريعاً في الفصلِ الثاني معَ أنه كان شريكهُ في الجريمة التي سنتحدَّث عنها لاحقاً . فهو لا يشكل إلا عبارةً عن تكمِلَةِ عدد ( أناسٌ لا شأن لهم سوى أن يكونوا شهود عيان على حياتنا)-ص23
وكذلك صديق رشاد منار الذي يهتم به لتشابه عينيه عينا كنانة (العينان هما عينا كنانة تأمل خضرتهما واتساعهما )ص12 .إنهما من صنف المتفرجين أو الأحجار التي تشغل ساحة الشطرنج وتنتظر أصابع اللاعبين للتحرك.
أما كنانة فهي زوجة بديع الزاهر البطل الآخر للرواية . (تضيق الدنيا حين يمشي) إنه اللاعب الآخر والمتسلط والمتحكِّم بسلطة الموت والحياة .وهو الذي هندَسَ قبرَ رَشاد الذي يموت فجأةً بطريقة أقرب للانتحار .فهو المسؤول عن الأموات أيضا.
اتّضحت حلبة الصراع بين جابر الممثل لقوى التغير وبديع الممثل لقوى الثابت, والصراعُ مريرٌ وعميق ستتضح ملامحهُ بقوة حين نصل إلى حكاية الفصل الرابع من الرواية.
أما باقي الشخوص فهي بيادق وجنود وجمهور ضمن رقعة الشطرنج المقسّمة إلى مربعات عاتمة ونيّرة تمنح للاعبين بوابات الحركة . لذا لم يرَ الكاتب ضرورة إغراقنا بتفاصيل لا قيمة لها عن حياة تلك الشخصيات, وما موت رشاد السريع إلا إشارة إلى كونه واحد من جموع الكم لا النوع، وكذلك صديق رشاد منار وأخته تيناز وصديق جابر الأستاذ لاعب الشطرنج ,كلهم من الكم لا النوع الذي يمثله جابر وبديع وكنانة.
الفصل الرابع أهم وأمتع الفصول, هذا الفصل مثير حقاً . فيه الحكاية وهي أصل كل الحكايات وهي _ وإن اضطر الكاتب أن يقيدها بمكان و أحداث مادية_ إلا أنها تمثل لبّ الصراع الأزلي بين عالم الجبروت وعالم الإنسان .وحدود التأويل هنا مفتوحة ولنبدأ من هنا بسرد أصل الحكاية التي سردها الروائي .
تقول الحكاية: أن مراهقين (جابر ورشاد) حاولا سرقة حبات مشمش من شجرة في دار المتسلط (بديع الزاهر) فاكتشف أمرهما .
هرب رشاد و قبض على جابر وعاقبه بديع عقوبة قاسية؛ دفنه في صندوق خشبي كالتابوت. وأجبره على تناول حبات مشمش فاسدة وممزوجة بمخاط بديع.
هذه العقوبة والتي نجا منها بمساعدة (كنانة) زوجة بديع كانت منعطفا في حياة جابر. يقول عنها جابر بأنها زرعت في جوفه نباتات الخوف وعرّفته على الموت.
هذه الجريمة التي قتلت في جابر الرغبة في تذوق حلاوة ملذات الدنيا. وزرعت الخوف في جوفه و أوصدت المعرفة في عالم مغلق وصنعت له مفتاحاً جاثماً على الصدور هو الموت.
هذا العقاب القاسي الدفين في صندوق كالتابوت, هذه العتمة كان السبيل إلى التخلص منها هو فك عقدة القفل والتخلص من المفتاح وهذا ما أشارت له كنانة التي انتحرت على شجرة المشمش وأخبرت جابر السر ألاّ خلاص منه إلا بكسر الباب أو نزع مفتاح الموت من الصدور . للتخلص من سلطان بديع زاهر .
عقابه القاسي كان السبيل للبحث عن وسيلة لتحرير العقل /الروح من سلطان بديع الزاهر سارقُ العقول كما يصفه الراوي على لسان جابر.
ليست الحكاية حكاية حبات مشمش . إنها أصل كل الحكايات ,وما جابر وبديع وكنانة والمشمش إلا صورٌ لجوهر الحكاية التي بدأت منذ الخلق وبدأ الناس بالفهم, إنها حكاية آدم وحواء، وحكاية مارسياس و أبولو الذي عاقبه حين هزمه بربطه على الشجرة وسلخه، وحكاية هيباتيا العالمة الفلكية الفيلسوفة وأسقف الإسكندرية وجرها من شعرها عارية في شوارع الإسكندرية حتى سلخ جلدها ، حكاية غاليلو والكهنة ، حكاية الثورات في كل مكان والثائرين. يكفي أن نذكر هاهنا أن الصور كثيرة والجوهر واحد. إنها حكاية نزع مفتاح الموت لكسر باب الموت للوصول إلى المعرفة. كل الروايات البوليسية تعتمد على جوهر الحكاية والموت لصاحب المعرفة, من يعرف يصبح في حالة الخطر . وهذا ما يفسر لنا قول جابر أن دمهُ ستحول إلى مصابيح لأن الوصول إلى الشمس يعني الذوبان فيها وهكذا كانت نهاية بطل راوية العطر الذي أدرك سر الروح فتلاشى .
اتضحت الغاية إذاً ولتبدأ الفصول المتبقية في إنهاء مسيرة جابر لنتابع عبر الفصل الخامس بأن التفكير بالانتحار هو وسيلة لطعن الذات لتحريرها مثلما فعلت كنانة فالجسد قيد للعقل/للروح مثلما الموت قيد للجسد لذا يفكر جابر بالانتحار وسيلة لطعن الذات للتخلص من الشعور بالألم . وفي الفصل السادس نرى استسلام رشاد وأخته لبديع والارتباط به مع أنه لها كاره، فلا قدرة لهما من مواجهته. وفي الفصل السابع يحاول جابر إقناعنا بأن (الفشل السري أقوى من الفشل العلني)
وأنه متجه نحو طريقه لنزع مفتاح الموت الجاثم على صدره الثمن الباهظ للوصول إلى حلاوة المعرفة المبهمة والتي لن يعرفها إلا بدخول عالم الأموات وأنه لم يعد لديه فرق، فالشارع الذي يحاذي القبور، وسيلة للعبور. ويأتي الفصل الثامن نقرأ فيه رسائل الوادع وقد اتخذ قراره .
ولتنتهي الرواية كما بدأت بفلسفة التبول وتكون هي اللحظة التي يختارها جابر لنزع مفتاح الموت ودخول عالمه.
رواية الشاهدات راساً على عقب : الصادرة عن دار العين بالقاهرة
للكاتب راهيم حساوي
بقلم علاء الدين حسو
عنتاب
شباط 2014
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |