Alef Logo
دراسات
              

التعابير الإبداعية الشبابية الجديدة في تونس ما بعد الثورة (2/1) عواطف القطيطي

ألف

2014-05-06

الملخص:
منذ انطلاق الثورات العربية برزت اشكال تعبيرية فنية جديدة حررت الفنون من فضاءات العرض التقليدية المغلقة واخرجتها الى الساحات الرحبة والشوارع العمومية. الشباب الثوري الذي اكتسح الفضاء العام المحظور ليحرره من الاستبداد السلطوي السياسي حوّل الجدران الى لوحات ناطقة مدونة للحظات الثورية وجعل الشوارع مساحات عرض عفوية ومفتوحة لاتاحة التفاعلات بين “العامة” والابداع ,مازجا بذلك بين الحراك السياسي والتغييرالاجتماعي.
الظاهرة الفنية الثورية الشبابية تطرح مشروعا ابداعيا جديدا يشكل “قطيعة معرفية” وفنية وفقا لمصطلح باشلار مع الممارسات التواصلية والتعبيرية السائدة وتعتبر الفن تجربة شعبية حميمية تلتحم بشواغل الناس وباهتماماتهم اليومية وتنزل الى مواقعهم بعد ان كان مجرد حالة مشهدية ترفيهية ممأسسة ومنفصلة عن الكيان الاجتماعي.
التجارب الشبابية الجديدة بدت كثورة على القوالب الجمالية التقليدية من حيث القيم والمفاهيم والصياغة الشكلية. تعبر على لغة جيل قام بثورة على موروث آباءه ويتطلع الى نحت مجتمع جديد. وهي تحمل رؤية تغييرية قائمة على اسس فلسفية واعية ترتكز حينا على مقاربات “دولوز” واحيانا على طروحات “كورابيل” .وتقدم خطابا يمزج بين احدث النظريات في الجماليات والسيميولوجا وشواغل المجتمع اليومية. هي اذا حالة نقدية سياسية واجتماعية متمردة على الظوابط و تعتمد الادوات الجمالية للتواصل والمطلبية.
هذا البحث تقترح مقاربة هذه التعابيرالشبابية الطلائعية التي تزامن بروزها على الساحات العربية مع الثورات كظاهرة شبابية اتصالية فاعلة بالدرجة الاولى, وتسعى الى ابراز تجلياتها الثورية وتحليل طروحاتها النظرية الفلسفية وانماطها الاستيتيقية ورصد ارهاصات التغيير الاجتماعي فيها من حيث تطلعها الى تقويض المفهوم الاستبدادي للفضاء العمومي من ناحية, ومن حيث تحوير العلاقة بين الابداع والمجتمع لجعلها على شكل تجاذبات تفاعلية مفتوحة, من ناحية اخرى.
لتحليل كل هذه الظواهر ستعتمد هذه الورقة على دراسة تجربتين انطلقت مع الثورة التونسية: ظاهرة الرسوم الحائطية “الجرافيتي” من خلال تجربة مجموعة “اهل الكهف” وفن الشوارع من خلال تجربة مجموعة “فنّي رغما عني” (1).
كيف يمكن مقاربة طروحات المجموعات الفنية الشبابية الثورية عندما تتمرد على المفاهيم الشائعة وترغمنا على تغيير رؤيتنا الى التراجيديا الأجتماعية كي نتجاوز تأثيرها الأنفعالي الأول ونحاول اكتشاف مواطن الجمال فيها؟
كيف يمكن أن يتحول محمد البوعزيزي في لحظة دهشة شعرية من حالة ماساوية التهمت بنيران يأسها الى مبدع عفوي اجج لدى الآخرين طاقات الخلق ؟
هكذا تقرأ مثلا مجموعة “اهل الكهف” (1) تراجيديا البوعزيزي الذي تعتبره “أول فنان تشكيلي في تونس” (2) وتخلق بذلك صدمة معرفية لدى القارىء وانقلابا على المفاهيم الجمالية المتداولة لتلغيها وتعيد صياغتها بدلالات اخرى نابعة من صميم اللحظة الثورية.
لأن البوعزيزي شكل لحظة تأسيسية انبثقت من بشاعة الواقع. وأحدث هزة في محيطه خطتها أبجديات مأساته المتجذرة في وجدان كل فرد مقموع في العالم العربي. تلك هي الأبعاد الجمالية التي ينفرد الفن بالقدرة على ابراز تجلياتها في كل حدث درامي يحيكه مسرح الحياة ببراعة لدى أناس بسطاء ومهمشين في الأحياء الشعبية أوالأرياف أو الشوارع.
البوعزيزي صنع الحدث “بجمالية درامية” نادرة عرضت بغتة على المللأ وفي الشارع العام وأسس للتغيير عن غير قصد من منطلق المعانات والبشاعة “فالفن لايولد الا في ركام الخراب” يؤكد بيان “أهل الكهف” الذي يعتبر مشهد احتراق البوعزيزي بمثابة البرفورمانس (Performance). وفعل الخلق لا يحيل بالضرورة الى مفهوم الفن كحالة ترف ثقافي وروحاني وفق منظور هيجل (1983) أولذة استهلاكية عابرة كما صورته الصناعة الثقافية لفترة ما بعد الحداثة في الغرب وانما يشير الى الفعل والحركة والخروج من الجمود الى الأبداع. نلتمس من هذه المقاربة خلفية فكرية متاثرة بطروحات دولوز(Deleuze, 1991) الذي يعتبر “الحدث” بالمفهوم الفلسفي للكلمة تلك الواقعة الخارقة للعادة التي تغير الأنساق في التاريخ بخلق الصدمة والذهول لدى المتلقي وتهزمشاعره بعمق وتدفعه الى الفعل. وهذه الدهشة هي الجمالية الصرفة لأنها لم تخضع لنية مسبقة أو لتخطيط مقصود بل هي وليدة انفجارمفاجىء لحالة اجتماعية يائسة وجدت صدى كبيرا لذروة ماساتها الأنسانية ولتكرارها في الزمان وفي الجغرافية العربية. وهذا الأنفجار يؤسس بالضرورة لمشهد اجتماعي جديد وبالتالي فهو يحمل دلالات ورموز جمالية.
وخلافا لسوسيولوجيا الثورة التي “تنزع الهالة الرومانسية عن هذا الحدث” حسب غي روشيه (Guy Rocher, 1968) بما انها تنزله في سياق الواقع وتجعله نسبيا من خلال مناهج التحليل فأن فلسفة الأستيتيقيا البراغماتية وطروحات فن ما بعد الحداثة تستنبط من الحدث الثوري جمالية فنية خالصة.(Shusterman, 2002).
وبدل استحضار مصطلح “الثورة” يمكن المجازفة بالقول بان “حدث” البوعزيزي قد أفرز من المنظور الفني, ذبذبات خلاقة وخارقة اكتسح مداها مجالات عديدة سياسية واجتماعية ونفسية وثقافة واقتصادية. لانه حرك المشاعر بعنف وأحدث قطيعة مع عدة مفاهيم نفسية عميقة أهمها على الأطلاق مفاهيم “الخوف” و“الخنوع” وهي ذات المفاهيم التي كانت تكبل طاقة الخلق والأبداع لدى شرائح واسعة من الشباب العربي. في انتظار أن تحدث قطيعات ابستمولوجية ومعرفية تؤسس لتغيير بنيوي في السلوكيات الفردية والأجتماعية في المستقبل.
وقد انبثق عن الأنتفاض الثوري مجموعات فنية شبابية جديدة في كل المدن التي شهدت حراكا شعبيا وسياسيا في العالم العربي. وهي مجموعات تطرح رؤى ابداعية جديدية ومستحدثة في الأطار الثقافي العربي العام. ترتكز على فلسفة هجينة متجذرة في الواقع المجتمعي العربي المتأزم ومنفتحة على الأنساق الفنية الخليطة التي أفرزتها الثقافات الأنسانية المعولمة. هذه المجموعات الشبابية ترسم اليوم ملامح قطيعة معرفية مع قواميس النضال الأجتماعي وأخرى جمالية مع القوالب الأستتيقية السائدة, أحيانا بصمت متعكف وأحيانا أخرى بصخب استعراضي يثير دهشة العابرين. تجارب شبابية بحتة انطلقت من غضب غذته انهزامات شعبية ونفسية متراكمة وانبعثت من الساحات والشوارع والأحياء المهمشة لتخاطبها بلغة جمالية أخرى معقدة في ظاهرها وبسيطة في باطنها كي تهز وعيها وتحرك الساكن فيها.
هذه المجموعات اتخذت من المساحات العامة كالشوارع والساحات والجدران والأسفلت ركحا لاعمالها التي تمزج بين فنون عدة مثل الجرافيتي ومسرح الشوارع والملصقات الجدارية وشعر الساحات وفن الأداء أو ما يسمى بالتجليات التوليفية والبرفومانس وتمزج في تقنياتها فنون الرسم والتصوير والغناء والأداء المسرحي والألقاء الشعري والصور وتفرض نفسها على المارين بجرأة تربك التحفظ الاجتماعي المعهود في الساحات العمومية العربية (3).
يقول غي روشيه أن “الثورة هي حدث تاريخي يتجاوز مداه الزمني فترة اندلاع الشرارة الأولى. كما أن آثار التغييرات التي تحدثها تظهر على المدى البعيد وغالبا ما تكون بطريقة غير مألوفة وأعمق مما يمكن أن نتصوره” (Rocher, 1968: 257) . ورصد مؤشرات التغييرالأجتماعي لا يرتكز بالضرورة على دراسة الظواهر البارزة وانما يمكن ان ينطلق من عوارض بسيطة تعتبر جانبية ولكنها قد تحمل في طياتها مشروعا متماسكا يمكن أن يفضي الى قطيعة مع سلوكيات وتمثلات اجتماعية عقيمة بطريقة مرنة وفعلية. “فالحياة توجد دائما في الأماكن الأخرى” كما يؤكد مافيزولي (Maffesoli, 1998) مؤسس علم اجتماع الحياة اليومية, الذي يرى أن بعض الممارسات اليومية العادية للمجتمع أو لمجموعة من الأفراد التي لا يعيرها الأكاديميون أو المؤسسة البحثية الرسمية اهتماما عند الأحداث التاريخية الكبرى قد تكون اغنى بالدلالات والمعاني من الظواهر البارزة والملفتة للأنتباه. لذلك فهو يدعو اسوة بجيلبار دوران(Gilbert Durand, 1960) الى تجاوز سطحية الظواهر البسيطة والولوج الى اعماقها كي يمكن استقراء الحدث الهام فيها واستنباط مؤشرات التغيير التي تختزنها. ويندرج الأهتمام بالظاهرة الأبداعية الشبابية التي برزت اثناء الثورة ضمن هذا السياق النظري الذي يهتم بدلالات ورموز الحيثيات الصغيرة في الحياة اليومية والعادية للناس.
والمجموعات الفنية الشبابية الثورية هي ظاهرة مستجدة وحالة سوسيولوجية فريدة في العالم العربي المعاصرلانها تسعى الى اعادة بناء الانساق الجمالية في المساحات العامة من خلال الخطاب السياسي وتاصيلها في محيطها الشعبي. وبالتالي فهي تندرج ضمن الحركات التي تسعى الى فعل التفكيك النسقي والقيمي (Deconstruction) ولكن ليس التفكيك المطلق والعبيثي وانما من المنطلق الذي تحدث عنه دريدا (Derrida, 1990:98)كفعل يلتزم بعدم التجرد كليا من القيم التي يريد ان يغيرها بل يشتغل على نفس هذه القيم التي ينتقدها ويقوم بمساءلتها لمقارعتها بالتناقضات التي تكمن فيها. فالغاية في النهاية ليست التفكيك لغاية التدمير وانما لاعادة البناء. يقول سيف الدين الجلاصي (4) من مجموعة “فني رغما عني” (5) أن فلسفتهم قائمة على المفاجأة والأستفزاز وخلق الصدمة لدى الناس لحثهم على التفكير ولكنهم لا يرفضون اية تيارات فكرية مهما كان تعصبها أومعاداتها لفكرة الفن بل يستدرجون اتباعها لمحاورتهم فكريا عن طريق الفن كي يتبين لهم مواطن الغلو والتناقض في طروحاتهم. وهو يعتبر أن الفن يجب ان يكون فضاءا محتويا ومستوعبا وليس اقصائيا. واستعمال منهج التحاور الفكري والفني يعتبر احدى الخصائص الهامة لهذه المجموعات الفنية الشبابية التي بادرت بالقطع مع السلوك الأستبدادي لتمد جسور مبتكرة ومباشرة في التواصل والحوار.
من هذا المنطلق فان المجموعات الفنية الشبابية جديرة بالدراسة والتحليل كظاهرة. يستشف من خلالها مؤشرات للتغيير نابعة من البيئة الشعبية ومتجذرة فيها ولا تخضع لأية سلطة فوقية فنية كانت أوسياسية مما يضفي على عملها طابعا ثوريا ويجعلها مرشحة لتكون حركة طلائيعية بالمفهوم الثقافي والسوسيولوجي للمصطلح. وهي الفرضية الأساسية التي يقوم عليها هذا البحث اما اشكالياته المطروحة فهي تختزل في التساؤلات التالية:
هل تشكل هذه المجموعات ظاهرة فنية أم سياسية أم اجتماعية؟ وهل تعتبر حالة من الأنفلات متمردة على الظوابط والقواعد السلوكية والأنماط الفكرية السائدة في الثقافة العربية؟ ما هي اهم طروحاتها في ما يتعلق بمفهوم الفن والجمالية وفعل التغييروالحراك السياسي والعلاقة مع المشهدية ومفهوم العرض والجمهور؟ وهل هي ظاهرة عرضية عابرة ستؤول الى الزوال أم انها حالة تأسيسية في طور النشوء قد تساهم في التحول الأجتماعي؟
للأجابة على هذه الأسئلة ولمزيد التعمق في معرفة ظاهرة فن الشوارع عن قرب في اطار هذا البحث, تم اجراء لقاء مطول مع سيف الدين الجلاصي احد عناصر مجموعة “فني رغما عني”. كما وقع مراجعة ودراسة البيانات والتصريحات التي اصدرتها مجموعة “اهل الكهف” ومتابعة نشاطها ومدوناتها من خلال صفحتها الرسمية في الفايسبوك والمقالات التي نشرت في الجرائد والمجلات. وتمت أيضا مشاهدة ودراسة شرائط فيديو وصورلأعمال هاتين المجموعتين. وقد دونت كل هذه المصادر في مراجع هذا البحث.
.1 الفن واسترجاع الفضاء العمومي العربي
يقول ريشارد سينيت (Sennet, 1997:327) في كتابه الشهير حول علاقة الجسد بالمكان وفي معرض حديثه عن الظواهر الأجتماعية التي برزت عقب الثورة الفرنسية أن الحشود والجماهير لم تبارح الشوارع والمساحات العمومية حيث ملأتها بالمظاهرات وكذلك بالتظاهرات الشعبية الأحتفالية بدون انقطاع على امتداد سنتين على الأقل. وتتمثل بعض هذه الأحتفالات في ارتداء أقنعة وملابس الأعيان والأرستقراطيين للسخرية من الطبقة الحاكمة السابقة. وقد برز في نفس الفترة مسرح الشوارع حيث يعمد افراد من عامة الشعب بصفة عفوية وفي الساحات العامة الى تمثيل العديد من المواقف السياسية والدينية الأستبدادية التي كان يعاني منها الشعب. وتعزو منى أوزوف (Mona Ozuf, 1988) ظاهرة تمديد الأجواء الأحتفالية الجماعية بعد الثورة الى الرغبة النفسية الجامحة التي كانت طاغية في باريس سنة 1790 في التخلص من رواسب الأستبداد بطرق فنية ورمزية متنوعة واثبات سلطة الشعب على فضاءات المدينة.
ولأول مرة تتمكن الشعوب العربية الثائرة من استرجاع الفضاء العام واكتساحه أثناء الثورات. وتعبر بعض اللافتات التي رفعت في العديد من المظاهرات في تونس ومصرواليمن والتي تحمل شعارات “لقد حررنا الشوارع والساحات” عن وجود احساس “بالأستعمار” الداخلي لازم الأنسان العربي حتى بعد خروج الاستعمار الأجنبي (القطيطي, 2012). ولقد مارس الثائر العربي بكل توق اهم طقوس الأنعتاق وهو تحرير الشارع من رموز الدكتاتورية مثل الصور العملاقة والشعارات الحزبية التي كانت كاتمة على أنفاس المدن وجاثمة على كل فضاءاتها. ولكن سرعان ما احتضنت هذه الأماكن حضورا آخرا ملأ شغورها بطقوس فنية وبصرية جديدة لم يتعود عليها المتلقي العربي. فمخطوطات الجرافيتي الحائطية التي تحمل شعارات الثوار والصورذات الألوان الصاخبة التي تزين جدران المدن والأحياء الفقيرة وتسخر من رموز الأستبداد وعروض الفن الأدائي أو البرفورمانس التي تعيد صياغة الأحداث الثورية بدرامية استفهامية في الشوارع والحلقات الموسيقية أو الشعرية التي تتغنى بالحرية والمقاومة أصبحت ديكورا يوميا لكثير من الأماكن الثورية العربية (6).
يمكن اعتبار الطفرة التعبيرية والفنية النقدية والساخرة في الفضاءات العامة التي تلي الثورات على الدكتاتوريات عملية ضرورية لافراغ شحنة الكبت السياسي والأجتماعي والتخلص من انعكاسات الممنوع عن طريق التعبيرالفني. ويرادف هذه العملية في قاموس علم النفس الغربي ما يعرف رمزيا باللأجتثاث الروحاني (Exorcisme) اي عملية استئصال - مجازي- “للأرواح الشريرة” التي سكنت في احاسيس ووجدان الشعوب بسبب الأستبداد. وقد مارست شعوب أمريكا اللاتينية و بعض دول أوروبا الشرقية نفس الطقوس الفنية التحريرية بعد انهيار جدار برلين في أواخر عشرية الثمانينات.
يعتبر فنان الشوارع الألماني الشهير جوناثان ميس (Jonathan Meese) المعروف بتقمصه للشخصيات الديكتاتورية الشهيرة في العالم أن تجسيد الدكتاتوريات والسخرية منها فنيا يهدف الى تحذير الشعوب المتحررة حديثا من مغبة العودة الى الأستبداد كما أن عرض هذه المسرحيات في المساحات المفتوحة ليس امرا عرضيا بقدرما هو سعي لتجذير الوعي لدى “المواطن الجديد” باهمية عدم التفريط في الحرية الجديدة التي اكتسبها في شوارع مدينته(Azimi, 2011) .
وقد عانت الشعوب العربية منذ عقود طويلة من علاقتها اللأستئصالية مع الفضاء العمومي حيث تربت أجيال كاملة على المسافة الرمزية التي احدثتها الدكتاتوريات بين الشعوب وفضاءها الجغرافي المشترك بسبب استتباب “ثقافة الممنوع”.
ويميز دي سيرتو (De Certeau, 1990) بين مصطلحي “الفضاء” و“المكان”. فالفضاء هو
“مساحة الممارسة العرضية” وعبور المارين المجهولين. أما المكان فهو وعاء العلاقات الأجتماعية والتاريخ والهوية أي وعاء “الكينونة” الفردية والأجتماعية حسب تعبير ميرلو بونتي .(Ponty, 1945) ويشكل المكان العمومي المجال الجغرافي الذي يؤسس لحميمية الروابط الأجتماعية وشروط العيش المشترك من خلال توفر الحرية والعفوية. وتعمد الأنظمة الدكتاتورية الى استلاب شعوبها حق بناء المكان/الكينونة في المساحات العمومية المشتركة قصد الغاء سيادتها الرمزية والفعلية على البلاد باستعمال أدوات القمع والمراقبة والتخويف في الشوارع والساحات. وبذلك تخلق ما يسمى ب “اللا مكان” وفق مصطلح “أوجيه” (Augé, 1992) أي الفضاء الذي يستحيل فيه تأسيس كينونة اجتماعية لأنه مجعول فقط للعبور.
وقد شكل الفن وسيلة التعبير على المصالحة التاريخية بين الأنسان العربي وجغرافيته المكانية واستعادة مساحاته وفضاءاته العمومية التي صادرها الأستبداد لعقود طويلة. اذ لم يتعود المارون على رؤية أفكارهم ومواقفهم السياسية المكبوتة مجسدة في شكل صور او شعارات حائطية أو ابيات شعرية اومسرحية معروضة على الملأ. فالفن كان وسيلة لتجسيد الحلم. والفن كان اداة للتحرير والأستشفاء الجماعي Thérapie)) من خلال “انتاج مراسم احتفالية شعبية وثورية جديدية غايتها اعادة تاهيل الفضاء العمومي” كما يقول سينيت (325(Sennet,1997: وبالتالي اعادة ترميم العلاقات الاجتماعية التي أنهكها الأستبداد وفي نفس الوقت اعادة احياء ذاكرة شعبية وثقافية كانت لها في الماضي علاقة حميمة مع الساحات من خلال فنون الشوارع.

1.1 فن الشوارع في الذاكرة الشعبية العربية
ما زالت هناك بعض البقايا الضئيلة لفنون الشوارع الشعبية في الثقافة العربية وتتمثل في العروضات النادرة والمتناثرة هنا وهناك في الجغرافيا العربية مثل الفنون المسرحية الشعبية “الكاولية – الغجر” و“الكاراكوز” و“خيال الظل” التي كانت سببا لظهور أشكال مسرحية أخرى مثل : “الأخباري” ، و“السماح” و“حفلات الذكر” و“المولوية” في الشرق العربي و“مسرح البساط” ، “صندوق العجائب” ، “المداح” ، “الراوي” و “إسماعيل باشا” في المغرب العربي (فاضل, 2007). وكانت هناك أيضا العروض البهلوانية وحلقات الراوي والحاوي التي تنظم حتى الآن في بعض الساحات العامة مثل “ساحة الفناء” بمراكش.
وفي عهد الجاهلية كان سوق عكاظ الشعري يشكل أشهر معاقل فنون الشوارع اذا أمكننا اطلاق هذا المصطلح الحديث على مثل هذه الفترة تاريخية القديمة. وقد سمي بهذا الاســـم “لأن العرب كانت تجتمع فيه فيتعاكظون أي يتفاخرون ويتناشدون” حسب ما ورد في القاموس المحيط (الفيروزابادي, 2005). ويعتبر عكاظ سوقاً لكل البضائع المادية والأدبية ، فيأتي الشعراء بقصائدهم لتعرض على محكمين من كبار الشعراء.
أما عن مسرح الشوارع فيؤكد الباحث خليل فاضل (ب 2007) أن بداية ظهوره في التاريخ العربي تعود الى القرن الرابع هجري حيث كانت توجد مجموعات من الافراد تعرف ب“السماجة” وكانوا يقدمون في الساحات عروضا من التمثيل بشكل ساخر لا يخلو من الهجاء والضحك. ثم في فترة لاحقة وبالتحديد في القرن الثالث عشر ميلادي برز مسرح “خيال الظل” مثلما تؤكد المخطوطات في فن التمثيل التي ألفها محمد بن دانيال الموصلي المتوفى سنة 1311 ميلادية. الى حدود أواخر القرن التاسع عشر كانت فنون الشوارع الشعبية عديدة ومتنوعة و ممتدة على كامل جغرافيا العالم العربي. فمقاهي الشام ومصر كانت تحتضن عروض “الكاراكوز”. وساحات المدن المغاربية تعج بالرواة وبعروض الدمي و“صندوق العجائب”. اما في العراق فقد انتشر أسلوب والأخباري وهو نوع من المشاهدة التمثيلية على شكل حوار كوميدي متهكم ممزوج بالسخرية والشتائم بين شخصين أو اكثر (فاضل, ب2007).
لقد أسست فنون الشوارع الشعبية العربية على امتداد تاريخها علاقة خاصة بين السكان والفضاء العمومي. وقد كانت تكتسح الساحات والشوارع وتؤسس لمفهوم الفرجة من خلال الأداء التمثيلي الأرتجالي والأستقطاب عبرفن الرواية معتمدة على أدوات الأمتاع والترفيه والنقد الهزلي الساخر. ويصف الأديب توفيق الحكيم علاقته “بالأراجوز” أيام الطفولة في كتابه فن الأدب قائلا: “أن كل فرح الدنيا لا يثير في مشاعري ما كانت تثيره دقات طبلته المتواضعة وهو يقترب من حينا”. وقد ساهمت في بلورة هذه العلاقة المباشرة عدة عوامل تعود للخصائص الثقافية والعمرانية العربية. فغياب مفهوم المسرح كفن قائم بذاته مثلما هو الشأن في الثقافات الأغريقية والرومانية وغياب دور المسارح قد أدت الى احتواء الساحات العامة والميادين والمقاهي والأسواق العربية لظاهرة الفرجة الفنية الشعبية. أما الفضاء الآخر الذي كان يحتضن العروض الموسيقية والشعرية والتمثيلية والروائية والأستعراضية فكان يتمثل في بلاط الخلفاء وهو مقتصر على طبقة الأعيان دون غيرها, مما ساهم في تجذير ظاهرة فناني وأدباء السلطة في التاريخ العربي.ولعل خير شاهد على ذلك سلسلة كتب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني التي تزخر بالأحداث والروايات الفنية المنقولة عن أجواء بلاط الخلفاء والسلاطين.
وابتداءا من أواخر القرن التاسع أخذت الفنون الشعبية تنسحب من الشوارع العربية وبدأت تنقطع صلتها بالفضاء العام وبالشعب منذ بداية اكتساح قوالب المسرح الغربي الحديث أنماط الأداء المحلي وانتشار دور العرض والمسارح في كل الدول العربية. وبدا مفهوم “الجمهور” يعوض مفهوم “العامة” في العلاقة مع الفن. ومع قيام أنظمة ما بعد الأستقلال خضع الأبداع الفني العربي الى عملية “ممأسسة” شملت كل الفنون. أدت الى سيطرة السلطة عليه من ناحية والى وقوعه تحت تأثير الأنماط والتقاليد الأستيتيقية الغربية بصفة طاغية من ناحية أخرى. وقد يشكل ذلك احدى اسباب غياب نهضة فنية محلية حقيقية. ويصف سلمان قطاية هذه المعضلة في ميدان المسرح حيث يقول “كانت كل هذه التجارب متأثرة بعاملين ، الأول : تقليد المسرح الأوربي . والثاني: ارضاء طبقة معينة من المجتمع ، ليست هي الطبقة الشعبية ، لذا لم يستطع هؤلاء الفنانون خلق مسرح أصيل”(23, 1972).

1.2 حركات “المقاومة الفنية”
في المرحلة العربية المعاصرة التي تلت الأستقلال, استحوذت السلطة على مسالك الأبداع واحكمت السيطرة على مضامينه وتوزيعه وتوضيفاته, وقننت الفضاءات وازمنة العروض والمهرجانات واسست لعلاقة مشهدية استهلاكية بحتة للفن. كما سخرته للتوضيف السياسي الرسمي. أما في ما يتعلق بالتراث والفن الشعبي العفوي المباشرفلم يجد له حيزا يذكر في مفهوم الفن الحديث واصبح فلكلورا ثقافيا موجها لللاستهلاك السياحي أكثر منه مجالا اجتماعيا حيويا. واصبحت الشعوب العربية تعاني من قطيعة مع بيئتها الجغرافية والأبداعية ومع ذاكرتها الجماعية تحت ضغط الرقابة على الشارع. أذ أن “المساس بالفضاء المكاني لاية ثقافة يعني المساس بعمق كيانها” (زناد, 1984).
و في عهد الدكتاتورية في تونس كانت توجد رقابة صارمة على المبدع وعلى الشارع. فالفنان كان مجبرا على تقديم عمله لوزارة الثقافة قبل العرض كما كان يوجد قانونا يمنع العروض الفنية في الشوارع والمساحات العامة الا اذا كانت معدة من قبل النظام . السلطة كانت تخاف من اي آداء فني عفوي ومن الأرتجال لانه يفلت من الرقابة. وقد أدى قمع حرية التعبير والأبداع الى بروز تجارب شبابة فنية متمردة في أواخر عشرية الألفين, تشتغل على هامش المساحات الرسمية وتأخذ على عاتقها اعادة ربط صلة الذاكرة الفنية الشعبية مع الفضاءات العمومية. تزامنت هذه الحركات الشبابية الفنية مع بدء استخدام وسائل الأتصال الحديثة والشبكات الأجتماعية. وقد برزت في البداية في الأوساط الشعبية المهمشة مجموعات غناء الراب التي شكلت صدمة للمجتمع وللنظام السياسي نظرا لنقدها اللاذع للدكتاتورية والفساد السياسي ولظواهر التهميش مثل الهجرة السرية والمخدرات والتفقير والبطالة. وتتميز هذه المجموعات باستعمالها لغة شعبية صرفة بعيدة عن المنمقات و كلمات نابية وشتائم تعكس ردة فعل عنيفة على العنف السياسي السائد.
تزامنا مع غناء الراب برزت مجموعات فن الجرافيتي التي ظهرت في البداية في كل من فلسطين ولبنان حيث واكبت المخطوطات والملصقات الجدارية الصراعات الدائرة سواء في في اطار الصراع العربي الأسرائيلي أو الحرب اللأهلية اللبنانية (الحوراني, 2012). ثم امتدت للقاهرة لتصل الى تونس على الرغم من الرقابة المشددة على المساحات العمومية.
اذ يذكر احد خطاطي الجدران الذي يعرف ب“السيد” انه بعد اعداد لوحة حائطية مخطوطة في بلدة بالجنوب التونسي سنة 2009 جاءت الشرطة لتتاكد أنه لم يذكر بن علي ولم يستعمل اى خطاب سياسي“.(Ait Kaci, 2011)
ولمواكبة لهذ الظاهرة الشبابية الجديدة واحتواءها حاولت السلطات الرسمية في بعض البلدان العربية احداث مهرجانات خاصة بفنون الشوارع مثل مهرجان” مدينة الأحلام“الذي انطلق في تونس سنة 2007 ومهرجان”الورشة“في القاهرة الذي انطلق سنة 2008 ومهرجان”ألوان ارت“في مراكش سنة 2010. وتهدف هذه المهرجانات التي تحتضن فعاليات فنية متعددة مثل الرسم والمسرح في الهواء الطلق والغناء ومسرح الدمى, الى تنشيط الفضاء العمومي تحت رقابة السلطة من منظور سياحي وترفيهي بحت. وهو ما يتعارض كليا مع فلسفة فن الشوارع التي تعتمد على النقد وحرية التعبير كمقومات أساسية لوجودها.
ولقد كانت الثورات فرصة حاسمة لاعطاء نقلة نوعية وتاريخية لفن الشوارع في الدول العربية حيث أدى الزخم الثوري الى الأنعتاق من الخوف ومواكبة كل التحركات الشعبية ومطالبها بالحرية والكرامة والشغل. وتحولت الفضاءات العمومية والجدران الى ركح للتعبير عن الأحتفاء بالثورة أو للتحفيز على النهوض والتمرد. وعبرالشباب الثائر من خلال الغرافيتي عن الممنوعات السياسية وقدموا نصوصا صورية ولغوية تارة نقدية وتارة تتضمن سخرية لاذعة من النظام ورموزه. وانبثقت عن الثورة في تونس مجموعات فن الأداء التي اكتسحت الفضاء العام واصبحت تجول بحرية بين الأحياء والمدن معبرة عن عودة المصالحة بين الشعب ومكانه الجغرافي. وفي حركة قطعية مع الأشكال الفنية المتداولة أو التي كانت ترعاها السلط الرسمية أعلنت مجموعات فن الشوارع في تونس انها تعتبر نفسها حركات مقاومة فنية.

2. ابداع ما بعد حداثي في مجتمعات”شبه حداثية“؟
يعتبر فن الشوارع بالطريقة التي تمارس في البلدان العربية حاليا ظاهرة مستلهمة من المجتمعات الغربية. فالغرافيتي وعلب الألوان المستخدمة والملصقات الحائطية وأساليب الأداء الفني والمسرحي في الشوارع وفلسفته مستنبطة عن مقاربات فكرية وسياسية وجمالية نقدية طرحت مفاهيم علاقة الأنسان بالفن وعلاقة الفن بالفضاء الجغرافي وعلاقة الفضاء العمومي بالحرية والديمقراطية في مجتمعات غربية أرهقتها قيم الأستهلاك وأرقها وهم الحداثة. ويصنف فن الشوارع بكل أشكاله ضمن تعابير فنون ما بعد الحداثة التي يعرفها فوستر (Foster, 1993: 11-12) على أنها”عملية قراءة نقدية للقوالب الجمالية التقليدية تمثل قطيعةعلى مستوى الجماليات الشكلية والمضامين الأجتماعية للفنون. في سياق اعادة بناء قيم جديدة لفن ما بعد حداثي يناهض الرؤية التقليدية الجامدة للفن. وهذه الرؤية هي تعبيرعن مقاومة الحداثة ورفضها ومحاولة لمراجعة الماضي بحس نقدي قصد مراجعة المفاهيم التقليدية التي أرستها الحداثة“. ومن خصائص فن ما بعد الحداثة أنه”يتجاوز الأساليب والنظم والأنساق والتوجهات الأكاديمية المدرسية بما يمنحه امكانات احداث صدمة وكسر لأفق توقع المتلقي“(شناوة, 2011). وهو يقوم على التجريب والأداء الحر وكسر القوالب و يعتمد على”الحدث العابر المشهدي، وعلى تحالف شتى الفنون التوليفية، من مؤثرات صوتية، وضوئية، إلى السينوغرافي، والكوليغرافي، والرقص، والحركات الإيمائية، والديكورات المسرحية، والتصوير الجداري وإسقاطات الفيديو إلخ.“(عرابي, 2001).
ولقد تطورت هذه الصيغة الفنية ابتداءا من السبعينات مع ظهور الفكر النقدي ما بعد الحداثي الذي يعتبر ليوتار(Lyotard, 1979) من أهم مؤسسيه حيث استعمل هذا المصطلح ليصف الحالة المعرفية الثقافية التي تمر بها المجتمعات الغربية التي بدأت تنتج خطابات نقدية في عدة مجالات لتبرز التناقضات بين التصورات المثالية للحداثة الغربية وممارساتها وفشلها في تحقيق مشروع النهضة الحقيقية للأنسان. وتتميز ما بعد الحداثة بارساء ما يعرف بمجتمع الأتصال وتطور التكنولوجيا الحديثة وتفاقم دور الأعلام وهيمنة ثقافة الصورة وتاثير العولمة وطغيان القيم الأستهلاكية على كل مظاهر الحياة من بينها التعابير الفنية. وهو ما انتج حالة من الفراغ الأيديلوجي وتفكك الاتجاهات الفكرية المعاصرة وحركة فكرية نقدية تعرف نفسها من منطلق نقدها وتجاوزها لمرحلة الحداثة وقيمها.
ولا يمكن انكار أن الحركية الفكرية والثقافية الغربية النشيطة ما فتأت تحدد الخطوط العريضة للأنساق الفكرية الأنسانية منذ عصر النهضة وتدفع بالأنساق الثقافية الأخرى للدوران حول محورها. ولا تستثنى المجتمعات العربية من هذه التاثيرات في جميع الميادين ومن ضمنها الميدان الفني. فمنذ بروز وسائل الأتصال العصرية وانتشار صناعة الثقافة انخرطت الأنظمة العربية في الثقافة الأستهلاكية الفنية واسست لمفهوم الفن كفرجة بالاساس وسعت الى تهميش واقصاء كل التعابير النقدية والمتمردة مما ادى الى انحسار الانتاج الفني العربي الجيد وغياب المدارس الجمالية المحلية والانساق الفكرية فيه. وهو ما يطرح معضلة الأستلاب الثقافي للمبدعين العرب الذين يعبرون عن واقعهم بأدوات ورؤى فنية ناتجة عن حركات نقدية غربية ازاء نظم فكرية نبعت من بيئتهم ومن خصائصهم.
وبعيدا عن تشنجات الهوية تطرح هذه المعضلة قضية حضارية شائكة تتمثل في مدى نجاح هذه التجارب الفنية الجديدة المستلهمة من سياق تاريخي غربي ما بعد حداثي في بيئات عربية لم تشهد مراحل حداثة ولا بعد حداثة.
لقد أدت العلاقات التاريخية بين العرب الغرب وظاهرة العولمة وترابط العلاقات الدولية والأقتصادية الى انخراط العرب بشكل تبعي في الدورة الأقتصادية الرأسمالية العالمية كأنظمة توفرفقط الطاقة الخام واسواق استهلاك للرأسمال. ولم تتمكن الشعوب العربية من الأستفادة الحقيقية من الثورة الرأسمالية التي ادت في الدول الغربية الى تجديد علاقات الأنتاج وتغير البنى القليدية واستفادة كل الشرائح الأجتماعية من توزيع الثروات وتجذير مفهوم العقد الأجتماعي والحريات السياسية. ولكنها طورت علاقة هجينة مع مفهوم الحداثة الغربية تتمثل في اقتباس مظاهرها المادية والتكنولوجية وبعض النسق التنظيمية الظاهرية بدون الأستفادة من العقل العلمي الغربي. ولذلك يقول هشام شرابي أن المجتمعات العربية المعاصرة لم تعرف حداثة وانما تحديث. والتحديث، هو سياق التحول الاقتصادي والتكنولوجي في حين أن الحداثة هي البعد البنيوي والفكري. (شرابي, 30 :1992). ويقترح محمد أركون مصطلح ”metamoderne “لوصف الوضع الحضاري والمعرفي للمجتمعات العربية المعاصرة و الذي يمكن ترجمته ب”شبه حداثة".
وقد عمقت التطورات السريعة التي شهدتها الدول الغربية منذ دخول الرأسمالية في مرحلته المتقدمة وانتشار تكنولوجيا الأتصال الحديثة والعولمة في العشريات الأخيرة, المأزق الحضاري والمعرفي في المجتمعات العربية. فقد أصبحت مستهلكة للمنتوجات الأقتصادية والثقافية المعولمة وصارت تعاني تبعات خلل النظام الرأسمالي كالتفقير والتهميش ولكنها عجزت عن فهم انعكاسات انخراطها في الدورة العالمية أواستيعاب الزخم المعرفي المعاصر الذي أنتجته الأنساق الفكرية للحداثة و لما بعد الحداثة. فالمجتمعات العربية تعيش أزمة عقل اي فكر بالدرجة الأولى مثلما يقول محمد عابد الجابري (1984). والمسالة الجوهرية التي تطرح في هذا السياق هي ماذا أخذ العرب من حداثة الغرب ومابعد حداثته ؟ كيف يتفاعل معها؟ وهل سمحوا لهذه الأقتباسات أن تساهم في نقد الفكر العربي وتطويره؟
واذا أدرجنا في هذا النقاش مسألة الأبداع الفني ومدى تفاعل المجتمعات العربية مع أشكال فنية غربية ناتجة عن صيرورة فكرية متماسكة تعتمد الطرح والنقد والتجاوز ثم الطرح المضاد مثلما هو الشأن مع الحداثة وما بعد الحداثة. فانه تتراى لنا عدة افتراضات ممكنة.
قد تشكل ظاهرة فن الشوارع احدى الشواهد عن التغيير الكبير الذي طرا على بنية المجتمعات العربية في العقود الأخيرة. فهي ناتجة بطريقة ما عن حركة العولمة ووسائل الأتصال الحديثة التي وفرت فضاءا افتراضيا لتلاقح الثقافات وتاثيراتها المتبادلة. وقد تعبر ايضا عن بروز نخبة شبابية مبدعة ومثقفة استوعبت ثقافة الأمتزاج الثقافي من خلال الشبكات الأجتماعية وتبنت قضايا مجتمعاتها عبر مفاهيم حديثة تمكنها من طرحها ومعالجتها في اطارها العصري والحاضر.
لقد أصبح من الضروري تجاوز الأدوات والمفاهيم المعرفية التي تحاول تحديد ملامح واضحة للمجتمعات العربية أوتصنيفها في بوتقة واحدة. فهذه المجتمعات تخترقها عدة تيارات فكرية يصعب اختزالها في التوجهات القومية أوالدينية أوالليبرالية أو الأشتراكية. فالعولمة وثقافة الصورة وتكنولوجيا الأتصال اخترقت هذه التصنيفات وأضفت عليها تعقيدات معرفية تعكس الصراع الثقافي العالمي وتذبذبه بين الهويات المحلية والهوية الأنسانية. وينخرط فن الشوارع العربي ضمن هذه المنظومات التعبيرية العالمية والهجينة التي تعبرعلى وضعية هذا التذبذب ولكنها ايضا تعبر عن توقها الى الحرية والتحرر وهو المطلب الأساسي الذي يجمع كل شعوب العالم شمالا وجنوبا في عصر هيمنة رأس المال وقيمه.
وفي ظل هذه التحولات هل سيتمكن فن الشوارع من نقل الارهاصات الفكرية العالمية الى الشارع العربي عبر أدواته الجمالية المتفردة؟ هل سيكون المتلقي العربي مستوعبا لفلسفة الفن الجديد ام سيضطر الفنانون الى تطويع فن الشوارع الى بيئتهم المحلية والتقيد بنواميسها ؟ وأخيرا هل سينجح فن قائم على النقد والتمرد من التعبيير بحرية وكسر أصنام فكرية استوت في العقل العربي في فضاء عمومي لا تزال تتسم حريته بالهشاشة ؟
الهوامش:
1.حركة “أهل الكهف” الفنية : تعرف هذه المجموعة نفسها بأنها “حركة مقاومة جمالية فنيَّة شبابيَّة تونسيَّة انطلقت أثناء الثورة. وهي مناهضة للعولمة والإستشراق ووليدة المسار الثوري” نص نشر في صفحة الفيسبوك للمجموعة. الرابط https://www.facebook.com/pages/%D8%A3%D9%87%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%87%D9%81-ahl-alkahf/115175015229496?sk=info
2. . ورد ذلك في البيان التاسيسي لمجوعة “أهل الكهف” الذي نشر في صفحتها الرسمية على الفايسبوك بتاريخ 27/12/2011 . الرابط: https://www.facebook.com/notes/%D8%A3%D9%87%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%87%D9%81-ahl-alkahf/%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A3%D9%87%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%87%D9%81-27-12-2011/218512878229042
3. أنظر روابط الصور لاعمال هذه المجموعا الفنية في المراجع.
4. حديث خاص أجرته معه الباحثة لأعداد هذه الدراسة, يوم الأحد 2 سبتمبر 2012 بتونس العاصمة.
5. مجموعة “فني رغنا عني” : هي حركة فنية انطلق عملها في 25 اوت 2011 ، حيث انها تقوم بعروض “تجمع من خلالها مزيجا من انواع الفنون مرورا بهيبة المسرح و بعاطفة الفن التشكيلي و احساس الموسيقى وصولا الى جوارح الشعر والادب. و تجتمع هذه العروض في شكل مغاير للمعهود ، في مكان ولدت فيه كل هذه الانماط الفنية الا وهو الشارع”. نص نشر في صفحة الفيسبوك للمجموعة. الرابط: https://www.facebook.com/Fanni.Tn/info
6. أنظر روابط شرائط الفيديو لاعمال هذه المجموعات الفنية في المراجع.
المراجع:
المصادر العربية
الكتب
• البهنسي، د.عفيف. (1997). من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن، دار الكتاب العربي، دمشق - القاهرة، الطبعة الأولى.
• الجابري, محمد عابد. (1984). نقد العقل العربي, مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت, لبنان.
• جميل سعيد. (1954) “نظرات في التيارات الأدبية الحدثة في العراق” .مطبوعات معهد الدراسات العربية العليا, القاهرة.
• عبيد، كلود. (2008). التصوير وتجلياته في التراث الأسلامي، المؤسسة الجماعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت, لبنان.
• شرابي, هشام. (1992) النظام الأبوي واشكالية تخلف المجتمع العربي. مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, لبنان.
• الفيروزابادي, مجد الدين.( 2005). القاموس المحيط, المحقق: محمد نعيم العرقسوسي, مؤسسة الرسالة, سنة النشر: 1426
• قطاية, سلمان. (1972). المسرح العربي من أين والى أين. منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق, سوريا.
المجلات
• عرابي, أسعد. (2001). “تزاوج أنواع الفنون في نزعة مابعد الحداثة”، “جريدة الفنون”، شهريّة فنيّة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت، العدد 4.
المصادر الألكترونية
• الحوراني, هاني (2012-01-23) “الشارع العربي من الأحتفاء بالحج الى المطالبة بسقوط الأنظمة”, جريدة القدس العربي. تم استرجاعه في 10-09-2012 على الرابط http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today%5C23qpt888.htm&arc=data%5C2012%5C01%5C01-23%5C23qpt888.htm

• خليل, فاضل. (أ 2007- 2 -16). “النشأة والتطور في المسرح العربي”, الحوار المتمدن, العدد: 1828. تم استرجاعه في 15-08-2012 على الرابط http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=88836
• خليل, فاضل. (ب 2007 - 1 - 31). “المسرح الشعبي العربي”, الحوار المتمدن-العدد: 1812 - تم استرجاعه في 15-08-2012 على الرابط http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=87402
• شناوة وادي الحسيناوي, علي. (2011). “راوشنبرغ, جاسبر جونز, ازاحات مابعد حداثوية”, كلية الفنون الجميلة, بغداد, العراق. تم استرجاعه في 26-08-2012 على الرابط http://www.uobabylon.edu.iq/uobcoleges/publication_view.aspx?fid=13&pubid=957
المصار الأجنبية
ملاحظة: الاستشهادات المستمدة من المراجع الأجنبية ترجمتها صاحبة هذا البحث.
Arendt, Hannah. (1958) The Human Condition, London, Chicago, University of Chicago Press.
Arkoun, Mohamed. (1984) Pour une critique de la raison islamique, Maisonneuve et Larose, Paris.
Augé, Marc. (1992) Non-lieux. Introduction à une anthropologie à la surmodernité. Éditions du Seuil, Paris.
Brecht, Bertolt. (1958) The popular and the realistic, In Willett, ed., GB.
Certeau, Michel de, (1990) L’invention du quotidien, 1. Arts de faire, Editions Gallimard, Paris.
Deleuze, Gilles et Guattari, Felix. (1991) Qu’est ce que la philosophie? Les éditions du Minuit, Paris.
(2004) Mille mesetas, ed Pretextos, España.-----
Derrida, Jacques. (1990) Le Problème de la genèse dans la philosophie de Husserl, Paris, coll. « Epiméthée », PUF, Rééd. 2010.
Durand, Gilbet. (1960) Les Structures anthropologiques de 1’imaginaire: introduction à l‘archétypologie générale, première éd., Presse Universitaires de France, Paris.
Foucault, Michel. (1976) Histoire de la sexualité, la volonté du savoir, Gallimard, Paris.
----- (1993) Surveiller et punir, Gallimard, Paris.
Foster, Hall (dir), (1993) La posmodernidad, Kairós, Barcelona.
G.W.F.Hegel. (1983) Estética. La forma del Arte romántico, Buenos Aires: Ediciones Siglo Veinte; (trad. Alfredo Llanos)
Ketiti, Awatef. (2012) La deriva islamista de las revoluciones árabes
Hacia el control espaciotemporal de lo simbólico, Revista Pasajes, Universidad de Valencia. ( تحت النشر).
LeMoine, Serge. (1985) Dada, Hazan, Paris.,
Maffesoli, Michel. (1998). La conquête du présent, sociologie de la vie quotidienne, Paris, Desclée de Brouwer.
Merleau-Ponty.(1945) Phénoménologie de la perception, Editions Gallimard, Paris.
Ozouf, Mona. (1988) Festivals and the french revolution, Camridge, MA: Harvard University Press, Paris.
Rocher, Guy. (1968) Introduction à la sociologie générale, le changement social, Editions HMH Ltée, Paris.
Sennet, Richard. (1997) Carne y piedra. El cuerpo y la ciudad en la civilización occidental. Alianz Editorial, Madrid.
). Estética Pragmatista. Barcelona: Idea Books.Shusterman, R. (2002
Zannad, Traki. (1984) Symboliques corporelles et espaces musulmanes, Cérès Productions, Tunis.
مصادر الكترونية
Ait Kaci, Sophia.,(25/04/2011) Le graff en Tunisie, Journal Fatcap, consulté le 28/08/2012 au lien suivant: http://www.fatcap.org/article/graff-en-tunisie.html
Azimi, Roxana. (4/02/2011) “Déroutant et provocateur l’artiste allemand Jonathan Meese”, Le Journal des Arts - n° 340. Consulté le 03/09/2012 au lien suivant: http://www.lejournaldesarts.fr/jda/archives/docs_article/80952/deroutant-et-provocateur-l-artiste-allemand-jonathan-meese.php
روابط بعض أعمال الجموعات الفنية
مجموعة “فني رغما عني”
شرائط فيديو
- عرض فنّي رغمًـــــــاعنّـــــي بشارع الحبيب بورڨيـــبة بالعاصمـة 24 أوت 2011 مانيفستو الثقافة. الرابط:https://www.facebook.com/photo.php?v=281121041955739&set=vb.322267247810859&te=2&theater
- مهرجان المسرح و الفنون المرئية بسوسة من 07 إلى 12 مارس 2012. عرض في اليوتوب بتاريخ 10/03/ 2012 الرابط . http://www.youtube.com/watch?v=2pt5I0_x2ag
- عرض أمام سنترال بارك بالعاصمة التونسية يوم 25/02/2012.و نشر على اليوتوب بتاريخ 29/02/2012
http://www.youtube.com/watch?v=mGBgfiJ-Krw&feature=relmfu
صور
https://www.facebook.com/Fanni.Tn/photos
مجموعة “أهل الكهف”
شرائط فيديو
- Ahl el Kahf Graffiti- Tunisia, Rida Tlili (Produc) 15/05/2011, http://vimeo.com/38270314
- فيلم وثائقى “أصوات الجدران”, نشر على اليوتوب بتاريخ 11/03/2012
- http://www.youtube.com/watch?v=ZVjajLNt_FE
تعليق



أحمد حنيطي

2014-09-02

مقالة عن فنون الشارع

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow