أنـــــا ضدُّ مـــــــن ؟
خاص ألف
2014-12-27
أرهق البلاد أم ترهقني .
عبث الموت الملاصق لدمنا .
الدروب المسدودة بالدمع والعسكر .
أفقٌ و موسيقى مسودّة لقلبٍ يراوح في المكان .
أطيافُ مسافرين آخر وصاياهم : (ما بنعرف شو بيصير معنا ، ادعولنا ) .
× × ×
ترهقني هذي البلاد .
الرخيّة العجفاء ، الوديعة الكسولة ، الخضراء الباهتة ، النزقة الخجول ،
القويّة الرخوة .
× × ×
- وكاسة مي بالشام ، بتسوى الدنيا ومافيها.
البلاد التي تقيم في دم أهلها ، كلّما شربوا نخب الغربة همّوا برفع كأسها وصاحوا .
× × ×
ترهقني البلاد ..
الفاقدة ذاكرة الشجر ، أم القمح القاسي ، أم الزيتون و التين .
بلادٌ حضنُها الفرات ، رئتُها جبل سنجار، حيث يتنهّد العاشق فيعتّب :
(عنّيت ، من عنتي جبل سنجار هدّيتو
يا اهل القبور اقعدن كل من بنى بيتو) .
× × ×
ترهقني ..
البلاد المثخنة بدم الصبايا العاشقات ، التائهات تيه غنجٍ يحرق قلب العاشق .
ربيبات دلال الشغف الصبّ بين عنب الدروز و خمر النصارى .
المعلنات أنّا بنات عشتار ، وأن عسل عيونهن لسورية نذرٌ.
سورية أمّ القدس ، أمّ العبق الحار القادم من سيناء ، أمّ الهوى النجديّ .
دروبها مطيّة الشاعر المتلهف :
( حلبٌ قصدنا وأنت السبيل .. ) .
× × ×
البلاد الصغيرة الكبيرة ، ترهقني ، العاشقة المطر ، حين تمرّ في هبوبها غيمة ، تتقمّص يدا الفلاح القديم روح الحنطة إذ يناجي ربّه أن يبعث الخير .
البلاد الغيمة ،طاف السوريون ، فذهل الكون
السوريون مطر ، تشربهم الأرض إن سالوا دماء .
السوريون غربة ، تراهم الأعين إن كانوا جثثاً غرقى على شواطئ وجع العالم .
السوريّون فلسطين ، خرزةً زرقاء في زنّار مريم .
السوريّون بولس الرسول يكنّس بأطراف عباءته أرصفة القشلة .
أنفها كبرج لبنان الناظر صوب دمشق ... حبيبة السوريّ.
× × ×
أرهقها بروحي لهذي البلاد .
بلادٌ مدّت السجادة الحمراء من ضفاف دجلة إلى شاطئ الأطلسي ، تستقدم الزمن .
ذاك النفير إلى الدنيا: أن انتفضي .
هذي البلاد أسكنت الله الأندلس ، سيهتف ابنها هناك على أدراج غرناطة:
(ياويلاه أنا هنا ، كأني هناك ، وأمرّ باسمك إذا أخلو ..... كما يمرّ دمشقيٌ بأندلس )
مرهقةٌ ومربكة هذي البلاد القابضة على سيف يزيد ، الحانية على رأس الحسين .
× × ×
ترهقني البلاد .
يبابها يحمل بذرة الأخضر ، تركّب النسغ وتبثه تعباً .
تصيح المرأة بالجندي الذي سخر من ابنها الصغير الملفوف ببطانية عسكرية :
(الزلمة مات والصبي معتقلينو، أنا إما بشحد أو بشرمـط) .
يسدّ لها الجندي فمها برصاصة تخرمش خدّ الهواء ،
يوقف إشارة المرور ، ويُسمح بمرور الشحّاذين فقط.
الجندي يشير للمرأة أن تخرج بسرعة من مرمى طلقته .
× × ×
ترهقني البلاد ، لمّا تصير حقيبة سفر وذكريات .
وأرهقها لمّا لا أجد ما أضعه في الحقيبة .
هذي البلاد في قلب أبنائها ، تقول للمسافر المتوثب :
- روح وين مابدّك مرجوعك لحضني .
يكابر الولد : بدي عيش .
يغلق باب الدار ثم يفتحه من جديد ، يرش شجرة النارنج القديمة بدلوٍ أخيرٍ من ماء الفيجة الحلو ،يترك حقيبته قرب الشجرة ويخرج.
× × ×
ترهقني لمّا ترسل إليّ هذه البلد من سماء خفيّة ، نبوّة صبيةٍ من حمص ، تهتف في مظاهرة الخالدية : يامحمد يابن عمي ، دمك متل دمي ، الله يكون بعون إمك وإمي .
× × ×
ترهقني البلاد بدموع صبية ، تسمع فيروز صباحا ،والقرآن مساءا .
يُعتصر رحمها إذ يذوي حلمها مع عريسها الذي مات، مات وهي تدري أنه لا يدري لماذا مات .
هربت من بيت العزاء، هربت إلى لا مكان ، تلهج روحها: الخاكيّ أعمى عيوني .
عادت إلى البيت ،لم تجد أحداً إلا مِزَقاً من علم وخاتماً محبسا من ذهب فقير، وعشرين ألف ليرة ، هدية القائد.
× × ×
ترهقني البلاد لمّا تحطّ على سور الأمويّ حمامات حزينات .
و تصهل الخيل في صحن الجامع وهي تنظر صوب الشرق : أمويون فإن تهت بهم ...
تهتِ بمن يا دنيا ؟
لا أملك إلاه وجعي أتباهى به ، وأنتِ
ولا مرة ً كنتِ كهذه المرة عاجزة عن لمسِ جراحي.
× × ×
ترهقني البلاد بالصور العملاقة ، الفارغة الكئيبة، لوجوه بلهاء ضاحكة ، لا تعي أن الدنيا لا تعيش بلا أمها .
لم يكن ليافا برتقالها إلا بعد أن أعطى تاجرٌ دمشقيٌ رأيه بنكهته .
و طريق الحرير يصير طريق أغنيات وبوح عشق بين باب المصلّى و باب شرقي .
الفاكهاني في المزّة هكذا صاح : درّاق من مالك يا إم الدنيا .
× × ×
أرهق البلاد على طريقتك يا معلّم
جبّتك ياشيخَ سفح قاسيون .
يا ابن عربي خذني في الجبّة ، هذي البلاد ترهقني ، وأنا مثلك ياشيخُ مرهقٌ حدّ الإرتياب:
فكان يحجبه عنّي وعن صفتي غيمُ العمى وأنا في الغيب مخزونُ.
× × ×
هذي بلادٌ تعشقها الأبواب .
مرهقٌ صرير الزمن في مفاصل أبوابها .
وأنا .. ترهقني بثقل أقفالها وخفّة مفاتيحها .
بعبث طرطشة شظايا الماء في نبع بردى على ساق صبيّة .
أرهقها بخلط الماء الزّلال بالعرق ، فتصيبني رعشة الياسمين :
- ليتها عيّرت بما هو عار
أرهقها بالوجد فتشدّني من أذني : لم لا تغني الشعر من أول القصيدة ؟
× × ×
جهاتها ضيّعت جهاتي .
خلّتني أدور حول نفسي .
نفسي قلبها ، قلبها متعب ، وهي لا تني تمزّق بساديّة ، نفسي - قلبها .
أنثني على كبدي لمداراة وجعها فيّ .
تمسد هذي البلاد شعري بعذوبة أمٍّ ريفية وتهمس :
نم في حضني .
تخبز لي فطائر أحلامي .
تضع في جيبي صرّة الملبس واللوز المحلّى بالسكر كبيض الحمام .
تمرر كفّها النديّة على عنقي .
وفي لحظة أثمل فيها بها ، أنتشي برائحة أصابعها .
في تلك اللحظة أفزع من صوتها ، إذ ترفعني نحو السماء
وتهتف: اقتلوا هذا الولد العاق .
إبــــــــــــراهيم شــــــــاهين
كانون الأول/ 2014
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |