Alef Logo
ضفـاف
              

هل الدين عنصريّ وهل يكون الآخرون كفّاراً إذا انفتح المسلمون على شمولية الإيمان؟ رؤوف قبيسي

ألف

2014-05-14

هذه قراءة في معنى الإيمان والتديّن لدى المسلمين والمسيحيين، على هامش ما يجري في بلداننا العربية من مآس وفواجع ووحشيات تُرتَكَب باسم الدين. قراءة تدعو إلى أنسنة الدين والإيمان، بعيداً من لغة التكفير والإلغاء والقتل، التي صارت هي اللغة المعتمدة في كل جوانب حياتنا العربية، الروحية والدنيوية على السواء. أليس عاراً وعملاً غير إنساني، مثلاً، أن يرفض بعض اللبنانيين، الدولة المدنية، ويقبلوا بدولة طائفية؟! الدولة الطائفية دولة ضد الإنسان، وهي وفق مفهوم التسامح الديني والإجتماعي دولة عنصرية وكافرة. ففي حين أن العنصرية، بمعناها التقليدي، تقوم على التفريق بين البشر بحسب اللون أو العرق، تقوم في الحالة الدينية، على التفريق بينهم بحسب انتمائهم الطائفي. وكما أن الطائفية شكل من أشكال العنصرية، فإن الدين نفسه، يمكن أن يكون أيضاً، شكلاً من أشكال العنصرية. ساعة يعتقد المتدين أن "الله" إلى جانبه وحده، وأن دينه وحده دين الحق، يخلق بينه وبين الآخر مسافة، ويصبح عنصرياً. لكن المؤمن يقبل الناس أجمعين، لأنه تخلّى عن العرض وتمسك بالجوهر، وآمن بأن شمس "الله" تشرق على الأخيار والأشرار.

ثمة فرق بين إنسان مؤمن وآخر متدين. لذا يتعيّن على المسلمين، أن يقرأوا القرآن قراءة إيمانية، لا قراءة دينية. قرءاة كتاب يتعايش مع الإنسان، على مستوى العالم كله. يقرأونه بأفئدة مفعمة خيراً وسلاماً، ومنفتحة على الناس، لأنهم، إذا لم يفعلوا، فسيبقى النزاع قائماً بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين العالم!
حين يقرأ المسلمون القرآن قراءة مؤمنين، ويصلون إلى الآية من سورة الفاتحة "ولا الضالين" سيفهمون بحس فطري أن الضالين هنا لا تعني اليهود أو المسيحيين أو البوذيين، ولا حتى اللاأدريين والملحدين المسالمين، بل الأشرار والقتلة. ومتى قرأوا آية "إن الدين عند الله الإسلام"، والآية التي تقول "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، فعليهم أن يدركوا كنه هذه الآيات بالمعنى الواسع لكلمة إسلام، الإسلام الشامل الواسع، الداعي إلى التسليم بخالق للكون، وقبول مخلوقاته مهما اختلفت ألوانهم وجنسياتهم وعقائدهم.
في القرآن آيات تبدو للمتزمتين من المتدينين، أنها ضد غير المسلمين، لكن متى قرئت بقلب مؤمن، زال الإشكال. من ذلك، الآية القائلة: "لن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملّتهم...". هذه يجب أن تُقرأ على أنها تعني المسيحيين المتزمتين واليهود المتزمتين، لأن هؤلاء لن يرضوا قطعاً عن المسلم حتى يتبع ملّتهم، مثلما أن المسلم المتزمت لن يرضى عن المسيحي المتدين واليهودي المتدين حتى يتبعا ملّته. لكن متى خرج الجميع من التدين إلى الإيمان، من القشور إلى اللباب، حلت المشكلات "العويصة" ورضي كلٌّ بالآخر، وصار الجميع أقرب إلى نص القرآن وروحه. عندئذ، عندئذ فقط، يتضح معنى الآية من سورة الحجرات "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

من هو الكافر؟
تبقى مسألة من هو "الكافر" ومن هم "الكفار" التي يساء فهمها وتثير العداوة ، بين المسلمين والآخرين، وفي كثير من الأحيان بين المسلمين أنفسهم؟ نلمس ذلك حين نقرأ ما يبثّه الغلاة المتزمتون في الكتب وشبكات التعارف، الإنترنت، ضد اليهود والمسيحيين والبوذيين وضد الشيعة، فيتهمونهم بالكفر، وينعتونهم بعبارات حاقدة، وفي ظنهم أنهم يخدمون السماء ويحررون الدين من "الكفار" و"الروافض"!
الحل لهذه "المشكلة" بسيط جداً. كل ما يتطلبه الأمر قراءة جديدة توصل القارئ حتماً إلى الاقتناع بأن "الكافر"هو فقط "المشرك"، أي المجرم الذي لا يهاب "الله" ويفتك بعباده، ويقتل ويكذب، ويأكل أموال اليتامى والمساكين، وليس المسيحي المؤمن، أو اليهودي المؤمن الذي يخاف "الله" ويرفق بالناس. وقد عاش اليهود المؤمنون، والمسيحيون المؤمنون مع العرب المسلمين مئات السنين، حتى جاء يوم خربت فيه الدنيا بمجيء يهودي "متدين" إلى المنطقة، أفسد حياته وحياة الجميع! ألا يتجمل الإسلام ويظهر للعالم في صور بهية، إذا كان معنى الكافر في الإسلام هو هذا المعنى، بدلاً من أن يكون الكافر هو الآخر الذي ليس مسلماً؟!
القراءة الإيمانية تُظهر الإسلام رسالة للبشر أجمعين، وتجعله عن حق رسالة يدخل فيها الناس أفواجاً. تقول السورة المكية "قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم لكم دينكم ولي دين". حين يقرأ المسلم هذه الآيات بقلب طاهر، سيدرك بحسه الإيماني أن الكافرين هنا هم فقط أتباع طرق الشر، الذين يرتكبون الآثام ويسفحون دم البريء، وهؤلاء يمكن أن يكونوا منتسبين لأي طائفة من أي دين!
القراءة الإيمانية للقرآن لن تكون كافية، ليتصالح المسلمون مع أنفسهم ومع العالم، ما لم يتم التعرض للسيرة. المطلوب أن يقوم الورعون الجدد، بوضع نسخة جامعة مانعة للسيرة، تؤلف بين القلوب وتضع المسلمين على الصراط المستقيم التي يؤمن بها كل من تدبر القرآن بروية، وتزيل عن الإسلام ما أصابه من تشويه وتشهير، وتمحو ما لحق بصورة "نبيّه" من أوضار الجهلة والمتنطعين والمتحفظين والغلاة.
ألا تخبرنا السيرة، أن "نبي" الإسلام تزوج عائشة وهي بنت ست سنين، ودخل عليها وهي بنت تسع سنين؟
إن نبياً قال للأسرى "إذهبوا فأنتم الطلقاء" لأَجَلّ من أن يتزوج فتاة صغيرة بهذه السن، حتى ولو أقسم الرواة جميعهم بصحة هذه الرواية وهم فيها مختلفون على كلّ حال؛ علماً أن في القرآن آية أخرى تقول "وانكحوا ما طاب لكم من النساء..."، وهي خير دليل على عدم صدق القصة، لأن عائشة الصغيرة كانت بحكم الطبيعة طفلة ولم تكن من النساء، وما كان يصح أن يقال إنها السيدة عائشة أو أمّ المؤمنين، وهي بعد في السادسة من عمرها!
أليس في هذه القصة غضّ من قدر محمد ومكانة عائشة؟ ألا تسند أحاديث سيئة أتت على ذكر المرأة بشكل عام؛ أحاديث تارة تقول إن الملائكة تلعنها إذا لم تستجب طلب زوجها في الفراش، وطوراً تصورها عوراء، ومرةً إنها ناقصة عقل ودين، وتفرض عليها البقاء في البيت أربعة أشهر وعشرة أيام، حداداً على رجل قد يكون أذاقها الأمرّين في حياته؟
هل يرضى مسلم مؤمن بأن يقال مثل هذا الكلام في زوجته وابنته وأمه وشقيقته، وفي امرأة أحبها قلبه؟
هذه واحدة من عشرات القصص، التي سيبقى يتخذها بعض الناس لنقض الإسلام وخدش صورة "نبيّه"، إلى أن يأتي اليوم الذي يقوم فيه الأتقياء الجدد بقراءة جديدة للقرآن، وغربلة جديدة للسيرة، تبقي ما يتوافق منها مع الكتاب والعقل، وترفض ما يتعارض منها مع الكتاب والعقل.
إذا لم تُقرأ كتب الدين بقلوب مؤمنة فلن يستتب السلم في العالم، وستبقى الأديان مصدر خلافات وحروب، كما حدث في فترات زمنية من التاريخ، تنهك حياة هذا الإنسان الذي تقول المسيحية إن الله خلقه على مثاله، ويقول الإسلام إن الله خلقه في أحسن تقويم.

هل يفسد العرض الجوهر؟
من المسيحيين من يقول إن القرآن ليس كلام الله، والمسيح إبن الله ومريم أمّ الله. ومن المسلمين من يشكك في صحة الأناجيل. هذا جدل لن يفضي إلا إلى التفرقة، لأن المسيحي لن يتمكن من أن يثبت للمسلم أن قرآنه ليس من عند "الله"، كما أن المسلم لا يملك "النسخة الأصلية" من الإنجيل، ليثبت للمسيحي أن إنجيله محرّف! هذه المسألة وغيرها هي من أدبيات الدين، وليست من جواهر الإيمان. لا ضير إذا وجد بعض الناس في الأناجيل تحريفاً، ما دامت الرسالة تدعو إلى الخير. ولا ضير إذا اعتقد بعض الناس أن القرآن ليس منزلاً، ما دام يدعو إلى البر والرحمة، والرفق باليتيم وبالسائل وابن السبيل. حين يتحرر المرء من التقليد، لا تعود هذه المسائل أسباباً للخلاف. جوهر كل دين هو المحبة الخالصة، أو هكذا يجب أن يكون، وإذا لم يكن دعوة سمحة ومحبة خالصة، فما الفائدة منه إذاً؟!
ما أهمية أن يكون المسيح صُلِب أم لم يُصلَب بالنسبة إلى إنسان مؤمن؟
المسيحي المتدين يقول إن يسوع وُضع على الصليب، والمسلم المتدين يقول إن المسيح لم يُصلَب، وإن الذي صُلب شخص آخر. هذا موضوع للاهوتيين والمتدينين، والمؤرخين وأصحاب الطقوس، ولا يهمّ مؤمنا همه الإسترشاد بالعمل الصالح، والرفق بالناس، سواء اعتقد هؤلاء الناس بألوهية المسيح وصلبه، أم لم يعتقدوا!
في الولايات المتحدة وأوروبا كنائس لجماعات يسمون أنفسهم "الموحدين" (Unitarians)، عددهم في أميركا وحدها نحو المليون. هؤلاء يرفضون الثالوث، ولا يعتقدون بالمسيح المجسد، ويخضعون "الكتاب المقدس" للتساؤل. هناك ألوف من رجال الكنيسة في أوروبا من لا يأخذون بالتثليث، ولا يعتقدون بولادة المسيح من عذراء. منهم من يذهب إلى الأبعد، فيؤكد النظرية الداروينية في النشوء والإرتقاء، ومع ذلك يعتبرون أنفسهم مسيحيين. هناك منهم من لا يعترف بالإنجيل كحقيقة تاريخية ثابتة، ويشكك بيسوع التاريخ (Jesus of history)، ومع ذلك يقولون عن أنفسهم إنهم مسيحيون.
هل في ذلك نشوز أم غرابة أم هرطقة؟
الجواب هو نعم، لكن فقط في نظر من لا يتسع الدين عنده إلا لدماغ واحد، على حين أنه ليس كذلك في نظر مؤمن منفتح القلب والعقل والخيال. هذا الأخير سيعتبرهم مسيحيين أحراراً كما يصفون أنفسهم، لأنهم يؤمنون بيسوع الإيمان (Jesus of faith). هنا يتجلى الفرق بين متدين ومؤمن، بين القشور واللباب، بين الشكل والجوهر.
حين يقرأ المسلم القرآن بصدر منفتح عامر بالمحبة، لن يضل أبداً، وسيجد في القرآن من معاني الخير والرحمة ما لم تخطر له على بال، وعندما يصل إلى الآية القائلة "لقد كفر الذين قالو إن الله ثالث ثلاثة" التي يتمسك بها بعض المسلمين، لتكفير المسيحيين المتمسكين بالثالوث، سيفهمها على نحو مغاير، أولاً لأن القرآن "حمّال أوجه" بحسب القول المنسوب إلى الإمام علي، أي أنه قابل لتفسيرات كثيرة. وثانياً لأن مسألة الثالوث لم تحسم بعد، حتى بين المسيحيين أنفسهم، وإن كانت غالبيتهم تؤمن به، تماماً كمسألة مريم البتول، القديسة عند الكاثوليك، والمرأة العادية عند البروتستانت. مهما يكن، فهذه مسألة تدخل في باب الفقه واللاهوت، ولا تؤثر في وجدان مؤمن خالص الإيمان، لا يرى في الأناجيل، أو لا يريد أن يرى في الأناجيل، إلا وجه "الله" والخير لعباده.
إذا فُتح باب الحوار بقلب منفتح وصدر سمح، يمكن القول عندئذ إن لا تعارض في الآية المذكورة بين مسلم مؤمن ومسيحي مؤمن، حتى من وجهة النظر الدينية. فالمسيح في القرآن فيه من روح "الله" بحسب الآية القائلة "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين". أما "ابن الله" في الثالوث، فهي هنا بالمعنى الروحي وليس البيولوجي، والدليل أن البشر في الأناجيل كلهم "أبناء الله"، استناداً إلى الصلاة الوحيدة التي علّمها لتلاميذه: "فإذا صلّيتم فصلّوا هكذا: أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض".
مهما يكن، فالأناجيل لا تذكر أن المسيح قال إنه "الله"، بل ذكرت أنه قال في إحدى وصاياه "الرب إلهنا ربّ واحد"، وذكرت أيضاً أنه قال: "إن كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي". وقد تكون الآية المذكورة من القرآن عنت مجموعة من "نصارى" الجزيرة العربية، الذين ربما آمنوا بأن المسيح إبن "الله" من الناحية البيولوجية، وانه شريك له في الخلق، لذلك عارضهم القرآن. ولا عجب إن كانت قد وجدت جماعات آمنت بهذا النوع من البنوة "البيولوجية"، في زمن كان معظم الناس فيه من الأميين.
لا خلاف إذاً في اللباب، إلا إذا أرتأى المتدينون والمتعصبون لهذه العقيدة وتلك، ولهذا المذهب وذاك، ومعهم بعض الصيارفة وأصحاب الطرق والأوقاف، أن يوجدوا خلافاً من لا شيء، ليجعلوا من حياتنا الحاضرة دينونة دائمة، حيث صرير الأسنان وبئس المصير!
حين يقرأ المسلمون القرآن على هذا النحو، وعلى ضوء هذا المصباح، يصبح إسلامهم عقيدة عالمية إنسانية توحّد البشر ولا تفرقهم. أما الذين يصرّون على قراءته بعقل ضيّق، ويتمسكون بالعرض دون الجوهر فيخالفون ما جاء فيه، ويكونون بعيدين جداً عن روح الآية القائلة: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق أو المغرب ولكن البر من آمن بالله وعمل صالحا".
يقول الشاعر المهجري الملهم الياس فرحات: "ما دمت محترما حقي فأنت أخي/ آمنت بالله أم آمنت بالحجر".
هناك الكثيرون يتعبدون ليلاً ونهاراً، مع ذلك يرتكبون من الآثام ما تقشعر له الأبدان، في حين أن هناك علمانيين ولاأدريين وملحدين لكنهم متسامحون. وهؤلاء، حتى بأحكام القرآن والأناجيل، أقرب إلى "الله" من متدينين يأخذون بالقشور، وأبعد ما بين الأرض إلى السماء عن متدينين متزمتين يمتشقون "الكتب المقدسة" ويذبحون الناس على الهوية، ويقتلونهم بدم بارد.
ليس أمراً مهماً محلّ ولادة يسوع، ومَن هي أمه ومَن هو أبوه، وهل صُلب أم لم يُصلَب، وما إذا ولد في بيت نجار أو حداد أو خياط. المهم ما في الأناجيل من جواهر الإيمان التي تنقلنا إلى مسافات بعيدة في عالم النجوى، وتجعلنا نشعر بخشوع حين نقرأ موعظة المسيح على الجبل، أو حين نقرأه يقول: "كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل"، أو حين نقرأ في القرآن وصف "الله" بكلام عذب مثل "أرحم الراحمين"، أو حين نسمع مناجاة داود النبي: "إرحمني يا الله بحسب رحمتك، وبحسب رأفتك امح معاصي". أو حين نقرأ كتب الحكمة الصينية والهندية، أو كتاباً صغيراً جذاباً مثل كتاب "النبي" لجبران.
ساعة نقرأ هذه الكتب وغيرها على نور مصباح جديد يركز على الجوهر دون العرض، نصل إلى ما سمّاه ميخائيل نعيمة "الوعي المقدس". لن يكون أمراً مهماً بعدئذ أين ولد محمد، وأين ولد يسوع، وإذا كانت ولادته من عذراء أم من ثيب، ولماذا تزوج محمد نساء عدة، ولم يتزوج المسيح. هب أن محمداً لم يتزوج، وأن المسيح تزوج وخاطب أمه يا أمي، بدلاً من يا امرأة، هل كانت جواهر المعاني اختلفت في القرآن والأناجيل؟!
الشكليات تهمّ المؤرخين، أو المتدينين الضعيفي الإيمان، لكنها لا تهمّ مؤمناً طهّر قلبه من أدران الأرض وأترعه بأشواق السماء.
ليس أمراً مهماً على سبيل المثال، أن نعرف أين ولد جبران (هناك ملايين يقرأونه ولا يعرفون أنه من لبنان) ومَن كانت أمه ومَن كان أبوه، وأين ولد موزارت، وكيف نشأ، ما دامت ألحانه تأخذنا إلى مسافات بعيدة في عالم السحر والتأمل. كذلك ليس أمراً مهما أن نعرف إسم فيروز الحقيقي، وموقع ولادتها من الأبراج، وكيف كانت علاقتها بزوجها وبنيها، ما دامت تذكّرنا بذاتنا، وتنقلنا إلى عوالم أثيرية بصوتها النابع من القلب.

لن أتراجع...
أعرف أن هذه النظرات لن تروق كثيرين ممن شبّوا على طرائق قديمة في التفكير، لكنني لن أتراجع عن القول إن "إله" القرآن والأناجيل واحد، وجواهر القرآن والأناجيل واحدة لمن يعرف كيف يقرأها ويتدبرها بصفاء. أما شكلياتها والطقوس، وهي ما يجب ألاّ يتمسك بها المؤمن العاقل، فمختلفة.
لماذا ندع اللباب جانباً، ونجعل القشور تأخذنا إلى حيث الهدم والدم والدمار؟
القشور للمتدين واللباب للمؤمن. المتدينون يختلفون ويتعصبون ويتحاربون، أما المؤمنون فلن يختلفوا، ولن يتعصبوا، ولن يتحاربوا أبداً!
الإسلام والمسيحية ديانتان موجودتان منذ مئات السنين، ولن تزولا ما دام هناك مسلمون ومسيحيون. ستبقى الفروق الشكلية قائمة ما قامت الأديان، وفي ذلك امتحان لعقول الناس وقلوبهم. المطلوب أن يكون الدين فعل إيمان مطلق، لا عقيدة جامدة أو مذهبية هدامة، وإذا لم يسرع أصحاب العقول والضمائر في تحرير الدين من العصبية، فستدفع البلدان العربية أثماناً باهظة من ثرواتها وأرواح بنيها ومستقبل أجيالها!
لن يكتفي المتدين بأن يكره ويتعصب ويقتل مَن لا يدين بدينه، بل سيفتش عن سبب ليقتل أبناء دينه المنتمين إلى مذاهب غير مذهبه. ما يحدث في العراق بين السنّة والشيعة مثال. ما يحدث في سوريا مثال. وما يحدث سنوياً في فلسطين بين الكاثوليك والأرثوذكس، وبين الأرثوذكس أنفسهم من يونان وأرمن مثال آخر: هناك في القدس "مدينة السلام"، يتحول الشجار بين المتدينين إلى عراك بالأيدي والعصي، وتسيل الدماء من وجوه الكهنة أنفسهم... وأين؟ في كنيسة "القيامة" وأمام "قبر" المسيح!
ألم يقرأ المتدينون ما جاء على لسان يوحنا "إن قال أحد إني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره"؟
المتدينون لن يصيروا مؤمنين ما دام الدين طقوساً وقشوراً، ولن يتحرر الإنسان ويتعزز الإيمان، إلا بتحرر الطبيعة البشرية من أغلال الجهل والخرافات وشراسة التقليد، والإنفتاح الخلاق على الصدام السلمي العظيم بين الأفكار، وفتح المجال أمام العقل الحر، بتجلياته الهائلة في ميادين العلم والثقافة والفنون. وفي لبنان، "هذا البلد الذي هو في منتهى الأهمية" كما وصفه مترنيخ، تتضاعف الحاجة لقراءة جديدة للتراث، ولثقافة إنسانية قوامها التساهل والتصالح مع الذات ومع الآخر. ثقافة تلغي الدولة الطائفية وتمهد لقيام دولة مدنية، لا مكان فيها لعصبيات دينية من أيّ نوع. دولة تصون المواطن وتحفظ حقوقه كإنسان حر، وتكون رسالة عظيمة في التعايش، يقدّمها هذا الوطن الصغير نموذجاً للعالم، ضد الطامعين فيه، وضد الصهاينة المتزمتين، ودولتهم الدينية القائمة على التزوير والغش، والعنصرية البغيضة والقهر والخرافات.


عن جريدة النهار.






تعليق



dolly

2014-05-16

يسلم فم الكاتب نحن بحاجة ماسة لمن ينشر مثل هذه الأفكار فعلا ليس فقط في هذه الصفحة لأن قلة هم الذين يقرؤون ,حبذا لو يتعمم هذا الحديث في كل تلفزيونات البلاد العربية,وهناك فرق شاسع بين الإيمان والتعصب إذ أن لاعلاقة لهذا الأخير بالدين نهائيا,أرجو من كاتب المقال أن يتحفنا بهكذا مقالات.أحب أن أضيف أنه منذ نشئة الديانات السماوية الثلاث دخل رجال الدين على الخط ليخطفوا جوهر الدين ويتحكموا بإيمان رعاياهم مع مؤازرة الحكام ليحكموا القبضة على حياتهم الأرضية وعلى آخرتهم,لذا أتمنى أن يتنحى كل رجال الدين جانبا فترتاح الأمم ويعود الإيمان بسيط ومريح

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow