Alef Logo
دراسات
              

الشاعر أمل دنقل أيقونة الرفض والمفارقة / محمد علي عزب

ألف

2014-08-09

(1) السيرة الذاتية للشاعر أمل دنقل
ولد الشاعر المصري العربي الكبير محمد أمل دنقل فهيم محارب في 23يونيه سنة 1940م بقرية القلعة ـ مركز قفط ـ محافظة قنا، وقد حصل والده على شهادة العالمية من الأزهر الشريف في السنة التي وُلِد فيها أمل فسمّاه بهذا الاسم تيَمُّنَّا به، وكان الوالد هو الوحيد فى قرية القلعة الذى حصل على تلك الشهادة فى ذلك الوقت، وقد مات سنة 1950م وقد كان أمل أكبر الأبناء هو المسؤول عن الأسرة في ذلك السن، وبعد أن أنهى أمل دنقل دراسته الثانوية اضطر للعمل في شركة أتوبيس الصعيد بقنا وفى ذلك الوقت راسل بعض المجلات والصحف لنشر قصائده وبالفعل نشرت له مجلة صوت الشرق قصيدتى "راحلة" و "سأحمى انتصارات الشعب" فى شهرى يونية وستمبر سنة 1958م، وانتقل أمل دنقل للقاهرة مع عبد الرحمن الأبنودى ويحيّ الطاهر عبد الله وعبد الرحيم منصور سنة 1959م، ولكن أمل لم يحتمل قسوة الحياة فيها فعاد اٍلى قنا واستقر بها عام ونصف، ثم سافر أمل اٍلى القاهرة سنة 1962م مرة أخرى ومنها انتقل اٍلى الإسكندرية وبدأ دراسة الأدب العربي فى جامعة الإسكندرية لكنه لم يواصل وانتقل اٍلى السويس ليعمل فى مكتب مقاولات هناك، ثم ترك السويس وانتقل اٍلى القاهرة ليعيش بها وفى شهر ستمبر 1979م بعد تسعة أشهر من زواجه هاجم مرض السرطان جسد أمل دنقل للمرة الأولى وأجرى الدكتور اٍسماعيل السباعي عملية جراحية في مستشفى العجوزة لاٍستئصال الورم وأخبر أمل أنه اٍذا مرت خمس سنوات قبل أن يظهر الورم مرة أخرى فاٍن شفائه من المرض سيكون مضمونا، ولكن المرض لم ينتظر وظهر ورما آخر وكانت الجراحة الثانية فى مارس 1980م، وحاول أمل أن يتجاهل هذا المرض ويتناساه عن عمد حتى هاجمه السرطان بشراسة فى فبراير 1982م وكان لا بد من دخول أمل المعهد القومي للأورام وأقام أمل دنقل فى الغرفة "8" حتى وفاته فى 21 مايو سنة 1983م.

أعمال أمل دنقل :ـ

ـ البكاء بين يدى زرقاء اليمامة ـ 1969م

ـ تعليق على ما حدث ـ 1971م

ـ مقتل القمر ـ 1974م

ـ العهد الآتى 1975

ـ أقوال جديدة عن حرب الباسوس ـ 1979م

ـ أوراق الغرفة رقم "8" ـ 1983م صدر بعد وفاة الشاعر أمل دنقل

(2) منطلقات شعرية الرفض عند أمل دنقل
كانت كلمة " لا " بشكلها الخطى فى الفضاء البصرى (الحيز الذى تشغله الكتابة ذاتها باعتبارها حروفا مطبوعة على مساحة الورق) تمثل ذراعي الثائر الرافض المرفوعين لأعلى، وجناحىّ الطائر المحلّق فى أيقونة الرفض والمفارقة أيقونة الشاعر أمل دنقل وشعره الذى تناول فيه قضايا الواقع بمنظوره الفنى الخاص، ولم ينطلق أمل دنقل فى رفضه من خطاب سياسى أيدلوجى لحزب أو حركة تتبنى نظرية سياسية معينة يكون الشعر مجرّد أداة اٍعلامية وبوق دعائى خادم لها، بل كان الرفض عند أمل دنقل ينطلق من رؤيا شعرية خاصة بشاعر عاش واقعه المعاصر وأبرز فى خطابه الشعرى الاٍنسانى نواقص وتناقضات هذا الواقع.

وكان أمل دنقل معارضا لنظام عبد الناصر ويرى أن عيوب هذا النظام كانت السبب فى نكسة يونية 1967م، وقد عبّر أمل دنقل عن ذلك شعريا فى ديوانه الأوّل "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة"، ومن أمثلة ذلك تعبير أمل دنقل شعريا فى قصيدة "كلمات سبارتكوس الأخيرة "عن رفضه لنتيجة الاٍستفتاء الذى أجراه عبد الناصر فى سنة 1962م وحصل فيه على نسبة 99%، حيث اتخذ من شخصية "سبارتكوس" محرّر العبيد قناعا شعريا يبث من خلاله رؤياه الشعرية الرافضة، وقد استعار أمل دنقل هذه الشخصية من التراث الرومانى على غير عاداته الذى عُرف وتَميّز بها وهى توظيفه للتراث العربى الاٍسلامى فى شعره، ووفقا للسياق الشعرى الذى ورد فيه توظيف هذه الشخصية فاٍن أمل كان موفقا فى استحضارها وصبغها بصبغة مصرية عربية حيث أن شخصية "سبارتكوس" كانت تتبنّى وتجسّد حلما اٍنسانيا أمميا من الدرجة الأولى يرفض الرقّ والعبودية ويثور على القياصرة، كما أن أمل دنقل اختار لأحداث القصيدة أن تدور فى شارع الاٍسكندر الأكبر فى مدينة الإسكندرية التى تجسّدت فيها ذورة التفاعل بين التراث المصرى والعربى والتراث الاٍغريقى والرومانى، وبذلك عمل أمل دنقل على التقريب بين شخصية "سبارتكوس" وبين تراثنا الوطنى والقومى الذى يمثل الذاكرة الثقافية للقارئ العربى الذى كان أمل دنقل حريصا على التواصل معه :

يا اٍخوتى الذين يعبرون فى الميدان مطرقينْ

منحدرينَ فى نهاية المساءْ

فى شارع الاٍسكندر الأكبرْ

لا تخجلوا.. ولترفعوا عيونكم اٍلىّ

لأنكم معلّقون جانبى.. على مشانق القيصرْ

فلترفعوا عيونكم اٍلىّ

لربما.. اٍذا التقت عيونكم بالموت فى عينىّ :

يبتسم الفناء داخلى.. لأنكم رفعتم رأسكم.. مرّهْ !

وبعد نكسة يونية 1967م مباشرة كتب أمل دنقل قصيدة "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة" القصيدة التى سُمَّىّ ديوانه الأوّل باسْمها وقد استحضر أمل دنقل فى هذه القصيدة شخصية "زرقاء اليمامة" وهى امرأة من أهل اليمامة فى "نَجْد" يقال أنها كانت ترى القادم من على بعد مسيرة ثلاثة أيّام، وفى أحد الحروب اقتلع الأعداء الأشجار وتخفّوا ورائها وهم قادمين لغزو قبيلتها، وعندما رأت "زرقاء" ذلك من على بعد أخبرت أهل القبيلة بأن الأشجار تتحرك فلم يصدقوها حتى أتى الأعداء وغزوا القبيلة واقتلعوا عينىّ "زرقاء اليمامة"، وقد اتخذ الشاعر أمل دنقل فى خطابه مع "زرقاء اليمامة" من شخصية "عنترة بن شدّاد" قناعا شعريا يعبر به فى أحد مقاطع القصيدة عن رؤياه المعاصرة للنكسة وأسبابها، فعنترة الذى أمره حكام القبيلة بأن لا يتكلّم ظلّ بين العبيد فى قبيلته دعوه كبار القبيلة لمواجهة الأعداء فى وقت الحرب عند تراجع الرماة والفرسان :

أيتها النبية المقدّسهْ

لا تسكتى.. فقد سكتُّ سنةَ.. فسنهْ

قيل لى "اخرس "

فخرست وعميتُ.. وائتممت بالخصيانْ

ظللت فى عبيد "عبس" أحرس القطعانْ

أجتر صوفها

أردُّ نوقها..

أنام فى حظائر النسيانْ

طعامىَ : الكسرة.. والماء.. وبعض الثمرات اليابسةْ

وها أنا فى ساعة الطعانْ

ساعة أن تخاذل الكماة.. والرماة.. والفرسانْ..

دُعيت للميدانْ

وقد كان موقف أمل دنقل من نظام عبد الناصر موقف الشاعر الذى يقارن بين ما يحلم به وبين ما هو متحقَّق بالفعل فى الواقع، وكان يرى أن نظام عبد الناصر على الأقل يحقّق شيئا مما يحلم به وهو شعار الحلم الوطنى، وبعد وفاة عبدالناصر كتب أمل دنقل قصيدة " لا وقت للبكاء " يرثى فيها عبد الناصر، وعارض أمل دنقل نظام السادات الذى أسقط شعار الحلم الوطنى باٍجراءته السياسية والاٍقتصادية التى كان أبرزها اٍلى جانب الديموقراطية المزيّفة الاٍنفتاح الاٍقتصادى غير المنضبط والسعى للسلام المنقوص مع العدو الصهيونى واٍبرام اتفاقية كامب ديفيد التى حذّر منها أمل دنقل فى قصيدة " لا تصالح ".

***

ويقول أدونيس عن الذى تبقّى من الشعر العربى الحديث التى تناول الأحداث السياسية والوطنية الكبرى فى الوطن العربى (بقى الشعر الذى اخترق الحدث محوّلا اٍياه اٍلى رمز، اٍذ أن الحدث أيّا كان لا يمكن اٍبداعيا أن يكون غاية تخدمها آداة الشعر، الحدث ـ على العكس ـ هو وسيلة للشعر، أى الاٍبداع بوجه عام) وقد عاشت قصائد أمل دنقل السياسية لأنه عاش الحدث بقلبه ووجدانه وعقله كان أمل دنقل لا يقوم بمحاكاة الواقع فى شعره بل كان يقوم بتفكيكه واٍعادة بنائه ويصبغ الأحداث بوجهة نظره ووعيه الروحى الجمالى المعرفى.

وكانت عمليه تحويل الحدث السياسى اٍلى رمز عند أمل دنقل عملية شديدة الخصوصية على مستوى الرؤيا والتشكيل، حيث كان أمل دنقل يعيش الحدث المعاصر ويستدعى أحدثا وشخصيات تاريخية يوظّفها فى نصّه الشعرى، بحيث يصبح التاريخ رمزا للواقع فى حدث أو موقف معيّن كان هو المحرّض الجمالى لكتابة النصّ الشعرى، وينتقل الحدث من صورته الواقعية والتاريخية اٍلى صورته الشعرية، فيتحوّل الحدث اٍلى رمز شعرى يشير اٍلى الصورة الواقعية للحدث السياسى وما يشابهه من أحداث فى الماضى والحاضر والمستقبل، فمثلا فى قصيدة " لا تصالح " التى كتبها أمل دنقل سنة 1976م كان الدافع والمحرض الجمالى لكتابة القصيدة هو سعى السادات والكيان الصهيونى وأمريكا نحو السلام المنقوص الذى انتهى بابرام اتفاقية " كامب ديفيد " فيما بعد، وكان الحدث التاريخى الذى استدعاه أمل دنقل ليكون رمزا للحدث المعاصر هو مقتل " كليب " فى حرب " البسوس " ووصيته التى كتبها بدمه لأخيه " الزير سالم " بأن لا يصالح من قتلوه غدرا، وأصبحت قصيدة " لا تصالح " رمزا شعريا يشير اٍلى رفض الصلح مع العدو الصهيونى واٍلى رفض كل صلح منقوص لا يقوم على الندية واٍعطاء كل ذى حق حقّه :

لا تُصَالِحْ

فما الصلح اٍلاّ معاهدة بين ندّينِ

(فى شرف القلب) لا تُنْتَقَصْ

والذى اغتالنى محضُ لِصّ

سرق الأرض من يدى..

والصمت يطلق ضحكته الساخرهْ

الفصل الثانى: أبرز مرتكزات شعرية أمل دنقل
ارتكزت شعرية أمل دنقل شاعر الرفض العربى الكبير على اللغة الحادة الواصفة المشخِّصة، والاٍنشاد الشعرى، والسرد الشعرى الحكائى الذى يؤطر القصيدة، والاٍتكاء على التراث العربى الاٍسلامى، والمفارقة التصويرية، والنبرة الدرامية وتوظيف تقنيات السينما

(1) الاٍتكاء على التراث العربى الاٍسلامى
توظيف الشخصيات والرموز التراثية والاٍشارات الدالة على وقائع تاريخية من التراث العربى الاٍسلامى فى نصّ شعرى حداثى، يمتلك مبدعه وعيا بالذات والواقع والتراث ركيزة رئيسية من ركائز شعرية أمل دنقل، تجلّت بشكل واضح منذ صدور ديوانه الأوّل " البكاء بين يدى زرقاء اليمامة " وأكّد عليها فى دواوينه التالية وتميّز أمل دنقل عن شعراء جيله والجيل السابق له بأنه أكثرهم اتكاءا على التراث العربى الاٍسلامى، ولم يكن هذا الاٍتكاء نابعا عن عدم دراية جيدة بالتراث الاٍغريقى والرومانى الذى وظفه شعراء التفعيلة العرب المعاصرون لأمل فى قصائدهم بشكلِِ قد يزيد أحيانا عن توظيفهم للتراث العربى الاٍسلامى، فقد قام أمل فى بعض قصائده بتوظيف رموز ووقائع من التراث المصرى القديم ـ المسمى بالفرعونى ـ والتراث الاٍغريقى والرومانى مثل قصيدة " كلمات سبارتكوس الأخيرة "، ولكن اختياره للتراث العربى الاٍسلامى كما يبدو فى قصائده كان نابعا من اٍدراكه لعلاقة الشاعر الوطيدة بتراث أمتّه وأن التاريخ هو نقطة البداية التى انطلق منها الزمن فى سيرورته نحو الحاضر وأثناء هذه السيرورة يحمل الزمن معه ظلالا تاريخية يلّون بها الحاضر، تتمثل هذه الظلال أحيانا فى علاقة التشابه بين الماضى والحاضر فى شيئا ما، وأحيانا أخرى تتمثل هذه الظلال فى علاقة التباين فيصبح استحضار وتوظيف الرمز أو الاٍشارة التاريخية محورا مركزيا فى تجسيد وكشف فداحة الواقع، وفى استحضار أمل دنقل للشخصيات التاريخية فى قصائده فاٍنه اٍمّا يوظفها عبر تقنية الرمز واٍمَّا أن يوظفّها عبر تقنية القناع الشعرى.

ـ توظيف الرمز التراثى
يختلف الرمز الشعرى والأدبى عن الرمز الفكرى فى أنه يعبر عن حالة وجدانية وشحنة انفعالية تمتزج فيها الفكرة بالعاطفة ويتلوّن هذا الرمز بذاتية الشاعر، ويكتسب دلالات جديدة وفقا للسياقات التى ورد فيها، ويرتبط الرمز بالسياق الثقافى الذى يمثل الخلفية الثقافية للنصّ والتى يشترك فيها الشاعر والقارئ حيث ( يقول اٍليوت أن الرمز يقع بين الشاعر والقارئ مع الاٍختلاف فى طبيعة صلتة بكل منهما فهو من حيث صلته بالشاعر وسيلة تعبير ومن حيث صلته بالمتلقّى منبع للاٍيحاء )1، وقد كان الرمز التراثى حاضرا بقوة فى أشعار أمل دنقل فقد كان التراث العربى والاٍسلامى بالنسبة لأمل دنقل مستودعا ينتقى منه رموزه التى تجسد رؤياه الشعرية للواقع وتبرز فداحته، ولم يكن الرمز التراثى عند أمل دنقل مقولة محدّودة يكتفى فيها بالاٍشارة اٍلى الشخصية التراثية ووضعها بين قوسين فى جملة داخل النصّ الشعرى، بل كان الرمز التراثى يمتد بامتداد النصّ الشعرى ويمثل محورا جوهريا فى بنائه وصياغتة وتحوّلاته الشعرية، فمثلا فى قصيدة " خطاب غير تايخى على قبر صلاح الدين الدين "، يستحضر الشاعر أمل دنقل شخصية " صلاح الدين الأيوبى" الذى حرر القدس، وهزم جيوش الصليبين التى تزعمها ملك انجلترا " ريتشارد قلب الأسد"، فيبدأ أمل دنقل القصيدة بمخاطبة " صلاح الدين الأيوبى " قائلا :

أنت تسترخى أخيرا..

فوداعا..

يا صلاح الدين

يا أيها الطبل البدائى الذى تراقَصَ الموتى

على اٍيقاعه المجنونِ

الخطاب غير التاريخى لأمل دنقل على قبر "صلاح الدين" ليس رثاءا لماضى النضال العربى العريق الذى يجسده "صلاح الدين" بقدر ماهو فضح للواقع الأليم الذى حوّل فيه العرب تاريخهم اٍلى طبل بدائى/ ظاهرة صوتية يتراقص على اٍيقاعها الموتى، وفى سخرية حادة من الواقع العربى وكيفية عبث العرب بتاريخ أبطالهم يقول أمل دنقل لصلاح الدين :ـ

يا قارب الفلينِ

للعربِ الغرقى الذين شَتَّتَهُمْ سفن القراصنهْ

وأدْرَكَتْهُمْ لعنة الفراعنهْ

وسنةَ بعد سنهْ صارت لهم "حِطّينْ "

تميمةُ الطفلِ واٍكسيرُ الغدِ العِنِّينْ

فى سخرية مريرة يجلد أمل دنقل الذات العربية التى حوّلت موقعة "حطينْ" التى ترمز لتاريخ النضال اٍلى تمائم للأطفال واٍكسير الحياة لحلم العرب بالمستفبل هذا الحلم الذى وُلد مصابا فى ذكورته بداءِ العنّة "عدم انتصاب العضو الذكرى" وبالتالى لن يتزوّج ولن ينجب، ثم ينتقل أمل دنقل فى سرده الشعرى أثناء مخاطبته لصلاح الدين وحديثه عن العرب من ضمير الغائب "هم" اٍلى ضمير المتكلم "نحن" حيث يقول :

مرت خيول التركْ

مرت خيول الشركْ

مرّت خيول ـ النسر.

مرت خيول التتر الباقين

ونحن ـ جيلا بعد جيل ـ فى ميادين المراهنهْ

وأنت فى المذياعِ فى جرائدِ التهوينْ

تستوقف الفارّينْ

تخطب فيهم صائحا : " حطّينْ "..

وترتدى العقال تارةََ

وترتدى ملابس الفدائينْ

وهكذا تموت الشعوب العربية فى ميادين المراهنة الخاسرة تحت أقدام أحصنة الغزاة من كل جنس ولون، بينما صوت المذياع والجرائد الرسمية التى تمثّل صوت النظام الحاكم تقوم بتهوين خسائرنا الفادحة تستحضر أمامنا صورة " صلاح الدين" وصوته فى ميدان الحرب يخطب فى الجنود ويذكّرهم بموقعة " حطّين "، ولكن فى المعركة يسقط الزعيم صلاح الدين / الرمز الذى استحضره المذياع والجرائد فى أرض المعركة يموت جواده وتغتاله أيدى كهنة الأنظمة الحاكمة حيث يقول أمل دنقل :

وتشرب الشاىَ مع الجنودِ

فى المعسكراتِ الخشنهْ

وترفعُ الرايةَ

حتى تستردّ المدن المرتهنهْ

وتطلق النار على جوادك المسكينْ

حتى سقَطتُ أيها الزعيمُ

واغتالتك أيدى الكهنهْ !

وفى نهاية القصيدة يؤكد أمل دنقل على تواكل العرب والغيبوبة التى تنتابهم والتزامهم بالقشور دون الاٍقتراب من جوهر الدين حيث قال لصلاح الدين :

نَمْ.. تتدلى فوق قبرك الورودُ..

كالمظلّيينْ

ونحن ساهرون فى نافذةِ الحنينْ

نقشر التفّاح بالسكينْ

ونسأل الله القروض الحسنهْ

فاتحةََ :

أمينْ.

تقنية القناع التراثي في شعر أمل دنقل
عندما يستحضر الشاعر شخصية تاريخية ويجعلها رمزا تراثيا فى سياق شعرى معاصر فاٍن هذه الشخصية تكون مستقلة عن ذات الشاعر كما فى قصيدة " خطاب غير تاريخى على قبر صلاح الدين "، أما فى تقنية القناع الشعرى فاٍن الشاعر يتقمّص الشخصية التاريخية لا يتكلم بلسانها ولكنه يعطيها وعيه ورؤيته المعاصرة للواقع، حيث تمتزج ذات الشاعر بهذه الشخصية التاريخية فى موقف أو حالة أو ملمح ما، ونتيجة لهذا الاٍمتزاج تظهر ذات شعرية جديدة تتحدث فى القصيدة بضمير المتكلم، كما فى قصيدة " من مذكرات المتنبّى فى مصر "، فالقناع الشعرى الذى استخدمه أمل دنقل هنا هو شخصية " المتنبّى" الشاعر العربى الكبير الذى زار مصر فى فترة حكم كافور الاٍخشيدى " 292 ـ 357 هجرية / 905 ـ 968م "، العبد الأسود الذى اشتراه " محمد بن طغج الاٍخشيدى " وقرّبه منه عندما لمح فيه الذكاء والفروسية فأصبح بعد وفاة سيّده حاكما على مصر وحافظ على بقاء الدولة الاٍخشيدية فى مصر حتى وفاته، وقد واستقر " المتنبى" فى قصر " كافور" ومدحه فى شعره ثم انقلب عليه بعد ذلك وهجاه هجاءا جارحا حادا، ودون الدخول فى تفاصيل أسباب انقلاب " المتنبى " على " كافور " وهل كان السبب فى المدح والهجاء يتعلّق بالمال ورغبة " المتنبى" فى الحصول على عطايا كافور؟!، أم أن كافور كان يستحقّ هذا الهجاء ؟! بالرغم من أن الكثير من المصادر التاريخية المعتبرة مثل " النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة " لابن تغرى بردى، و" كتاب العبر " لابن خلدون، و" وفيات الأعيان " لابن خلكان قد أشادت بعدالة وحسن سياسة وفروسية " كافور "،فاٍن هذه التفاصيل ليست خادمة للقصيدة فالمتنبّى هنا قناع شعرى تراثى و" كافور" رمز شعرى تراثى وفى استحضار الشاعر أمل دنقل لهما فى هذه القصيدة جرّد كل شخصية من بعض صفاتها وملامحها الدالة ووظفها فى نصّ شعرى معاصر لتعبر عن دلالات جديدة خاصة بسياق النصّ الشعرى المعاصر حيث قال أمل دنقل فى هذه القصيدة :

أكره لون الخمر فى القنّينة

لكننى أدمنتها استشفاءا

لأننى منذ أتيت هذه المدينة

وصرت فى القصور ببغاءا :

عرفت فيها الداءا !

أمثلُ ساعة الضحى بين يدى كافورْ

ليطمئن قلبه فما يزال طيره المأسورْ

لا يترك السجن ولا يطيرْ

أبصر تلك الشفّة المثقوبة

ووجهة المسودّ والرجولة المسلوبة

أبكى على العروبة

صوت الذات هنا ليس صوت "المتنبى" أو صوت الشاعر أمل دنقل بل هو صوت القناع الشعرى مزيج من صوت "المتنبى" وصوت الشاعر أمل دنقل فى موقف ما، وقد اختار الشاعر أمل دنقل شخصية المتنبى لأنه كان قريبا من الولاة والحكام فى العصر العباسى، مدح بعضهم وهجا بعضهم فى شعره، و" كافور" هنا هو رمز للحكام العرب المعاصرين الذين يوجَّهون وسائل الاٍعلام و الشعراء والفنانين المقربين منهم للتعنّى بأمجاهم الزائفة :

يومئ يستنشدنى أنشده: عن سيفه الشجاعْ

وسيفه فى غمده يأكله الصدأْ

ثم ينتقل الشاعر بعد ذلك للحديث عن الفتاة البدوية "خَوْلة" التى أحبها المتنبى: خَوْلَة تلك البدوية الشَّموسْ

لقيتها بالقرب من "أريحا "

سويعة، ثم افترقنا دون أن نبوحا

لكنها كل مساء فى خواطرى تجوسْ

يفترُّ بالعتاب وبالشوق ثعرها العبوسْ

وعندما سأل المتنبى عنها القادمين مع القوافل التجارية اٍلى مصر أخبروه بأن تجّار الرقيق قد اختطفوا "خولة " :

فأخبرونى أنها ظلت بسيفها تقاتلْ

فى الليل تجار الرقيق عن خبائها

حين أغاروا ثم غادروا شقيقها ذبيحا

والأب عاجزا كسيحا

واختطفوها بينما الجيران يرنون من المنازلْ

يرتعدون جسدا وروحا

لا يجرؤن أن يغيثوا سيفها الطريحا

وعندما سأل كافور المتنبى عن سبب حزنه أخبره المتنبى بقصة اختطاف " خولة " :

(سآلنى كافور عن حزنى

فقلت أنها تعيش الأن فى بيزنظة

شريدة كالقطة

تصيح كافوراه.. كافوراه.. )

فصاح فى غلامه أن يشترى جارية روميهْ

تُجلد كى تصيح ( واروماه.. واروماه.. )

لكى يكون العين بالعينِ

والسنِّ

"خولة" حبيبة المتنبى التى اختطفها تجّار الرقيق الروم وذهبوا بها اٍلى بيزنطة لتكون جارية ترمز فى هذه القصيدة للأراضى العربية المحتلة وروح المقاومة والاٍستقلال التى سلبها تجار الرقيق "الكيان الصهيونى والولايات التحدة الأمريكية وحلفائها فى الغرب"، فقد ظلت "خولة" فى مدينة أريحا الفلسطينية تدافع بسيفها عن حريتها قبل أن يأسرها تجار الرقيق الذين قتلوا أخاها وتركوا أباها كسيحا، اختطفها تجّار الرقيق وجيرانها " العرب " شاهدوا الواقعة ولم يفعلوا شيئا، وعندما استحث المتنبى كافور وقال له أن "خولة " الأن أسيرة تطلب مساعدتك وتصرخ قائلة : " وكافوراه " مثلما صرخت المرأة العربية التى اختطفها الروم فصرخت ونادت "وا معتصماه" ولما وصل الخبر للخليفة المعتصم جهز جيشا لمحاربة الروم من أجل تحرير هذه المرأة، فكان رد فعل كافور مثيرا للسخرية السوداء فبدلا من أن يفعل ما فعله المعتصم طلب من خادمه أن يشترى جارية رومية يجلدها كل يوم لتصرخ وتقول " وارماه " لتكون العين بالعين والسن بالسن، موقف يجسّد ذورة الاٍضطراب الفكرى والنفسى والسلوكى للحكام العرب الذين يلوون عنق الحقيقة ويزيفونها ليخدعوا أنفسهم ويخدعوا شعبوهم.

(2) المفارقة التصويرية
المفارقة التصويرية تقنية فنية يوظفها الشاعر ليعبر التناقض الفادح بين طرفين متقابلين وقد استعان الشاعر أمل دنقل بهذه التقنية لينتقى ويلتقط ويجسّد بطريقته الخاصة تناقضات الواقع المصرى على المستوى السياسى والاٍقتصادى والاٍجتماعى، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائد أمل دنقل من المفارقات المبتكرة المدهشة التى تصدم القارئ، فالمفارقة عند أمل دنقل تمثّل وعيّا روحيا جماليا معرفيا خاصا بالواقع المتناقض فى المظهر والجوهر ـ الشكل والدلالة ـ الذى يسعى الشاعر اٍلى الاٍصطدام به والسخرية منه وفضحه وكشف مسالبه واٍبرازها، وهذا الاٍصطدام والكشف يتسق اتساقا كليا مع شعرية الرفض التى كان ومازال أمل دنقل فى مقدمة شعرائها فى الوطن العربى، وتتنوع أساليب وأشكال المفارقة التصويرية عند أمل دنقل ومنها أن يكون طرفى المفارقة ينتميان للواقع المعاصر الذى عاشه الشاعر مثل هذا النموذج من قصيدة " صفحات من كتاب الموت " :

توقفنى المرأةُ

فى استنادها المثيرْ

على عمود الضوء :

(كانت ملصقات " الفتح " و" الجبهةْ " :

تملأُ خلف ظهرها العمود !)

لم يتركُ الشرطىُّ..

واحدة من تبغها الليلى

تسألنى اٍن كنت أمضى ليلتى وحيدا

وعندما أرفع وجهى نحوها :

سعيدا

أبصر خلف ظهرها شهيدا

معلّقا على الحائط، ناصع الجبههْ

تغوصُ عيناه.. كنصلين رصاصيين

أصرخ من رهافة الحدين

.. أمضى بلا وجهه !!

الطرف الأوّل فى هذه المفارقة هو عمود الضوء الذى تملأه ملصقات حركات " الفتح " و" الجبهة " والطرف الثانى هو المرأة بنت الليل التى تستند على هذا العمود، ثم يبدأ أمل دنقل بعد هذه اللقطة الثابتة التى يعرض فيها طرفى المفارقة فى تحريك المشهد نحو التنامى الدرامى حيث تسأله المرأة عن لفافة تبغ لأن الشرطى لم يترك لها لفافة من تبغها الليلى وعندما تُلَمّح المرأة للشاعر بأنها تريد أن تقضى معها هذه الليلة وعندما يلتفت اٍليها سعيدا برغبتها يحدث الاٍنزياح والاٍنحرف عن السيرورة المتوقعة للحدث وتصل المفارقة اٍلى ذورتها ويرى الشاعر خلف ظهر المرأة شهيدا معلّقا على الحائط بجوار عمود الضوء فيصرخ الشاعر ويمضى فى طريقة بلا وجهة، وهكذا بدأ أمل دنقل مفارقته التصويرية بعرض طرفيها واٍحداث نوعا من التداخل بينهما بشكل تدريجى اٍلى أن يصل اٍلى ذورة المفارقة التى تصوّر التناقضات الشديدة الحدة والغرابة فى الواقع.

واٍمّا أن يقوم الشاعر أمل دنقل بتجزئة وتقسيم طرفى المفارقة اٍلى عدة عناصر متقابلة كل عنصر فى طرف يشكل مفارقة جزئية مع العنصر المقابل له فى الطرف الآخر كما فى قصيدة " الموت فى لوحات " :

مصفوفة حقائبى على رفوف الذاكرةْ

والسفر الطويلْ

يبدأ قبل أن تسير القاطرهْ

رسائلى للشمس

تعود دون أن تُمسّ

رسائلى للأرض

تُرد دون أن تفضّ

يميل ظِلّى فى الغروب دون أن أميلْ !

وها أنا فى مقعدى القائظْ

وريقة.. وريقة.. يسقط عمرى من نتيجة الحائطْ

والورق الساقطْ

يطفو على بحيرة الذكرى، فتلتوى دوائرا

وتختفى دائرة فدائرهْ.

الطرف الأوّل فى هذه المفارقة التصويرية هو الذات التى تظهر متشظية مشتتّة أقام الشاعر بينها وبين كل عنصر من عناصر العالم المحيط مفارقة جزئية صغيرة تُصور وتبرز التناقض بين الذات والعالم على النحو التالى " السفر قبل أن تسير القاطرة " و" رسائلى الشاعر للشمس تعود قبل أن تمس " و" رسائلى للأرض ترد قبل أن تفضّ " و" يميل ظِلّى فى الغروب دون أن أميلْ ! " وتتابع هذه المفارقات الجزئية الصغيرة وتشتبك ببعضها البعض لتشكّل مفارقة تصويرية كبيرة تبرز وتصوّر التناقض الكلى بين الذات والعالم المحيط بها، وبذلك يؤكد الشاعر على حِدَّة وفداحة التناقض بين ما يتمنّاه وماهو متحقِّق على المستوى الجزئى فى المفارقات الجزئية الصغيرة وعلى المستوى الكلى فى المفارقة التصويرية الكبيرة فى هذا المشهد الشعرى.

اِضافة للنوعين السابقين من المفارقات التصويرية هناك نوع ثالث تتكون فيه المفارقة من طرف تراثى وطرف آخر معاصر، وقد صاغ أمل دنقل هذا النوع من المفارقات التصويرية بطريقته الخاصة شديدة الطزاجة والثراء، حيث أن الطرف التراثى الذى استخدمه فى صياغة المفارقة كثيرا ما يكون عبارة عن واقعة تاريخية استحضرها الشاعر أمل دنقل ووظَّفها فى سياق معاصر جنبا اٍلى جنب مع واقعة أو حدث معاصر عاشه الشاعر كما فى هذا النموذج من قصيدة " مقابلة خاصة مع ابن نوح " :

جاء طوفان نوحْ

ها هم الحكماء يفرون نحو السفينهْ

المغنّون ـ سائس خيل الأمير ـ المرابون ـ قاضى القضاةِ

(ومملوكهِ) ـ

حامل السيف ـ راقصة المعبدِ

(ابتهجَت عندما انتَشَلَت شعرها المستعارْ )

ـ جباة الضرائب ـ مستوردو شَحنات السلاحِ ـ

عشيق الأميرة فى سمته الأنثوى الصبوحْ

جاء طوفان نوح

هاهم الجبناءُ يفرون نحو السفينهْ

بينما كنتُ..

كان شباب المدينهْ

يلجمون جواد المياه الجموحْ

ينقلون المياه على الكتفينِ

ويستبقون الزمنْ

يتبنون سدود الحجارهْ

علّهم ينقذون مهاد الصبا والحضارهْ

علّهم ينقذون الوطنْ

الواقعة التاريخية التى تمثّل الطرف التراثى فى هذه المفارقة التصويرية هى "طوفان نوح" وقد جرّد الشاعر أمل دنقل هذه الواقعة من بعض دلالاتها التاريخية وشحنها باٍيحاءات جديدة عبر توظيفها فى سياق معاصر، فالطوفان هنا جاء ليغرِق الوطن مهاد الصبا والحضارة والطرف الثانى المعاصر فى هذه المفارقة التصويرية هو الواقعة أو الحدث الذى يمثّل ردّ فعل النظام الحاكم وأعوانه والمستفيدون منه وناهبو خيراته تجاه مجئ الطوفان، ويحدث التناقض الصادم عندما يفرّ هؤلاء الجبناء نحو السفينة التى لم تكن شبيهة بسفينة نوح ولكنها وسيلة الجبناء للهروب من الوطن فى وقت الغرق، فالوطن بالنسبة لهؤلا ليس اٍلاّ مرتعا لأطماعهم ييبحثون فيه عن السلطة والنفوذ والمال بكل الطرق، بينما الشاعر مع شباب المدينة يلجمون جواد المياة الجموح / الطوفان وينقلون المياه على أكتافهم يبنون سدود من الحجارة، فى محاولة منهم لاٍنقاذ الوطن الذى أكلوا من خبزه فى أيام الرخاء كما قال الشاعر أمل دنقل فى رده على " سيد الفُلْك " قائد السفينة التى هرب فيها الحكّام وأعوانهم :

صاح بى سيدُ الفلْكِ ـ قبلَ

حلول السكينهْ

" انجُ.. من بلد لم تعد فيه روحْ "

قلتُ :

طوبى لمن طعموا خبزهُ

فى الزمان الحسنْ

وأدارو له الظهر يوم المحنْ

ولنا المجد نحن الذين وقفنا

( وقد طمس الله أسماءنا !)

نتحدى الدمارْ

(3) النبرة الدرامية وتوظيف تقنيات السينيما
قام الشاعر أمل دنقل باستثمار وتوظيف تقنيات السينما من سيناريو "مخطط الفيلم" وحوار وتصوير سينيمائى ومؤثرات بصرية وصوتية وحركية ومونتاج ليشكّل بلغتة الشعرية الواصفة المصوِّرة أيقونة/ صورة تمثيلية للعلاقات الدائمة التحوّل بين الذات والواقع والتاريخ والحلم والمستقبل فى العالم الذى تشير اٍليه القصيدة، كما فى قصيدة " صفحات من كتاب الشتاء والصيف " المقسّمة اٍلى ثلاثة أجزاء/ مقاطع شعرية كل مقطع بعنوان خاص يمكن أن يمثّل قصيدة بذاتها وفى نفس الوقت يتصل بالمقطعين الآخرين حيث قال أمل دنقل فى المقطع الأوّل الذى عنوانه "حمامة" :

حين سرت فى الشارع الضوضاء

واندفعت سيارة مجنونة السائق

تطلق صوت بوقها الزاعق

فى كبد الأشياء :

بدأ الشاعر أمل دنقل هنا بالمؤثرات الصوتية التى تشير اٍلى الضجيج والضوضاء المثيرة للفزع ثم انتقل بعد ذلك بعدسته الشعرية فى انتقاء والتقاط اللقطات التالية :

تفزّعت حمامة بيضاء

(كانت على تمثال نهضة مصر..

تحلم باسترخاءْ )

طارت، وحطّت فوق قبة النحاسْ

لاهثة : تلتقط الأنفاسْ

وفجأة : دندنت الساعة

ودقَّت الأجراسْ

فحلّقت فى الأفق.. مرتاعة !

فى رصده لتحرّكات وتنقلات الحمامة البيضاء التى ترمز للسلام والحلم من مكان اٍلى آخر انتقى الشاعر أمل دنقل اللقطات الموحية المؤثرة، وقام بترتيبها والربط بينها معتمدا على تقنية المونتاج السينيمائى لاٍبراز الدلالة الرمزية للأماكن والأشياء والأسماء، تمثال " نهضة مصر " الموجود فى ميدان " النهضة " الذى نحته الفنان محمود مختار فى شكل فلاّحة مصرية تقف بجوار أبى الهول، حيث كانت الحمامة البيضاء تحلم باسترخاء فوق تمثال نهضة مصر أصابتها الضوضاء الناجمة عن سيارة مجنونة السائق، فطارت وحطت فوق القبة النحاسية لجامعة القاهرة القريبة من ميدان نهضة مصر، وفجأة دندنت ساعة الجامعة ودقت الأجراس فأصيبت الحمامة البيضاء مرة أخرى بالفزع، وهنا يربط الشاعر أمل دنقل عبر المؤثر الصوتى / الضوضاء بين البوق الزاعق لسيارة مجنونة السائق تمرّ بجوار تمثال " نهضة مصر" وبين دقات ساعة وأجراس الجامعة / مكان العلم، ثم ينتقل الشاعر ويتابع بعدسته تحركّات الحمامة البيضاء وبعد أن كان يلتقط ويصوّر عن بعد يقترب من الحمامة وشاركها فى أحزنها مخاطبا اٍيّاها :

أيتها الحمامة التى استقرت

فوق رأس جسرْ

(وعندما أدار شرطى المرور يدهُ

ظنتهُ ناطورا.. يصدّ الطيرَ

فامتلأت رعبا )

يشير الشاعر أمل دنقل فى مخاطبته لتلك الحمامة أنه يعرف مكابداتها فى البحث عن مكان تحلم فيه باسترخاء وأنها يشاركها هذا الهم تمهيدا لأن يقترح نهاية تراجيدية يختتم بها مأساة هذه الحمامة البيضاء حيث قال :

أيتها الحمامة التعبى

دورى على قباب هذه المدينة الحزينة

وانشدى للموت فيها.. والأسى.. والذعر

حتى نرى عند قدوم الفجر

جناحك الملقى على قاعدة تمثال " نهضة مصر "

وتعرفين راحة السكينة

وهكذا تفقد الحمامة البيضاء التى ترمز للحلم جناحها فى هذه النهاية المقترحة ويراه الشاعر عند قدوم الفجر ملقى على تمثال " نهضة مصر "، وتضعنا هذه النهاية أمام سؤال هل سيصبح الجناح وسيلة الحلم نحو التحليق أثرا بعد عين وجزءا جديدا من تمثال " نهضة مصر " يشير اٍلى اٍن مصر فى زمن نهضتها كانت تمتلك جناح تحلّق به، أم يشير اٍلى رغبة تمثال " نهضة مصر " فى الهجرة و الرحيل عن هذا الواقع المعاصر الذى عاشه الشاعر أمل دنقل ؟!.

واٍلى جانب توظيف الشاعر أمل دنقل لتقنيات السينما فى بناء مشهد شعرى تمثيلى بلغة مصوّرة نرى فيه جغرافيا المكان وملامح وأصوات وحركة الشخوص والكائنات والأشياء فى العالم الذى تشير اٍليه القصيدة، فاٍن أمل دنقل استعان بتقنيات السينما فى تجسيد وتمثيل الهواجس والكوابيس التى تشير اٍلى نقل واخراج ما يتواجد ويدور دخل أعماق الذات اٍلى العالم الخارجى المحيط فيتحوّل الداخلى / الباطنى اٍلى معطى بصرى تمثيلى يشتبك بالعالم الخارجى كما فى قصيدة " كهل صغير السن " :

أعرف أن العالم فى قلبى قد ماتْ !

لكنى حين يكف المذياع وتنغلق الحجراتْ :

أنبش قلبى، أُخرج هذا الجسد الشمعىُّ

وأسجيهُ فوق سرير الآلام

أفتح فمهِ أسقيه نبيذ الرغبةْ

فلعل شعاع ينبض فى الأطراف الباردة الصلبهْ

لكن تتفتت بشرته فى كفّى

لا يتبقّى منه.. سوى : جمجمة.. وعظام !.

الهاجس المسيطر على الشاعر أمل دنقل فى هذا المشهد هو محاولة اٍحياء العالم الذى مات فى قلبه، وفى تمثيله لهذا المشهد بدأ بتصوير لقطة خارجية لحظة صمت المذياع وغَلْق الحجرات، وبسرعة خاطفة انتقلت عدسته الشعرية اٍلى الداخل ليعرض لنا حركته وهو ينبش قلبه ليخرج منه ذلك العالم الميت، ثم يركّز عدسته على صورة الجثة التى توحى بأن موت العالم فى قلب الشاعر له طبيعته الخاصة والتى تمثّل فى مسخ وتحولّ ذلك العالم اٍلى جسد شمعى/ تمثال بارد جاف متصلّب، وبعد أن صوّر الشاعر أمل دنقل حركة اٍخراج ما فى الداخل/ القلب اٍلى الخارج ينتقل بعدسته لمتابعة حركته وهو يفتح فم الجثة/ التمثال الشمعى، ويسجيه على سرير الآلام، ويسقيه نبيذ الرغبة فى الحياة لعل أطراف الباردة المتصلبة تنبض وتدّب فيها الحياة، لكن فى نهاية المحاولة تتفتت بشرة التمثال فى يد الشاعر، ولا يتبقى منها سوى جمجمة وعظام بقايا تمثال شمعى بلا ملامح.

الفصل الثالث: أمل دنقل الشاعر الذى أصبح مفارقة
بين الميلاد فى قرية القلعة بمحافظة قنا والرحيل اٍلى القبر من الغرفة "8" فى الدور السابع بالمعهد القومى للأورام ثلاثة وأربعون سنة هى عمر أمل دنقل، وسبعة دواوين شعرية هى كل اٍنتاجه اٍلى جانب بعض القصائد غير المنشورة، فى هذه الحياة القصيرة وبهذا العدد القليل من الدواوين أصبح أمل دنقل شاعرا عربيا كبيرا، وكما كانت المفارقة من أهم الأدوات التى استخدمها أمل دنقل فى صياغة أشعاره فاٍن أمل دنقل نفسه الشاعر والاٍنسان تحوّل اٍلى مفارقة فى أثناء حياته وبعد رحيله.

(1) البدايات الشعرية
أول قصيدة نشرت لأمل دنقل فى مجلة صوت الشرق سنة 1958م وكانت قصيدة مطوّلة بعنوان "راحلة" قال أمل دنقل فى بدابتها :ـ

أحقّا رحلتِ

اٍلى أين يا فتنتى الخالدةْ ؟

اٍلى أين.. يا زهرتى الناهدهْ ؟

اٍلى عالمِ زاخرِ بالضبابِ ؟

يلفّكِ فى عمقهِ الحالمِ ؟

فلا تسمعينَ أنينَ العتابِ ؟

و لا زفرةَ القلقِ الواجمِ ؟

أحقّا رحلتِ ؟!

أحقّا أفلتِ ؟!

وأول ديوان صدر لأمل دنقل هو "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة" وكان ذلك فى سنة 1969م وقد كان هذا الديوان لا يعبر عن البدايات الأولى بل قدم شاعرا ناضجا يمتلك حسّا شعريا مغايرا ووعيا جماليا فكريا بالذات وبالعالم ويمتلك أدواته الفنية التى صاغ بها تجربته الشعرية بعيدا عن التنميط، فقد ظهرت فى هذا الديوان الخصائص الفنية المؤسسة للهوية الجمالية الخاصة بشعرية أمل دنقل توظيف التراث والسرد الشعرى الحكائى الذى يؤطر القصيدة والمشهدية والمفارقات التصويرية وغيرها، وقد قام بانتقاء قصائد هذا الديوان من بين القصائد التى كتبها منذ سنة 1961م حتى 1968م وهكذا كان الديوان المطبوع الأول لأمل دنقل فى نضجه الفنى يمثل مفارقة وانحراف عن الطريقة المعتادة التى يقدم بها الشعراء أنفسهم فى ديوانهم الأوّل، وقد لفتت هذه المفارقة انتباه الدراسين لشعر أمل دنقل حيث قال د. سيد البحراوى «لا شك أن أمل دنقل الناضج قد شغل دارسيه عن معرفة مرحلة البدايات الشعرية لديه، تلك التى كانت الأساس الذى قام عليه النضج فيما بعد»2، وقال د. جابر عصفور عن بدايات أمل دنقل الشعرية إنه «قد ترك فى أوراقه المخطوطة مجموعة من قصائده الأولى، مثل قصيدة "لقاء" التى كتبها سنة 1956م وقصيدة "قبل الرحيل" سنة 1957م وقصيدة "قالت" سنة 1958م، وكلها قصائد كتبت فى مدينة قنا قبل أن يرتحل اٍلى القاهرة سنة 1957م بعد اٍكمال دراسته الثانوية، وهى قصائد أرجو أن ترى النور كى تكتمل صورة هذا الشاعر الكبير عند قُرّائه»3.

(2) حالات.. وتحوّلات شعرية
بعد أن أصدر أمل دنقل ديوانه "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة" الذى قدم فيه تجربة شعرية ناضجة ذات مذاق خاص وضعت أمل دنقل فى مكانة متقدمة بين الشعراء، أصدر أمل ديوانه الثانى "تعليق على ما حدث" سنة 1971م وقد نشر أمل دنقل فى هذا الديوان قليل من قصائد البدايات التى لم ينشرها فى ديوانه الأوّل وهى "الهجرة اٍلى الداخل"، وحكاية المدينة الفضية "، وقصيدة " رباب " وهى قصيدة رومانسية قال أمل دنقل فى المقطع الأول منها :ـ

جلستنا الأولى : وعيناكِ المليئتان بالفضول

تفتشين عن بداية الحديثِ،

وابتسامة خجولْ..

فى شفتيكِ العذبتينِ، وارتباكنا يطولْ..

فى لحظات الصمتِ والظماْ

نقرتْ فوق مسند المقعدِ قلت ما يقالُ عن رداءةِ الطقسِ

تسمرتْ عيناىّ فى استدارةِ الياقةْ

فى المعطف الجميلْ

وكان صوتُكِ المغنى يتحسس الطريقَ فى شرايينى،

ويمسح الصدأْ

ويختتم أمل دنقل هذا المقطع الشعرى الذى بدأ بتذكّر المحبوبة واللقاء الأول بينهما وتنامى قصة الحب، تلك القصة التى انتهت بفاجعة رومانسية تحول فيها الشاعر اٍلى ضحية تتناهبها الكآبة والأحزان حيث تتزوج " رباب " من شخص آخر يسميه أمل دنقل بالقرصان حيث قال :ـ

لكنى أشهدها ـ الليلة ـ تتكئ عليهِ

كما كانت تتكئ علىَّ !

يشبكُ فى اٍصبعها خاتمه الذهبىّ

وتمرّ على جبهتهِ

بأناملها الرخصة

......

هل تهجرنى الأحزانْ ؟

وأنا أشهد فاتنتى تستدفئُ...

فى أحضان القرصانْ ؟

وفى ديوانه الثالث "مقتل القمر" الصادر سنة 1974م نشر أمل دنقل قصائده الرومانسية بعضها من قصائد البدايات الشعرية التى كتبها قبل مجيئه للقاهرة سنة 1959م، ومنها قصائد تفعيلة كتبها بعد مجيئة للقاهرة ولم تنشر فى دواوينه السابقة، وأيضا فى هذا الديوان نشر أمل دنقل بعض القصائد العمودية التى لم ينشرها من قبل مثل قصيدة " طفلتها " التى كتبها أمل دنقل سنة 1962م رغم أنه فى تلك الفترة، قد استقر على كتابة قصيدة التفعيلة، وقد حصلت قصيدة " طفلتها " على جائزة المجلس الأعلى للثقافة والفنون وتناول أمل دنقل فى هذه القصيدة عبر السرد الشعرى والموسيقى المتمثلة فى وزن بحر الرمل " فاعلاتن " وحرف الروى الساكن واقعة رؤيته لحبيبته التى فارقها منذ خمس سنوات وهى تسير فى الشارع مع طفلتها/ ابنتها حيث قال موجها خطابه اٍلى تلك الطفلة :ـ

لا تفرّى من يدى مختبئهْ خبت النارُ بجوف المدفأهْ

أنا لو تدرين من كنتِ له طفلةُ لولا زمانُُ فَجَأهْ

كان فى كفّىَّ ما ضيعتهُ من وعود الكلمات المرجأهْ

كانَ فى جنبى ولم أدر به أو يدرى البحر قدر اللؤلؤهْ

اٍنما عمركِ عمرُُ ضائعُ من شبابى فى الدروب المخطئهْ

كلما فزتُ بعام خَسِرَتْ مهجتى عاما وألقَتْ صدِأهْ

ويبدو أن أمل دنقل بعد أكّد على أنه شاعر الرفض الواقعى الذى يعالج القضايا السياسية والاٍجتماعية بمنظوره الخاص فى دواوينه السابقة، قد انتابه الحنين للبدايات وللرومانسية فى هذه القصائد وأراد أن يُظهر الجانب الرومانسى من شعره بوضوح دون أن يؤثر ذلك على تواجده فى الساحة الأدبية مرتبطا بشعرية الرفض السياسى، واٍن كان تحوّل أمل دنقل اٍلى كتابة قصيدة التفعيلة بعد أن جاء اٍلى القاهرة فى المرّة الأولى سنة 1959م هو الخطوة الأولى نحو تأسيس مشروعه الشعرى الشديد الخصوصية والثراء، فاٍن القصيدة العمودية والحس الرومانسى يمثلان حالة شعرية انتابت أمل دنقل فى بعض الأحيان والتى ظهرت بشكل واضح فى ديوانه الثالث " مقتل القمر "، ولم تكن الرومانسية بالنسبة للشاعر أمل دنقل مجرد استراحة شعرية يزورها ويقيم فيها قليل من الوقت على فترات زمنية متباعدة ولكنها كانت ظلا لونيا فى خلفية أيقونة الشعرية أيقونة الرفض والمفارقة،، فلم تكن هذه الرومانسية تخلو من الرفض واٍن كان رفضا رومانسيا لقسوة الحياة فى المدينة يتمثل فى الحنين اٍلى الفطرة والاشتباك بمفردات وعناصر الطبيعة التى تتماثل فى برائتها مع براءة الشاعر، وكما كانت قصائد أمل دنقل الرومانسية لا تخلو من الرفض، فاٍنه اتكأ فى صياغتها وعرضها للمتلقى المفارقة التصويرية واستدعاء الرموز التراثية والنبرة الدرامية والسرد الشعرى الحكائى القائم على الرواى والمروى له والزمان والمكان والشخصيات وبؤرة الحدث، وهذه التقنيات من اللوازم والمرتكزات الشعرية التى اشتهر بها أمل دنقل كما أشرت سابقا فى صياغة وعرض تجربته الشعرية كما فى قصيدة " مقتل القمر " التى كتبها سنة 1960م :

... وتناقلوا الخبر الأليمِ

على بريد الشمس فى كل المدينهْ :








































































































































































































































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow